عبر البث المباشر، يتابع العالم الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني في قطاع غزة، ويُحصي عدد الشهداء الذي تجاوز الـ 21 ألفاً، 75 في المئة منهم من الاطفال والنساء، فيما يزيد عدد المفقودين تحت الانقاض على 7 آلاف، وفي ظل حصار مطبق يفرضه العدو. ازاء هذه الكارثة المرعبة، ما هي التزامات الدول والمجتمع الدولي؟ تنص اتفاقية منع الابادة الجماعية والمعاقبة عليها، في مادتها الاولى، على أنه «تصادق الدول الأطراف المتعاقدة على أن الابادة الجماعية، سواء ارتكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب، هي جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها». فكيف تتعهد الدول بمنع جريمة الابادة؟ وما هي التدابير المطلوب اتخاذها؟
علّقت محكمة العدل الدولية على نص هذه المادة، في فتوى اصدرتها في 28 أيار 1951، بأن المادة الاولى من الاتفاقية تنص على إلتزامين مستقلين، هما الالتزام بالمنع والالتزام بالمعاقبة. ورغم وجود صلة واضحة بين الالتزامين، إلا أنهما يختلفان عن بعضهما بعضاً. وفي سلسلة من الاحكام الصادرة عنها، في 13 أيلول 1993 و26 شباط 2007 في قضية البوسنة ضد صربيا، أوضحت المحكمة أن التزام الدول بمنع الجريمة يتمثل في استخدام كل الوسائل المتاحة لها بشكل معقول لمنع الابادة قدر الإمكان، ولا تتحمل الدولة المسؤولية لمجرد عدم تحقيق النتيجة المرجوة ، بينما تتحمل الدول المسؤولية إذا فشلت بشكل واضح في اتخاذ جميع التدابير لمنع الابادة التي كانت في نطاق سلطتها، والتي كان من الممكن أن تساهم في منع وقوع الجريمة. فهو التزام بواجب بذل العناية وليس بتحقيق نتيجة. وأوضحت المحكمة أن الالتزام بمنع جريمة الابادة لا يقتصر على اقليم معين، بل أن كل دولة طرف ملزمة بمنع الابادة داخل اقليمها أو خارجها. وبناء عليه، يقع على عاتق كل دولة واجب منع حدوث الابادة الجماعية على أراضيها وفي أي دولة أخرى، وهي المرة الأولى التي تؤكد فيها المحكمة على هذا الالتزام المستقل لكل دولة من الدول التي عليها اتباع السلوك الدؤوب لمنع الابادة وفقا للمادة الاولى من الاتفاقية.

كيف يمكن تحديد ما إذا كانت دولة ما قد فشلت في منع الابادة؟
وفقا لمحكمة العدل الدولية، يتم اعتماد عدد من المعايير لدى تقييم ما إذا كانت الدول قد اضطلعت بفعالية بمسؤوليتها عن منع الابادة أم لا. العامل الحاسم هو قدرة الدولة المعنية على التأثير على عمل الأشخاص المعنيين (مرتكبي الاعمال المحظورة). ويتضمن تقييم هذه القدرة العناصر التالية: المسافة الجغرافية للدولة المعنية عن مسرح الاحداث، قوة الروابط السياسية وغيرها بين الدولة والجهات الفاعلة الرئيسة في الاحداث، الموقف القانوني للدولة المعنية ازاء الأحداث والأشخاص الذين يواجهون خطر الابادة، مستوى وعي الدولة وعلمها بقرب وقوع الجريمة.
أما عن طبيعة الاجراءات الواجب اتخاذها لمنع جريمة الابادة، فتنص المادة الثامنة من الاتفاقية على أنه «لأي من الاطراف المتعاقدة أن يطلب إلى أجهزة الأمم المتحدة المختصة أن تتخذ طبقا لميثاق الامم المتحدة ما تراه مناسبا من التدابير لمنع وقمع أفعال الإبادة أو أي من أفعال الابادة المذكورة في المادة الثالثة». ولم تحدد الاتفاقية ماهية تلك الاجراءات تاركة للدولة / الدول حرية اتخاذ الاجراءات التي تراها مناسبة وفقا لقدرتها الذاتية. فما هو مطلوب، وفقا للاتفاقية، اتخاذ سلوك فعلي لمنع الابادة باستخدام الوسائل المعقولة المتاحة للدولة، من بينها الدعوة إلى وقف اطلاق النار الفوري وغير المشروط، اتخاذ خطوات لرفع الحصار ومنع التهجير، وقف المساعدات العسكرية بما في ذلك مبيعات الاسلحة التي من شأنها تمكين أو تسهيل الابادة، دعوة الاجهزة الدولية المختصة في الامم المتحدة إلى اتخاذ خطوات عاجلة لوقف انتهاكات حقوق الانسان، كقطع العلاقات الدبلوماسية ووقف الاستثمارات الاقتصادية والاتفاقيات التجارية مع الجانب المعتدي. من هنا تأتي أهمية معيار قدرة الدولة على التأثير على مرتكبي الابادة، إذ أنه معيار ذاتي يختلف من دولة إلى اخرى. كما رفضت المحكمة فكرة أن الالتزام بمنع الابادة لا ينشأ إلا عندما تبدأ الابادة، لأن ذلك سيكون بلا جدوى. فالالتزام هو منع وقوع الجريمة أو منع محاولة ارتكابها. والدولة تكون قد انتهكت واجبها بمنع الابادة إذا فشلت في اتخاذ تدابير مناسبة، لذا فإن وقوع الابادة فعلياً ليس عاملا قانونيا لتفعيل واجب المنع. وتقاعس الدولة عن التصرف قد يرقى إلى مستوى الفعل غير المشروع دولياً يستدعي المسؤولية الدولية للدولة المعنية التي قررت التزام الصمت وعدم التحرك. ذلك أن واجب المنع يضع الدول تحت التزامات ايجابية، وهي بذل قصارى جهدها لضمان عدم حدوث هذه الافعال. وواجب المنع هو واجب يقع على عاتق كل دولة على حدة، وهو التزام يتجاوز الحدود الاقليمية.
وبناء عليه، فإن جميع الدول الاطراف في اتفاقية منع جريمة الابادة والمعاقبة عليها والتي لها تأثير على اسرائيل، عليها واجب راسخ لمنع ارتكاب الابادة في غزة. ووفقا لمحكمة العدل الدولية، فإن الدولة المتقاعسة ستتحمل مسؤولية دولية اذا كانت على علم أو كان ينبغي أن تكون على علم بالخطر الجسيم الذي يمكن أن ترتكبه اسرائيل، ومع ذلك لم تحرك ساكناً.

تحذيرات دولية من تعرض غزة لابادة
في 16 تشرين الثاني 2023، أكد الخبراء القانونيون في الأمم المتحدة أن الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها اسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة تشير إلى حدوث ابادة جماعية. وأوضحوا أن الأدلة على ذلك متوافرة من خلال تزايد التحريض على الابادة والنية العلنية لتدمير الشعب الفلسطيني والدعوات الصاخبة لإنزال نكبة ثانية بالفلسطينيين واستخدام اسلحة قوية ذات آثار عشوائية والعدد الهائل من القتلى وتدمير البنى التحتية على نحو يجعل الحياة صعبة ومستحيلة. كل ذلك جعل الخبراء الامميين يدقون ناقوس الخطر بأن ما يحدث هو ابادة جماعية. واتهم كريغ مخيبر، المدير السابق لمكتب نيويورك للمفوضية السامية لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة (استقال من منصبه احتجاجا على صمت المجتمع الدولي)، الولايات المتحدة والدول الغربية بأنها منخرطة في الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، عبر توفير كل الدعم اللازم لها في حربها، واصفاً ما يحصل ضد الفلسطينيين بأنه يرقى «للإبادة الجماعية»، وأن ما يحدث في غزة هو أكثر حالة إبادة جماعية واضحة، تنطبق عليها ما حددته اتفاقية الأمم المتحدة بشأن ماهية الإبادة الجماعية.
تحذير آخر صدر عن المقررة الدولية الخاصة لحقوق الانسان في الاراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيز التي قالت إن «ما تفعله اسرائيل بالفلسطينيين في غزة هو وحشية القرن، والصمت الغربي يتحول إلى تواطؤ». كذلك صدرت تحذيرات من منظمات غير حكومية كمنظمة القانون من أجل فلسطين (مسجلة في المملكة المتحدة والسويد) التي ارسلت رسائل عاجلة إلى وزراء خارجية الدنمارك وفرنسا والمملكة المتحدة واستراليا وكندا وألمانيا وايطاليا وهولندا والسويد تحذر كلاً من هذه الدول على حدة من التواطؤ في الابادة الجماعية في غزة، والمسؤولية الفردية الجنائية، وتنبههم إلى العواقب القانونية المحتملة للتواطؤ في جريمة الابادة التي ترتكبها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وتدعو هذه الدول إلى الوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الابادة والمعاقبة عليها، ووقف كل دعم لاسرائيل قد يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في استمرار الابادة الجارية وضرورة ادانتها بما يتوافق مع التزاماتها الدولية.
كذلك حذّر محامون اميركيون بأن الولايات المتحدة، بمساعدتها العسكرية المستمرة لاسرائيل، تعمل على تمكين ودعم أخطر جريمة في القانون الدولي مما يجعلها متواطئة. منظمة «هيومن رايتس واتش» أصدرت رسالة إلى الاتحاد الاوروبي تستوضح فيها موقفه مما يجري في غزة، وجاء في مضمونها أن الاتحاد التزم الصمت حول ما يحدث في غزة ولم يتخذ اي اجراء حيال الاعمال العدائية ضد الفلسطينيين، وأن الانقسامات داخل الاتحاد حيال ما يجري في غزة كُشف عنها أثناء التصويت على قرار الجمعية العامة المتعلق بوقف الاعمال العدائية في غزة وهو ما جعل من المستحيل على الاتحاد تأمين الاجماع اللازم لتبني أي تدبير ملموس للتصدي للانتهاكات الممنهجة الاسرائيلية. وانتقدت المنظمة موقف الاتحاد الاوروبي بعد هجمات 7 اكتوبر، إذ جاءت البيانات الاولية الصادرة عن ممثليه الرسميين مثل رئيسة المفوضية الاوروبية اورسولا فون دييرلاين ورئيسة البرلمان الاوروبي روبرتا ميتسولا لتعبّر عن الدعم القاطع للحكومة الاسرائيلية للتحرك عسكريا في اعقاب هجمات 7 اكتوبر، وخلت من أي طلب بضرورة الامتثال للقانون الدولي الانساني.
تقاعس الدولة قد يرقى إلى مستوى الفعل غير المشروع دولياً يستدعي المسؤولية للدولة التي قررت التزام الصمت وعدم التحرك


تراكم التحذيرات الصادرة من خبراء القانون في الامم المتحدة والمنظمات الحقوقية غير الحكومية حقق بلا شك عتبة المعيار القائم على معرفة ما يجري في غزة. فأصبح لدى كل دولة علم بما يجري في غزة ويستوجب منها التحرك . وعدم اتخاذ أي تدابير، يفسح المجال لتقديم دعوى ضد الدول المتقاعسة بسبب فشلها في منع الابادة الجماعية أو محاولة منع الابادة رغم تحقق كل الدلائل المادية على ارتكاب الافعال المحظورة في الاتفاقية.
الالتزام بمنع الابادة ينشأ خلال استعداد مرتكبيها لتنفيذها وليس بعد الشروع بالجريمة عملياً، لأن فحوى الالتزام يتطلب التحرك للمنع خلال عملية التحضير لارتكاب الجريمة، وواجب التصرف ينشأ في اللحظة التي تعلم فيها الدولة أو كان ينبغي لها عادة أن تعلم بوجود خطر جدي بارتكاب الابادة الجماعية، ومن تلك اللحظة فصاعدا اذا توافرت للدولة وسائل رادعة ضد المشتبه به، فإن من واجبها استخدام هذه الوسائل.
التدابير التي يفترض أن يضطلع بها مجلس الأمن لم تتخذ إلى يومنا هذا، والسبب هو الفيتو الاميركي. ولكن بإمكان الجمعية العامة أن تقوم بهذا الدور كما صدر عنها قراران لوقف اطلاق النار الفوري، على المجموعة العربية والاسلامية وغيرها من الدول المؤيدة للشعب الفلسطيني أن تطلب جلسة طارئة لاصدار قرار لا يطالب فقط بوقف فوري لاطلاق النار، بل باتخاذ اجراءات ضد الكيان الصهيوني لثنيه عن الاستمرار في عملياته الاجرامية ومنع حدوث كوارث انسانية اضافية.
كذلك، للدول أيضا أن تطبق المادة التاسعة من الاتفاقية والتي تنص على اختصاص محكمة العدل الدولية للنظر في النزاعات المتعلقة بشأن تفسير أو تطبيق الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتمثلة بمسؤولية دولة ما عن ابادة جماعية أو عن أي من الافعال الاخرى المذكورة فيها. وسبق للاتحاد الأوروبي ومعه المملكة المتحدة وكندا ونيوزلندا، أن طبقت هذه المادة عندما انضمت هذه الدول مجتمعة إلى الدعوى التي قدمتها اوكرانيا أمام محكمة العدل الدولية ضد روسيا في 29 شباط 2022 بتهمة انتهاك اتفاقية منع جريمة الابادة . تُرى من سينضم إلى الدعوى التي رفعتها جنوب افريقيا ضد اسرائيل بموجب المادة التاسعة ذاتها؟ فهل من مناصر؟