تتضمن الدعوى المقامة من قبل جنوب افريقيا ضد اسرائيل أمام محكمة العدل الدولية طلبا مستعجلا وهو اتخاذ تدابير مؤقتة من اجل الحفاظ على الحقوق المحمية في اتفاقية منع الابادة والمعاقبة عليها . فما المقصود أولا بالتدابير المؤقتة؟ تنص المادة 41 من النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية على التالي" 1-للمحكمة أن تقرر التدابير المؤقتة التي يجب اتخاذها لحفظ حق كل من الاطراف وذلك متى رأت أن الظروف تقتضي بذلك. 2- إلى أن يصدر الحكم النهائي، يبلغ فورا أطراف الدعوى ومجلس الأمن نبأ التدابير التي يُرى اتخاذها ". نظرًا للمدة التي تستغرقها الإجراءات القانونية وبطء وتيرتها، يجوز لمحكمة العدل الدولية ، عندما تستوجب ذلك طبيعة الدعوى، اتخاذ قرار بفرض تدابير احتياطية على أيٍ من أطراف الدعوى ،والشيء الذي يتعرض للخطر هنا حماية حقوق أيٍ من الأطراف ومنع أفعال خطيرة لا رجعة فيها يجري ارتكابها أثناء الفترة التي يتطلبها التحقيق في حيثيات القضية. وتعتبر هذه التدابير، دون المساس بالقرار النهائي، إلزامية بطبيعتها. ويشكل عدم احترام هذه التدابير الاحتياطية إخلالًا بالالتزامات الدولية للدول المعنية وتترتب عليه مسؤولية قانونية. والهدف من التدابير المؤقتة هو توفير الحماية الفورية للأفراد إذا كانت حقوقهم بموجب اتفاقية تعتبر معرّضة لخطر وشيك للمعاناة ولضرر لايمكن اصلاحه، وحماية وسائل الاثبات في النزاع ومنع تفاقمه إلى حين الفصل فيه. ويمكن للمحكمة أن تقضي بتدابير تحفظية أو مؤقتة بناء على أحد الاطراف، أو بمبادرة منها إذا رأت أن الحقوق التي تشكل موضوع الحكم الذي ستصدره فيما بعد مهددة بخطر مباشر . والتدابير التحفظية أو المؤقتة تهدف عموما إلى تجميد الوضع ريثما تصدر المحكمة حكمها النهائي في الدعوى . وقرار التدبير المؤقت يأخذ شكل أمر يُتلى في جلسة علنية خلال فترة زمنية تتراوح ما بين يوم واحد إلى أربعة اسابيع. أما خصائص التدابير المؤقتة فيمكن تلخيصها على أنها مجرد اجراءات تمهيدية تسبق عادة اجراءات الفصل النهائي في الدعوى، وتهدف إلى إيجاد أفضل الظروف لحل النزاع من الناحية الموضوعية. وتعتبر التدابير المؤقتة اجراءات غير نهائية ترتب آثارها في الفترة السابقة لصدور الحكم النهائي في الدعوى، لذلك يمكن للمحكمة أن تقوم بإلغائها أو تعديلها في أي وقت إذا تغيرت الظروف التي بررت وجودها. وفي جميع الاحوال فإن التدابير المؤقتة تسقط بمجرد الفصل في النزاع أو تسويته. فالاجراءات التحفظية ينبثق عنها حماية مؤقتة تستنفذ دورها بمجرد صدور الحكم القضائي . كما أن من أهم خصائصها، أن التدابير المؤقتة تتميز بطابع الاستعجال نظرا لأن الانتظار إلى حين صدور الحكم النهائي في الدعوى أي في موضوع الحق يجعل حماية هذا الأخير عديمة الجدوى فالهدف هو حماية الحق منعا من تلاشيه أو تبديده . وما يميز هذه التدابير أنها تهدف ليس فقط إلى حماية الحقوق والحفاظ على الأدلة ومنع تفاقم النزاع بل أيضا تهدف إلى ضمان تنفيذ الحكم النهائي عند صدوره .
القيمة القانونية للتدابير المؤقتة
ثار خلاف حول القيمة القانونية للتدابير الاحترازية الصادرة عن محكمة العدل الدولية فيرى البعض أن المادة 94 في فقرتها الاولى من ميثاق الامم المتحدة والتي تنص على أن يتعهد كل عضو من أعضاء الأمم المتحدة أن يطبق حكم محكمة العدل الدولية في أية قضية يكون طرفا فيها . فهذا الفريق يرى أن التدابير المؤقتة لاتدخل في نطاق هذه المادة وبالتالي هي غير ملزمة. لكن ثمة فريق آخر يرى أن كل ما يصدر عن محكمة العدل الدولية من قرارات وأحكام هي ملزمة خصوصا وأن المادة المذكورة في ترجمتها باللغة الفرنسية تستعمل مصطلح "قرار" وهو مصطلح أوسع وأشمل من مصطلح حكم . والثابت في الممارسة أن الأمر الصادر بتطبيق التدابير المؤقتة هو ملزم حاله كحال الاحكام القضائية.
أما فيما يتعلق بتنفيذ قرار التدبير المؤقت فإن المحكمة بمجرد صدوره، تخطر مجلس الأمن بشأن الاجراءات الاحترازية . وفقا للمادة 41 في فقرتها الثانية الموضحة اعلاه. التي لم تحدد الصلاحيات المتعلقة بمجلس الأمن في هذه الحالة . ويُستنتج من ذلك أن لمجلس الأمن السلطة التقديرية في اختيار الاجراءات المناسبة لتنفيذ التدابير المؤقتة. على أنه قد يلجأ صاحب المصلحة في تنفيذها إلى مجلس الأمن للمطالبة باصدار قرار يضمن تنفيذها .

جنوب افريقيا تطلب التدابير المؤقتة لحماية الفلسطينيين
قدمت جنوب أفريقيا طلبا لإقامة دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، بشأن انتهاكات مزعومة من جانب إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها فيما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة. ووفقا للطلب، فإن أفعال اسرائيل هي إبادة جماعية في طبيعتها ، لأنها ترتكب بنية محددة مطلوبة. . . تدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من المجموعة الفلسطينية القومية والعرقية والإثنية الأوسع وأن "سلوك إسرائيل - من خلال أجهزة الدولة ووكلاء الدولة وغيرهم من الأشخاص والكيانات الذين يتصرفون بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها - فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة، ينتهك التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية". و أن "إسرائيل، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 على وجه الخصوص، فشلت في منع الإبادة الجماعية وفشلت في مقاضاة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية" وانها شاركت في أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة وتشارك فيها وتخاطر بالانخراط فيها .
ويتضمن الطلب أيضا اتخاذ تدابير مؤقتة، عملا بالمادة 41 من النظام الأساسي للمحكمة . وتطلب جنوب أفريقيا من المحكمة أن تتتخذ تدابير مؤقتة من أجل "الحماية من إلحاق المزيد من الضرر الشديد الذي لا يمكن إصلاحه بحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية" و "ضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم الانخراط في الإبادة الجماعية، ومنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها". يتعلق هذا الطلب بالأعمال التي هددت بها حكومة وجيش إسرائيل وتبنتها وتغاضت عنها واتخذتها وتتخذها ضد الشعب الفلسطيني، وهو مجموعة قومية وعرقية وإثنية متميزة، في أعقاب الهجمات التي وقعت في 7 أكتوبر 2023. "وتدين جنوب أفريقيا إدانة قاطعة جميع انتهاكات القانون الدولي من جانب جميع الأطراف، بما في ذلك الاستهداف المباشر للمدنيين الإسرائيليين وغيرهم من المواطنين وأخذ الرهائن من جانب حماس وغيرها من الجماعات الفلسطينية المسلحة" حسب ما جاء في المذكرة ولكن جنوب افريقيا ترى أنه لا يمكن لأي هجوم مسلح على إقليم دولة ما مهما كانت خطورته - حتى لو كان هجوما ينطوي على جرائم فظيعة - أن يوفر أي مبرر ممكن أو دفاع عن انتهاكات اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها سواء من حيث القانون أو الأخلاق. و اعتبرت جنوب افريقيا أن أفعال إسرائيل هي إبادة جماعية في طابعها وتشمل هذه الأفعال قتل فلسطينيين في غزة، وإلحاق أضرار جسدية وعقلية جسيمة بهم، والتسبب في ظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم جسديا. وتعزى جميع هذه الأفعال إلى إسرائيل، التي فشلت في منع الإبادة الجماعية وترتكب الإبادة الجماعية في انتهاك واضح لاتفاقية الإبادة الجماعية، والتي انتهكت أيضا ولا تزال تنتهك التزاماتها الأساسية الأخرى بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، بما في ذلك عدم منع أو معاقبة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية من جانب كبار المسؤولين الإسرائيليين وغيرهم.
إن الحقائق التي استندت إليها جنوب أفريقيا في هذا الطلب والتي سيتم تطويرها في هذه الإجراءات تثبت أنه - على خلفية الفصل العنصري والطرد والتطهير العرقي والضم والاحتلال والتمييز والإنكار المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير - أن اسرائيل قد فشلت منذ 7 أكتوبر 2023 ، على وجه الخصوص ، في منع الإبادة الجماعية وفشلت في مقاضاة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية. والأخطر من ذلك أن إسرائيل قد انخرطت في أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، فالبيانات المتكررة التي يدلي بها ممثلو الدولة الإسرائيلية، على أعلى المستويات، كالرئيس الإسرائيلي ورئيس الوزراء ووزير الدفاع تعبر عن نية الإبادة الجماعية. ومن الصحيح أيضا استنتاج تلك النية من طبيعة وسير العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة، مع الأخذ في الاعتبار، في جملة أمور، فشل إسرائيل في توفير أو ضمان الغذاء والماء والدواء والوقود والمأوى وغير ذلك من المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني المحاصر ، مما دفعه إلى حافة المجاعة. ويتضح أيضا من طبيعة ونطاق ومدى الهجمات العسكرية الإسرائيلية على غزة، والتي شملت القصف المستمر على مدى أكثر من 11 أسبوعا لواحدة (منذ تقديم الدعوى) من أكثر الأماكن اكتظاظا بالسكان في العالم، مما أجبر 1.9 مليون شخص أو 85٪ من سكان غزة على إجلائهم من منازلهم واقتيادهم إلى مناطق أصغر من أي وقت مضى. دون مأوى ملائم ، حيث لا يزالون يتعرضون للهجوم والقتل والأذى. وقد قتلت إسرائيل حتى الآن أكثر من 21,110 فلسطيني ، من بينهم أكثر من 7,729 طفلا (وصل العدد إلى 10 الاف طفل) – مع أكثر من 7,780 آخرين في عداد المفقودين، ويفترض أنهم ماتوا تحت الأنقاض – وأصابت أكثر من 55,243 فلسطينيا آخرين، مما تسبب لهم في أضرار جسدية وعقلية شديدة. كما دمرت إسرائيل مناطق شاسعة من غزة، بما في ذلك أحياء بأكملها، وألحقت أضرارا أو دمرت أكثر من 355,000 منزل فلسطيني، إلى جانب مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والمخابز والمدارس والجامعات والشركات وأماكن العبادة والمقابر والمواقع الثقافية والأثرية ومباني البلدية والمحاكم والبنية التحتية الحيوية، بما في ذلك مرافق المياه والصرف الصحي وشبكات الكهرباء. بينما يواصلون هجوما لا هوادة فيه على النظام الطبي والرعاية الصحية الفلسطيني. لقد حولت إسرائيل ولا تزال تحول غزة إلى أنقاض، تقتل وتؤذي وتدمر شعبها، وتهيئ ظروف حياة محسوبة لإحداث دمار مادي لهم كمجموعة.
وفي ضوء الإلحاح غير العادي للحالة، تلتمس جنوب أفريقيا عقد جلسة استماع عاجلة لطلبها الإشارة بتدابير تحفظية. وبالإضافة إلى ذلك، وعملا بالمادة 74 (4) من لائحة المحكمة، تطلب جنوب أفريقيا إلى رئيس المحكمة حماية الشعب الفلسطيني في غزة بدعوة إسرائيل إلى الوقف الفوري لجميع الهجمات العسكرية التي تشكل انتهاكات لاتفاقية الإبادة الجماعية أو تؤدي إلى انتهاكاتها ريثما تعقد جلسة الاستماع هذه، وذلك لتمكين أي أمر قد تصدره المحكمة بشأن طلب الإشارة بتدابير تحفظية. آثاره المناسبة. وتحقيقا لهذه الغاية، ينبغي للمحكمة أن تأمر إسرائيل بالكف عن القتل والتسبب في أضرار عقلية وجسدية جسيمة للشعب الفلسطيني في غزة، والكف عن التسبب عمدا في فرض ظروف معيشية يقصد بها تدميره جسديا كمجموعة، ومنع التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية والمعاقبة عليه، وإلغاء السياسات والممارسات ذات الصلة، بما في ذلك ما يتعلق بالقيود المفروضة على المساعدات وإصدار توجيهات الإخلاء.
ينبغي للمحكمة أن تأمر إسرائيل بالكف عن القتل والتسبب في أضرار عقلية وجسدية جسيمة للشعب الفلسطيني في غزة، والكف عن التسبب عمدا في فرض ظروف معيشية يقصد بها تدميره جسديا كمجموعة


ولأغراض الإشارة بتدابير تحفظية، المحكمة غير مطالبة بالتأكد مما إذا كان قد حدث أي انتهاك لالتزامات إسرائيل بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية. ومن الأهمية بمكان، (كما رأت المحكمة سابقا في قضية غامبيا ضد ميانمار)، أن "أي استنتاج، يتوقف بشكل خاص على تقييم وجود نية لتدمير الجماعة كليا أو جزئيا... [للفلسطينيين] في حد ذاتهم، لا يمكن أن تقوم به المحكمة إلا في مرحلة النظر في الأسس الموضوعية للقضية الراهنة". وبدلا من ذلك، "ما يتعين على المحكمة القيام به في مرحلة إصدار أمر بشأن التدابير المؤقتة هو تحديد ما إذا كانت الأفعال المشتكى منها ... يمكن أن تندرج ضمن أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية". ولا يتعين على المحكمة أن تقرر أن جميع الأفعال المشتكى منها يمكن أن تندرج ضمن أحكام الاتفاقية. يكفي أن "بعض الأفعال المزعومة على الأقل ... قابلة للوقوع ضمن أحكام الاتفاقية".

قضايا مماثلة أمام محكمة العدل الدولية
أمرت محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير مؤقتة في اكثر من قضية عرضت عليها. ولكن أكثر القضايا التي لها علاقة مباشرة بدعوى جنوب افريقيا والتي استندت عليها في كتابة مذكرتها ،هي قضية غامبيا ضد ماينمار وقضية أوكرانيا ضد روسيا. فعناصر التشابه بين هاتين القضيتين وقضية جنوب افريقيا تتمثل في أن هذه القضايا الثلاث تتعلق بمزاعم انتهاك اتفاقية منع البادة والمعاقبة عليها و الطلب من المحكمة وبصفة الاستعجال تطبيق المادة 41 المذكورة اعلاه أي الطلب من المحكمة اتخاذ تدابير مؤقتة كاجراء احترازي إلى أن ينظر في الاسس الموضوعية للاتهام الاصلي في الدعوى وهو انتهاك اتفاقية منع الابادة والمعاقبة عليها. وقد صدرت فعلا التدابير المؤقتة في قضية غامبيا ضد ميانمار بتاريخ 23 يناير 2020 علما أن غامبيا كانت قد تقدمت بالدعوى في 11 نوفمبر من العام 2019 ، وعقدت جلسات الاستماع الشفوية في 10 ديسمبر من العام نفسه.اما قضية اوكرانيا ضد روسيا فقد تقدمت اوكرانيا بتاريخ 27 فبراير من العام 2022 وعقدت جلسات الاستماع في 7 مارس ، وصدر قرار المحكمة باتخذ التدابير المؤقتة بتاريخ 16 مارس من العام 2022 . واللافت أنه و عقب صدور هذين القرارين في القضيتيتن، اتخذت عدة دول قرارا بالتدخل في الدعوى، في 15 نوفمبر من العام 2023 تقدمت كل من كندا والدنمارك وفرنسا وألمانيا باعلان مشترك للتدخل في قضية غامبيا ضد ماينمار نظرا للمصلحة المشتركة في تحقيق الاغراض السامية لاتفاقية منع الابادة والمعاقبة عليها .كما قدمت جزر المالديف اعلانا للتدخل مشيرة إلى قلقها العميق ازاء استمرار انتهاكات حقوق الانسان والاعتداءات على مسلمي الروهينجا والاعتراف بالحاجة إلى التعاون الدولي في السعي لمنع الابادة الجماعية والمعاقبة عليها. وهو ما حدث ايضا بالنسبة لقضية اوكرانيا ضد روسيا فقد بلغ عدد الدول المتدخلة في دعوى اوكرانيا ضد روسيا بتاريخ 21 يوليو من العام ،2023 32 دولة.