بدأ الاستيطان الصهيوني في فلسطين منذ القرن التاسع عشر، وتحديداً - بحسب الدراسات التاريخية - في عام 1855مع إنشاء أول حي سكني يهودي في مدينة القدس. وتبع ذلك إنشاء يهود من جنسيات أجنبية مختلفة مستوطنات أخرى بين عامَي 1860 و1869. وتصاعدت وتيرة بناء المستوطنات بين عامي 1870 و1918، وأخذت المنظمة الصهيونية العالمية على عاتقها كلّ الشؤون المتعلقة بالاستيطان، بعدما وصل عدد المستوطنات إلى 22 عام 1897، وتحت رعاية ثيودور هرتزل، وُضع الحجرُ الأساسُ للمشروع الصهيوني واستعمار فلسطين وتوسيع رقعة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية.
نواة الكيان الصهيوني: مستوطنات ومجازر
سعى الصهاينة منذ بدء مشروعهم الاستيطاني إلى تفريغ فلسطين من سكانها، وهو ما ورد واضحاً في أدبيات الصهاينة بأنه «لا دولة يهودية من دون إخلاء العرب من فلسطين ومصادرة أراضيهم وتسييجها». وينتهج الاستيطان اليهودي فلسفة أساسها الاستيلاء على الأراضي وطرد أصحابها على أسس دينية وتاريخية مزعومة، والترويج لمقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
وبعد صدور وعد بلفور عام 1917 ودخول فلسطين تحت الانتداب البريطاني، نشطت المؤسسات الصهيونية، إلى جانب حكومة الانتداب، في تمكين اليهود من السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية، خصوصاً في المناطق التي اعتُبرت مناطق استراتيجية. فأنشأت مستوطنات في السهل الساحلي بين حيفا (شمال غرب القدس) ويافا غرباً، وتملّكت مساحات كبيرة من القسم الشمالي من فلسطين في سهل الحولة وإلى الجنوب من بحيرة طبرية على طول نهر الأردن وعند مصبه. وفي الفترة بين عامي 1939 و1948، أُنشئت 79 مستوطنة على مساحة تجاوزت مليونَي دونم. وتولّت العصابات الصهيونية المسلّحة مهمة طرد السكان وارتكاب المجازر لتخويفهم وتهجيرهم. بدأت المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين قبل الإعلان عن قيام دولة إسرائيل بنحو 11 عاماً (عندما كان يفترض أن الفلسطينيين تحت حماية الانتداب البريطاني). خلال هذه الفترة، ارتكبت العصابات الصهيونية كليحي والهاغاناه والبالماخ وشتيرن أكثر من 57 مجزرة ذهب ضحيتها أكثر من 5000 فلسطيني وآلاف الجرحى. ومن بين الـ 57 مجزرة التي سبقت الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، 37 مجرزة وقعت عام 1948 فقط. وتحوّلت هذه المنظمات الصهيونية الإجرامية، بقرار من بن غوريون، لتشكّل ما يُعرف بـ«جيش الدفاع الإسرائيلي». أما الهاغاناه فقد شُكل من عناصرها لواء غولاني.
هكذا أُسِّسَت ما تُسمى «دولة إسرائيل» التي تعترف بها حالياً 162 دولة من أعضاء الأمم المتحدة!

الاستيطان في أراضي الـ67
يُعتبر الاستيطان أولوية قصوى بهدف تحقيق «يهودية الدولة ». لذلك شرع الكيان الصهيوني بإنشاء المستوطنات في الأراضي التي احتلّها عام 1967 وهي الضفة الغربية وقطاع غزة. وحتى عام 2022، بلغ عدد المستوطنات 199 في الضفة الغربية، ووافقت السلطات الإسرائيلية في حزيران 2023 على بناء نحو 5700 وحدة استيطانية جديدة فيها. وفيما يتواصل العدوان الإسرائيلي على غزة، صادقت حكومة تل أبيب على إقامة 13 مستوطنة وبلدة زراعية ومدينتين في صحراء النقب، وبلدة في منطقة «غلاف غزة»، وواصلت وزارة المالية تحويل ميزانيات للاستيطان في الضفة الغربية، مع إطلاق حملة مسعورة لتسليح المستوطنين.

لرؤية البحر يجب تدمير غزة
فُكِّكَت المستوطنات الـ21 في غزة أثناء حكم شارون عام 2005. وعلى مدى السنوات التي تلت الانسحاب من القطاع، كان أعضاء حزب الليكود فضلاً عن أعضاء حركة المستوطنين الدينية بقيادة بن غفير وسموتريتش يحلمون بالعودة إلى غزة وإعادة بناء غوش قطيف (الأرض التي وهبها الله لهم). وقد وُضعت خطة إبادة غزة عام 2018 «لإحداث تغيير كبير في الوضع وإذا تطلّب الأمر شن حملة كبيرة في غزة»، بهدف تقسيم القطاع إلى قسمين واحتلال جزء كبير منه. وفي عام 2022، كتب المرشح الصهيوني ارنون سيفال في حملته الانتخابية «لقد حان الوقت لبدء التخطيط للعودة إلى غوش قطيف وإعادة بنائها».
اتخذت إسرائيل هجمات 7 أكتوبر ذريعة لتنفيذ خططها الاستيطانية في غزة، وترافق ذلك مع دعوات إلى إخلاء سكان القطاع في غضون 24 ساعة. وكتب وزير الخارجية الإسرائيلي السابق داني ايالون: «لا نقول لسكان غزة أن يُغرقوا أنفسهم في البحر... اذهبوا إلى صحراء سيناء والمجتمع الدولي سيبني لكم مدناً ويعطيكم الطعام». وتعالت الدعوات إلى ترحيل أهل غزة تحت شعار الإجراء الإنساني المناسب والضروري لـ«التقليل من عدد الضحايا المدنيين»!
وكتب آخرون أن الحرب على غزة تقدّم لإسرائيل فرصة تاريخية لا مثيل لها لإعادة تشكيل مشهد التهديد وتغيير التوازن الديموغرافي في المنطقة وتصحيح الظلم الأخلاقي والاستراتيجي المرتبط بخطة فك الارتباط بغزة في عام 2005، التي أخرجت حوالي 9000 إسرائيلي من بيوتهم في القطاع. وطالبت المستوطنة المتطرّفة دانييلا فيس، مؤسسة جمعية «نحلا» الاستيطانية، بتدمير غزة وتشريد سكانها واحتلالها وبناء المستوطنات فيها، قائلة: «لرؤية البحر علينا تدمير غزة. سكان غلاف غزة يريدون رؤية البحر، ولكي ترى البحر يجب أن لا تبقى منازل ولا عرب في غزة. غزة يهودية وليست مدينة لحماس، وهي جزء من أرض إسرائيل». وصرّحت وزيرة العدل السابقة إيليت شاكيد بأنه «بعد أن نحوّل خان يونس إلى ملعب لكرة القدم، علينا أن نستفيد من الدمار، ونقول للعالم عليكم أن تأخذوا حصتكم من الفلسطينيين: 20 ألفاً أو 50 ألفاً. نحن بحاجة إلى مغادرة مليوني شخص». وطالب كبار حاخامات حركة «حباد» أعضاء مجلس الحرب الإسرائيلي بعودة الاستيطان في غـزة، وفرض السيطرة الأمنية الكاملة على القطاع. وتم تداول فيديوهات لأفراد في ما يُسمى «جيش الدفاع الإسرائيلي» وهم يتفاخرون بتفجير المنازل في حي الشجاعية شمال القطاع، ويقول أحدهم: «باتت لديكم إطلالة على البحر».
وبعد شهرين من بدء الحرب على غزة، عُقد في 11 كانون الأول الماضي، مؤتمر في تل أبيب يحمل عنوان «التحضير العملي للاستيطان في قطاع غزة»، نظّمته 15 منظمة استيطانية إسرائيلية مموّلة من الحكومة الإسرائيلية. وبدأت التجهيز لمشاريع استيطان في غزة في حال تمّت السيطرة عليها. وبعد المؤتمر، نشرت إحدى الشركات الاستثمارية إعلاناً تجارياً عنوانه «بيت على الشاطئ ليس حلماً»، مع إشارة إلى أن عمال الشركة «يعملون الآن على استصلاح المنطقة والتخلص من النفايات وطرد الغزاة»! وتشير تقارير صحافية إلى أن هذه الشركات تعمل على مستويين لحشد دعم واسع لدى الجمهور الإسرائيلي والضغط على السياسيين. وهي تأمل أن تنجح خططها كما نجحت في الضفة الغربية. فالمستوطنات هناك بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي، وهناك الآن أكثر من نصف مليون مستوطن يهودي في يهودا والسامرة (التسمية التوراتية للضفة الغربية). ووفق شبكة «سي أن أن»، فإن خطة إسرائيل الأصلية للحرب تهدف إلى تسوية غزة بالأرض.

المستوطنات في القانون الدولي
يدين المجتمع الدولي، باستمرار، سياسة الاستيطان الإسرائيلية في أراضي 1967. فالقانون الدولي الإنساني يحظر على المحتل توطين سكانه في الأراضي المحتلة، وهو ما أكّده عدد من قرارات الشرعية الدولية، سواء الصادرة عن مجلس الأمن الدولي أو الجمعية العمومية. وبالتالي، فإن خلق أمر واقع بالقوة لا يمكن أن يُكسب حقاً. وقد صدرت مجموعة من القرارات الدولية التي تؤكد ذلك، وتنكر أي صفة قانونية للاستيطان، أو الضم، وتطالب بإلغائه، وتفكيك المستوطنات، بما في ذلك الاستيطان في القدس. فبناء المستوطنات ينتهك حقوق الشعوب المحتلة، المنصوص عليها في القانون الدولي في ما يخص حقوق الإنسان. من بين الحقوق المنتهكة، حق تقرير المصير، حق المساواة، حق الملكية، الحق بمستوى لائق للحياة، وحق حرية التنقل.
من أهم نتائج «طوفان الأقصى» أنه حرّر المستوطنات الشمالية والجنوبية بنزوح نحو نصف مليون مستوطن لن يعودوا طالما بقيت المقاومة تطلق صواريخها


وفي ما يلي أهم النصوص الواردة في القوانين والمعاهدات الدولية، التي تحظر الاستيطان، وتمنع المساس بالحقوق والأملاك المدنية والعامة في البلاد المحتلة:
• اتفاقية لاهاي/ 1907م:-المادة (46): الدولة المحتلة لا يجوز لها أن تصادر الأملاك الخاصة.- المادة (55): الدولة المحتلة تُعتبر بمثابة مدير للأراضي في البلد المحتل، وعليها أن تعامل ممتلكات البلد معاملة الأملاك الخاصة.
• معاهدة جنيف الرابعة/ 1949 : المادة (49): لا يحق لسلطة الاحتلال نقل مواطنيها إلى الأراضي التي احتلتها، أو القيام بأي إجراء يؤدي إلى التغيير الديموغرافي فيها.- المادة (53): لا يحق لقوات الاحتلال تدمير الملكية الشخصية الفردية أو الجماعية أو ملكية الأفراد أو الدولة أو التابعة لأي سلطة في البلد المحتل. ومن بين أهم القرارات التي أدانت الاستيطان، قرار مجلس الأمن في 23 كانون الأول 2016 الذي نال تأييد 14 عضواً في مجلس الأمن فيما امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت. لكن إسرائيل التي لا تمتثل للقانون الدولي، لم توقف النشاط الاستيطاني ولم تُزل ما بنته في السنوات التي تلت حرب 1967. بل واصلت بناء المستوطنات بوتيرة متسارعة، معزّزة بذلك المنطق الأعرج القائل إن «على الإسرائيليين العيش في أي مكان يريدونه فى فلسطين». «إسرائيل لا تعتبر أن مناطق المستوطنات فى القدس والضفة الغربية هي «مناطق محتلة» بالمعنى القانوني، لكنها تعتبرها، كما اعتبرت الأراضي التي استولت عليها قبل 1948، جزءاً من «الأرض الموعودة».

طوفان الأقصى وشرعية وجود إسرائيل
لم يغب الاستيطان عن ملف الدعوى التي تقدّمت بها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. فقد وردت في مذكّرة الدعوى عدة فقرات تشير بوضوح إلى سياسة الاستيطان غير القانونية في الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام 1967. فجاء في المذكّرة أنه «منذ عام 1967، شيّدت إسرائيل 279 مستوطنة للمدنيين الإسرائيليين في جميع أنحاء الضفة الغربية – بما في ذلك 14 مستوطنة في القدس الشرقية – واستولت على 750,000 دونم (185,329 فداناً) من الأراضي الفلسطينية. وأعلن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مراراً وتكراراً أن إنشاء إسرائيل لمثل هذه المستوطنات «ليس له أي شرعية قانونية ويشكل انتهاكاً صارخاً بموجب القانون الدولي وعقبة رئيسية أمام تحقيق حل الدولتين والسلام العادل والدائم والشامل». بغضّ النظر عن ذلك، ارتفع عدد المستوطنين الإسرائيليين الذين تم نقلهم إلى الضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) بشكل كبير من ما يُقدر بنحو 247,000 عند اتفاقات أوسلو، إلى أكثر من 700,000 عام 2023. قرّرت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية أن هناك «أساساً معقولاً للاعتقاد» بأن «أعضاء من السلطات الإسرائيلية ارتكبوا جرائم حرب ... في ما يتعلق، في جملة أمور، بنقل مدنيين إسرائيليين إلى الضفة الغربية».

سعى الصهاينة منذ بدء مشروعهم الاستيطاني إلى تفريغ فلسطين من سكانها، وهو ما ورد واضحاً في أدبيات الصهاينة


وتحت بند تدمير الحياة في غزة، توثق المذكّرة نية تدمير غزة وإعادة استيطانها بالقول: «إن الجيش الإسرائيلي – الذي يرفع العلم الإسرائيلي فوق حطام المنازل والبلدات والمدن الفلسطينية المدمّرة، بما في ذلك ميدان فلسطين في مدينة غزة نفسه، ومدفوعاً بدعوات من داخل الحكومة الإسرائيلية وخارجها إلى تسوية غزة بالأرض وإعادة إنشاء المستوطنات الإسرائيلية على أنقاض المنازل الفلسطينية، يدمر نسيج وأساس الحياة الفلسطينية في غزة. وبذلك تتعمّد إسرائيل أن تفرض على المجموعة الفلسطينية في غزة ظروف حياة يقصد بها تدميرها».
نجحت جنوب أفريقيا في عرض الاتهامات التي وجهتها إلى اسرائيل في سياق غير منفصل عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كما جاء في مقدّمة المذكّرة أنه «من المهم وضع أعمال الإبادة الجماعية في السياق الأوسع لسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين خلال فترة الفصل العنصري التي دامت 75 عاماً، واحتلالها الحربي للأرض الفلسطينية الذي دام 56 عاماً، وحصارها لغزة الذي دام 16 عاماً، بما في ذلك الانتهاكات الخطيرة والمستمرة للقانون الدولي المرتبطة بها، بما في ذلك الانتهاكات الجسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة».
لقد جهدت إسرائيل منذ السابع من أكتوبر على تجريد «طوفان الأقصى» من سياقه التاريخي وفصله عما يجري في الضفة الغربية والقدس، ووصفه بأنه حدث أمني ضد مستوطنات غلاف غزة، واعتداء من قبل مجموعة إرهابية، غير مبرّر وغير أخلاقي. وجاءت مواقف الغرب الداعمة للكيان لتؤيد حق إسرائيل في الدفاع عن النفس وإدانة هجوم حماس، لأن الإدانة ستعطي الشرعية للمستوطنات بوصفها جزءاً لا يتجزأ من دولة إسرائيل. أما تبرير الاعتداء والتأكيد على أنه لم يأت من فراغ وليس وليد ساعته بل هو رد على جرائم الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني منذ 75 سنة، فهو اعتراف بحق الوجود الفلسطيني وهذا ما لا تريده إسرائيل. ومن أهم نتائج طوفان الأقصى أنه حرّر المستوطنات الشمالية والجنوبية بنزوح نحو نصف مليون مستوطن، لن يعودوا طالما بقيت المقاومة تطلق صواريخها.
بعد أكثر من 100 يوم على بدء الحرب ومع تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة، فشل الكيان الصهيوني في تحقيق أيّ من أهدافه في حربه على غزة. فقدرة المقاومة القتالية ما زالت في أوجها، والأسرى ما زالوا في قبضتها، والعدو يسجل خسائر ثقيلة. ومع ترقّب ما سيصدر عن محكمة العدل الدولية، تراجع التأييد الغربي للكيان معلناً صراحة أن فكرة تهجير أهل غزة قسرياً مرفوضة، وأن إعادة استيطانها أمر غير مقبول.



إسرائيل لا تستوفي الشروط


حدّدت اتفاقية مونتفيديو لعام 1933 القواعد القانونية القائمة المتعلقة بحقوق الدول وواجباتها، وهي لا تنطبق على الموقّعين فحسب، بل على جميع الدول. ووفقاً للاتفاقية، فإن أي كيان سياسي لكي يتحول إلى دولة لا بد من أن تتوافر عناصر أساسية فيه: وجود إقليم بحدود معروفة، وسكانٍ مستقرّين فيه، وسلطة سياسية تفرض هيمنتها على الإقليم والسكان وتحافظ على الأمن والاستقرار. وبحسب الاتفاقية، فإن وجود الدولة هو مسألة واقعية، في حين أن اعتراف الدول الأخرى بها هو اعتراف إعلاني وليس عاملاً حاسماً في إنشاء أو تأسيس الدولة. بعد 75 عاماً، لم تستطع إسرائيل أن تحقق أياً من هذه الشروط.