يعتبر قرار محكمة العدل الدولية، في 26 كانون الثاني الماضي، بفرض تدابير مؤقتة على الكيان الصهيوني، خطوة مهمة في اتجاه إعادة ترسيخ مصداقية المؤسسات الدولية وتطبيق القانون الدولي. فلسنوات طويلة، أحبط الغرب كثيراً من الجهود الرامية إلى محاسبة إسرائيل على الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني. ويرى قانونيون أن التوجه المستقبلي هو تعزير ثقافة عدم الإفلات من العقاب، ورفض فكرة أن القانون الدولي فاقد لفعاليته. فقد نجحت جنوب أفريقيا بسلوكها الإيجابي في إعادة تصويب الاهتمام الدولي للقضية الفلسطينية ولفت نظر العالم إلى قضية عمرها 75 عاماً، عندما رفضت مزاعم إسرائيل بأن العملية العسكرية الإسرائيلية ضد غزة هي وليدة «هجوم 7 أكتوبر»، وهو ما أجبر الكيان الصهيوني المتعنّت على الخضوع هذه المرة، والمثول أمام محكمة العدل الدولية، ظانّاً أنه يمكن التذرع فقط بحجة الدفاع عن النفس وينتهي الأمر لمصلحته.أهم ما جاء في نص قرار المحكمة، رفض طلب إسرائيل بإلغاء الدعوى، وهذا يعني أن المحكمة ستكمل النظر في الأسس الموضوعية لها. قبول الدعوى من المحكمة والتأكيد على اختصاصها في هذه المرحلة، وفقاً للمادة التاسعة من اتفاقية منع الإبادة، شكل رداً قانونياً على الإدارة الأميركية التي زعمت أن الدعوى «لا أساس لها من الصحة». وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن «المجتمع القانوني الدولي» بات يرفض الدعم اللامشروط الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل، وليس فقط مواطنيها.
تقديم جنوب أفريقيا دعوى ضد إسرائيل يثبت أن حق التقاضي مضمون للدول ذات السيادة الحقيقية والإرادة الحرة. فهي لم ترضخ لضغوط شتى مورست عليها لترك الشأن الفلسطيني. وتعدّ خطوة جنوب أفريقيا دفاعاً عن الإنسانية جمعاء وعن الضمير العالمي. وهي من أوصلت صوت الفلسطينيين إلى محكمة العدل الدولية في أول دعوى تمثُل فيها إسرائيل كمدعى عليها، ما شكّل حدثاً تاريخياً بامتياز. كما أنه يُنبئ بالدور القيادي الذي يمكن أن تلعبه جنوب أفريقيا في دعم شعوب عالم الجنوب وقضايا العدالة والإنصاف.

تبعات التدابير المؤقتة القانونية
لاحظ خبراء قانونيون أن قرار محكمة العدل الدولية يحمل بين سطوره رسالة تحذيرية ضمنية للدول الداعمة لإسرائيل في حربها على الشعب الفلسطيني في غزة، وإن لم تُجب المحكمة عن سؤال هل ارتكبت إسرائيل جريمة الإبادة، علماً أنها غير معنية بالإجابة على سؤال كهذا في مرحلة النظر في التدابير المؤقتة. لكن المحكمة رأت، وبحسب تعبيرها القانوني، أن بعض الأفعال على الأقل التي زعمت جنوب أفريقيا أن إسرائيل ارتكبتها ، تبدو للوهلة الأولى وكأنها يمكن أن تندرج ضمن بنود اتفاقية منع الإبادة. علاوة على ذلك، فإن الحقائق والظروف المذكورة كافية لاستنتاج أن بعض الحقوق التي تطالب بها جنوب أفريقيا على الأقل والتي تسعى إلى حمايتها تبدو معقولة، وهذا يسمح للقضية بأن تمضي قدماً للنظر لاحقاً في أسسها الموضوعية. لهذا، فإن القرار الصادر بالتدابير المؤقتة سيضع الدول الأخرى، والتي هي أيضاً أطراف في اتفاقية منع الإبادة، تحت الملاحظة. فالدول الموقعة على الاتفاقية عليها أيضاً التزامات بموجب المادتين الأولى والثامنة من الاتفاقية، بمنع جريمة الإبادة من الوقوع أو محاولة منعها بما لديها من صلاحيات. كذلك عليها واجب معاقبة مرتكبيها عبر تبني تشريعات وطنية تعاقب مرتكبي جريمة الإبادة أينما وجدوا، فتكون لمحاكمها صلاحية النظر في دعاوى ضد مرتكبي الإبادة. كذلك عليها واجب عدم مساعدة المعتدي وتقديم الدعم لارتكاب أفعاله المجرّمة بمقتضى الاتفاقية (راجع «القوس»، منع الإبادة الجماعية ،6/1/2023). فالدول التي تساعد إسرائيل الآن، وخصوصاً بعد صدور القرار، سيكون عليها إعادة النظر في تصريحاتها وسلوكها حيال ما يحدث من قتل ودمار في غزة. فالقرار يوجب على إسرائيل اتخاذ إجراءات فورية للحد من الإضرار بالمدنيين، واستمرار الدعم لهذا الكيان بالمساعدات العسكرية ودعمه بشتى الوسائل سيضع هذه الدول لاحقاً في دائرة المادة الثالثة التي تتحدث عن التواطؤ والتحريض والاشتراك في جرم الإبادة، وستكون موضع مساءلة قانونية على المستويين الدولي والوطني. مثلاً، في بريطانيا يمنع تصدير الأسلحة حيثما يكون هناك خطر واضح من احتمال استخدامها في انتهاكات للقانون الدولي. وبالتالي، استمرار الدعم العسكري البريطاني لإسرائيل في حربها سيعرض المملكة المتحدة للمساءلة القضائية وفقاً لقوانينها والقانون الدولي على حد سواء. صدور التدابير المؤقتة يعني أن شروط الطلب الذي تقدمت به جنوب أفريقيا قد تحققت. فهذه التدابير لا تصدر إلا في قضايا واضحة المعالم، وهذا ما أكدت عليه المحكمة بقولها إن ما عُرض من ادعاءات، وبالاستناد إلى تقارير الأمم المتحدة، وإلى التصريحات الصادرة عن مسؤولين إسرائيليين، وعبر أرقام الضحايا والوضع الكارثي للفلسطينيين في غزة، كل ذلك يجعل من الممكن اعتبار أن هناك أسساً «معقولة» للقول إن الحرب الإسرائيلية على غزة يمكن أن تندرج ضمن نطاق أعمال الإبادة الجماعية، مخالفة في ذلك ادعاءات الفريق الإسرائيلي في مرافعته في 12 كانون الثاني الذي سعى جاهداً إلى أن يبرهن أن دعوى جنوب أفريقيا ليست واضحة المعالم.

مسألة الدليل على النية المتعمدة: قلق من الإخفاق
في المقابل اعتبر البعض أن المحكمة ليس لديها دليل لتقرّ ما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت جريمة إبادة في غزة أم لا. فالبعض يرى أن الموت والدمار لا يشكلان إثباتاً لانتهاك اتفاقية منع الإبادة التي تتطلب توافر نية تدمير جماعة قومية أو دينية أو إثنية بصفتها هذه كلياً أو جزئياً. لذلك يتعين على جنوب أفريقيا في المرحلة التالية، عند النظر في الأسس الموضوعية، أن تثبت نية إسرائيل الفعلية لتدمير المجموعة الفلسطينية في غزة تدميراً كلياً أو جزئياً. وهي مسألة معقدة، ولكن يلاحظ أن المحكمة استشعرت الخطر المحدق بالفلسطينيين الذين يخضعون لحماية الاتفاقية، عبر التصريحات التي صدرت عن شخصيات وزارية صهيونية وصولاً إلى رئيس «الدولة»، وهي تصريحات ترافقت وتزامنت مع الكارثة الإنسانية التي وقعت في غزة. وهو ما يدل على أن المحكمة تأخذ تلك التصريحات ضمن ما قد يثبت نية التعمد في ارتكاب الأفعال المحظورة في الاتفاقية. مع ذلك، فإن مسألة إثبات عناصر النية المتعمدة في ارتكاب الإبادة لا تزال محل جدال قانوني. لذلك، يتخوف البعض من صعوبة إثباتها. وهذا ما لفت إليه القاضي الهندي دالفير بهانداري، العضو في هيئة المحكمة، في بيان له يوضح فيه أسباب تأييده لقرار التدابير المؤقتة، قائلاً إنه يرى أنه، وإن كان معيار المعقولية قد توافر لفرض التدابير المؤقتة، فهو أقل بكثير من المعيار القانوني المطلوب والذي سيعتمد لتحديد ما إذا كانت هناك نية متعمدة لارتكاب جريمة الإبادة. والموقف نفسه عبّر عنه القاضي الألماني جورج نولت في بيانه التوضيحي حول أسباب تأييده للتدابير المؤقتة. إذ أكد أن المعيار القانوني المطلوب تحققه في مرحلة إثبات النية المتعمدة لارتكاب الإبادة أكثر صرامة ودقة من المعيار المطلوب لتطبيق التدابير المؤقتة، وهو يرى أن جنوب أفريقيا لم تظهر بشكل معقول أن العملية العسكرية التي قامت بها إسرائيل في حد ذاتها قد نُفذت بنية الإبادة الجماعية. مع ذلك، فقد أيد القاضي نولت المحكمة وصوّت لمصلحة القرار، استناداً «إلى الادعاء المعقول من جانب جنوب أفريقيا بأن بعض البيانات التي يدلي بها مسؤولو الدولة الإسرائيلية، بمن فيهم أفراد جيشها، تثير خطراً حقيقياً ووشيكاً بالمساس بحقوق الفلسطينيين بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية على نحو لا يمكن إصلاحه».

وقف العلميات العسكرية «ضمناً»
لم يتضمن القرار أمراً بوقف إطلاق النار كما كانت تأمل جنوب أفريقيا. فالمحكمة هنا أعادت استخدام العبارات الواردة في القرار الصادر في قضية غامبيا ضد ميانمار، والذي يطلب من ميانمار اتخاذ كل التدابير لمنع ارتكاب جريمة الإبادة، ولم يصدر لها أمر بالكف عن عملياتها العسكرية ضد أقلية الروهينغا. فميانمار كانت في الوقت نفسه في نزاع مسلح مع معارضة مسلحة من أقلية الروهينغا، وليس للمحكمة صلاحية التدخل في نزاع داخلي بين حكومة ميانمار والمعارضة المسلحة، وليس لها أيضاً صلاحية إصدار أمر يلزم طرفاً في نزاع مسلح هو ليس بدولة. فالمحكمة تنظر في النزاعات القانونية بين الدول فقط. ولكن التدابير تضمنت فعلياً وقفاً للعمليات العسكرية. فالقرار جاء بعد أن تبين للمحكمة أن هناك ما يبرر اتخاذ تدابير مؤقتة من أجل منع حدوث ضرر لا يمكن إصلاحه، وبناء عليه يتعين على إسرائيل اتخاذ إجراءات ملموسة فورية وجميع التدابير التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأعمال التي تدخل في نطاق المادة الثانية من هذه الاتفاقية، ولا سيما: (أ) قتل أعضاء الجماعة؛ (ب) قتل أعضاء الجماعة؛ (ج) قتل أعضاء الجماعة؛ (ج) قتل أعضاء هذه الاتفاقية.
طلب حفظ الأدلة ضروري ليس فقط لتقييم سلوك إسرائيل حول مدى التزامها باتفاقية منع الإبادة بل لأن الأدلة المطلوب الحفاظ عليها ستستخدم في مسارات قضائية أخرى

(ب) التسبب في ضرر بدني أو عقلي جسيم لأعضاء الجماعة؛ (ج) إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يقصد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛ (د) فرض تدابير ترمي إلى منع الولادات داخل الجماعة، وأن على إسرائيل اتخاذ تدابير فورية وفعالة لتوفير الخدمات الأساسية والمساعدة الإنساني لاستعادة الظروف التي يمكن أن تدعم الحياة في غزة. وبناء عليه، يجب على إسرائيل أن تسمح بدخول الغذاء والماء والمساعدات وغيرها من الضروريات الإنسانية من دون تأخير أو قيود تعسفية على عمليات إدخال المساعدات أو تقييد أنواعها. ولتنفيذ ذلك، سيتعين على إسرائيل إعادة الاتصالات السلكية واللاسلكية لقطاع غزة لضمان إيصال المساعدات وتوزيعها في جميع أرجاء القطاع. ويتّضح من هذه الالتزامات أنه من المستحيل تنفيذها من دون وقف فعلي للعملية العسكرية. وبذلك، تكون المحكمة قد أمرت فعلياً بوقف إطلاق النار من دون أن تدعو إليه صراحة.

الحفاظ على الأدلة لماذا؟
طبقاً لقرار المحكمة، على إسرائيل أن تتخذ تدابير فعالة لمنع التدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتصلة بادعاءات ارتكاب أعمال تدخل في نطاق المادتين الثانية والثالثة من اتفاقية الإبادة الجماعية ضد أعضاء الجماعة الفلسطينية في قطاع غزة. فقد أمرت المحكمة إسرائيل باتخاذ تدابير فعالة للحفاظ على الأدلة المتعلقة بمزاعم أعمال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وذلك لضمان عدم إتلاف وفقدان الأدلة ذات الصلة، والتي تتعلق بأفعال القتل والأذى الجسدي أو العقلي الخطير وظروف الحياة التي تهدف إلى تدمير كلي أو جزئي للفلسطينيين، كذلك تدابير منع الولادات والتآمر والتحريض أو الشروع في ارتكاب تلك الأفعال أو التواطؤ، قبل مرحلة النظر في الأسس الموضوعية للدعوى، والتي ستستغرق سنوات عدة.

قرار محكمة العدل الدولية يحمل بين سطوره رسالة تحذيرية ضمنية للدول الداعمة لإسرائيل في حربها على الشعب الفلسطيني في غزة

إن الطلب لحفظ الأدلة ضروري ليس فقط لتقييم سلوك إسرائيل حول مدى التزامها باتفاقية منع الإبادة، بل أيضاً لأن الأدلة المطلوب الحفاظ عليها ستستخدم في مسارات قضائية أخرى. أمر المحكمة بالحفاظ على الأدلة يشير إلى أهميتها لاستعمالها في قضايا جرائم الحرب وضد الإنسانية. فالمحكمة الجنائية الدولية تلقت فعلياً أكثر من طلب (من بينها طلب تقدمت به جنوب أفريقيا مع عدد من الدول) لفتح تحقيق في جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل في غزة. وحرصاً على ضمان المساءلة في المستقبل، عليها الحفاظ على الأدلة المتعلقة بجميع الجرائم الفظيعة التي ارتكبت في غزة.

شهر شباط: التزامان على الكيان الصهيوني
على إسرائيل أن تقدم تقريراً خلال شهر من تاريخ صدور القرار، ويفترض أن تسلّم المحكمة قبل نهاية شباط تقريراً مفصلاً حول الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل تنفيذاً لأمر التدابير المؤقتة، ليحال التقرير إلى جنوب أفريقيا للتعليق عليه. وهي فرصة لجنوب أفريقيا لتقدم طلباً بتعديل التدابير المؤقتة، كما أن للمحكمة الصلاحية في إعادة النظر بالتدابير إما تعديلاً أو تشديداً أو إلغاء، بحسب ما تراه مناسباً، وإلا فإن هذه التدابير المؤقتة ستبقى مطبقة إلى حين صدور الحكم في الدعوى والذي قد يستغرق سنوات، كما في دعوى البوسنة ضد صربيا التي رفعت عام 1993 وصدر الحكم النهائي فيها عام 2007.
سيكون على إسرائيل أيضاً تبرير ممارساتها في الضفة الغربية والقدس أمام محكمة العدل الدولية التي ستبدأ هيئتها الاستشارية، في 19 شباط، النظر في طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة حول التبعات القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، واحتلالها الطويل الأمد واستيطانها وضمها للأراضي واعتمادها تشريعات وإجراءات تمييزية.