فخّ الشامي
نزولاً عند ضغوط السفارات، خصوصاً البريطانية، بدأت محاولات لتشريع الاتفاقية والتصديق عليها، على سبيل التسوية. طُرح البند على جدول أعمال جلسة الحكومة، في 12 كانون الثاني الماضي، قبل أن يُرحّل إلى جلسة السبت الفائت، ثم إلى الجلسة المقبلة. الأسوأ من «التسوية» المطروحة، أن ورقة بعنوان «مفكّرة حول استثمار منصة إمباكت»، وُزّعت على الوزراء، طبخها نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، يعرض فيها «لتقرير أولي صادر عن لجنة تطوير تكنولوجيا المعلومات». تقفز «ورقة الشامي» فوق كل ما سبق وفوق تقارير الأجهزة الأمنية التي حذّرت سابقاً من اعتماد منصة «إمباكت» وفوق تقرير ديوان المحاسبة، إذ تصف أداء المنصة بـ«الممتاز»، وبأنّ «التجربة حظيت برضى المسؤولين»، بما يبيّض ورقة عطية ويطوي أمر مساءلته قضائياً. وتخلص إلى اقتراح نقل المنصة من عهدة التفتيش إلى مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية.
إلا أن الأخطر في الورقة هو أنها تقترح، بسبب «تأخّر لبنان في اعتماد الحكومة الإلكترونية»، أن يعتمد «التحوّل الرقمي» و«تكوين قاعدة بيانات رقمية شاملة للدولة»، على منصة impact «للتقليل من كلفة هذا التحوّل، عبر استخدام المعدات والخوادم وقواعد البيانات والبرمجيات والتطبيقات التابعة لها، من قبل أي وزارة أو إدارة أو مؤسسة أو بلدية». وتطلب الورقة «السماح لوزارة التنمية الإدارية باستخدام خدمات الأطراف الخارجية مثل شركة سايرن، للمساعدة في تأمين البيانات، وتحديد المسار الأفضل للعمل». ما يعني، باختصار، أن كل ما لم تحصل عليه «سايرن»، تقترح الورقة تقديمه إليها على طبق من فضة. ولأن وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية لا هيكلية إدارية لها، تقترح الورقة تعيين 4 أشخاص للمساعدة في إدارة برنامج التحوّل الرقمي، على أن تدفع الجهات المانحة التي ستموّل برنامج الرقمنة رواتبهم.
كذلك يطلب اقتراح الشامي من هيئة «أوجيرو» زيادة قدرتها على التخزين ليُصار إلى تخزين بيانات الحكومة على سحابة الهيئة، على أن تتولى «التنمية الإدارية»، التأكد من أنّ أمن العمليات للبيانات في «أوجيرو» هو الأمثل، ويتولى الجيش وقوى الأمن الداخلي أمن المعلومات من خلال تحديد الاتجاه الأمني لجميع البيانات واقتراح التوصيات. فيما يتوّج نائب رئيس الحكومة اقتراحه بإسناد مهمّة الرقابة على كل هؤلاء و«الإشراف على برامج الرقمنة واستخدام البيانات وتدقيقها» إلى... رئيس التفتيش المركزي نفسه!
يصف مختصون في عالم التحوّل الرقمي الاقتراح بـ«الملغوم»، مشيرين إلى أن من الواضح أن كثيراً من الشكوك تحيط بمنصة impact، والاقتراح يأتي لـ«تجميلها» عبر بعض النقاط الشكلية، كالاحتفاظ بالبيانات لدى «أوجيرو»، ونقل إدارتها من جهة رقابية لا صلاحية (التفتيش) لها إلى جهة تنفيذية (وزارة التنمية الإدارية)، ولكن مع إبقائها تحت سيطرة الشركة البريطانية نفسها. ويلفت قانونيون إلى «عدم جواز إسناد ملف سيادي وضخم كهذا إلى وزير دولة لم يمنحه الدستور صلاحيات، ولا يمكنه ممارسة سلطة على بقية الوزارات، ولا جهاز تنفيذياً لديه»، فضلاً عن أن تعزيز الوزارة بموظفين يدفع المانحون رواتبهم، «يثير إشكالية الولاء وينسف الثقة بهؤلاء لمراقبة أمن العمليات». ويلفت هؤلاء إلى أن «استراتيجية التحوّل الرقمي» التي أقرّتها الحكومة عام 2022، تشدّد على مبدأ السيادة الرقمية، عبر جعل الخوادم ومركز البيانات في لبنان وتحت سيادة المؤسّسات الرسمية فقط، وعلى امتلاك الدولة للبرامج والتطبيقات ومفاتيح البرمجة، وإيلاء الأولوية للإنتاج الرقمي المحلي. فيما تضرب impact جوهر هذه الاستراتيجية لأنها منصة بريطانية، ولأن برمجتها ستبقى في يد «سايرن» أو سواها من الشركات الأجنبية، إذ إن «من يطوّر البرامج ويبرمج قاعدة البيانات يستطيع الولوج إلى البرامج والداتا ولو كانت موجودة في حوزة أوجيرو».
ضغوط السفراء تثمر صكّ براءة لـ impact وإنقاذ رئيس التفتيش من الملاحقة القضائية
ما يُفترض أن يكون هو إقرار خطة تنفيذية لاستراتيجية التحوّل الرقمي، وهي خطوة لم تقم بها وزيرة التنمية الإدارية نجلا رياشي، إذ اكتفت بمراسلة الوزارات لسؤالها عن موظفي المعلوماتية لديها. كما لم تُقَرّ التشريعات اللازمة لمأسسة العمل بالتحوّل الرقمي عبر خلق جهة رسمية تُعنى بالملف، وفق ما جاء في الاستراتيجية. وعوضاً عن ذلك كله، تطرح ورقة الشامي اختصار عملية التحوّل الرقمي برمّتها بـimpact.
ويلفت معنيون إلى أنّ تحديد المكان الأصلح لحفظ «الداتا» هو واحد من البنود المفترض إدراجها في الخطة التنفيذية، وليس من صلاحية مجلس الوزراء تقرير جعل مركز البيانات الوطني في «أوجيرو» من دون خطّة ومن دون تحديد المهام والأدوار والصلاحيات. كما لا يمكن السماح للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي بالوصول «إلى كلّ البيانات» من دون وضع ضوابط، إذ إنّ القانون ينظّم عملية التنصّت حتى لغايات أمنية.
وإذا كانت التأثيرات الأمنية السلبية على الأمن اللبناني بسبب الانتهاك السابق للداتا عبر impact قد تتقلّص بعد سنوات بحكم تقادمها، فإن ما يطرحه الشامي هو السماح لمؤسسة أجنبية بوضع اليد على «داتا» أضخم يجري تحديثها باستمرار، ما يشكّل خطراً استراتيجياً على مستوى الأمن القومي.