أثارت موافقة المجلس التنفيذي للبنك الدولي، الأسبوع الماضي، على مشروع قرض بقيمة 34 مليون دولار بعنوان «مساعدة لبنان على استعادة وظائف الإدارة المالية الأساسية لدعم الإيرادات المالية والرقابة عليها»، استهجان العاملين في القطاع العام، لأنه يميّز مجموعة مختارة من الموظفين عددهم 500 موظف يعملون في المالية العامة وديوان المحاسبة والتفتيش المركزي، وسيتلقّون حوافز مالية للقيام بعملهم. مشروعٌ كهذا يخدم مزيداً من التفكّك في القطاع العام رغم أن ذريعته للقيام بذلك أن وظائف هؤلاء «حيوية»، إذ إنه يغفل أن القطاع العام ليس مجرّد وحدات تدخل إيرادات مالية، إنما هو أشبه بمنظومة متكاملة حيويتها تكمن في أصل وجودها لا في تجزئتها.في تقريره المنشور على صفحته الرسمية حول الموافقة على القرض، يشير مدير الشرق الأوسط في البنك الدولي، جان كريستوف كاري إلى «أهميّة المؤسسات العامة في معالجة الأزمات، وإرساء أسس التعافي»، ويلفت إلى «وجود فجوة حرجة في المهارات والتوظيف في القطاع العام بسبب تآكل الرواتب نتيجة للتضخم وانخفاض قيمة العملة، إذ لا يستطيع الموظفون تحمّل كلفة الوقود للانتقال إلى العمل». ويبني على ما حصل لتبرير القرض بشكله الحالي الموجّه لتمويل العاملين في وحدات التحصيل، إذ يشير إلى أن الإيرادات الحكومية «غير كافية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، والاستدامة المالية، وتمويل الخدمات الاجتماعية».
موافقة البنك على القرض، تعطي الحكومة ضوءاً أخضرَ باستمرار التغاضي عن فكرة «إصلاح القطاع العام وتفريغه من المحسوبيات». بهذا المعنى، إن العقلية المحاسبية التي تحكم سلوك الحكومة، انتقلت أيضاً إلى البنك الدولي، وأصبح الاثنان يهتمان بالمؤسسات العامة وفق طريقة «الدكنجي»، أي بما لديهما من أموال في الصندوق، من دون أن يعنيهما بُعد النظر والتخطيط. فبهذا القرض، جرت تجزئة القطاع العام إلى اثنين؛ الأول منتج ومدرّ للأموال، يجب دعمه والعاملون في هذا القسم هم على حدّ وصف البنك الدولي «خطرون وأساسيون». أما القسم الثاني، فهو غير منتج، وبالتالي يمكن إهماله وترك العاملين فيه لمصيرهم، إما باللجوء إلى الهجرة من الوظيفة العامة ومن لبنان، أو بالتقاعد، وربما يجب التخلّص منهم أيضاً عبر تسريع تحقّق هذا المصير.
غاب عن ذهن الحكومة أنّ القطاع العام بمثابة منظومة متكاملة. المهام المنوطة بالموظفين حلقات مترابطة لا تُصنّف بحسب توصيف البنك الدولي، بين «مهمّة دقيقة» أو «مهمة حيوية»، وبين عاملين في مهمات «عادية». فالمعاملات لا تنتج أموالاً ما لم تمرّ في النظام كلّه. يمكن لموظف يعمل في إدارة لا تجبي الرسوم والضرائب مباشرةً وبتوقيع بسيط أن يفوّت على المالية العامة مبالغ كبيرة. مثلاً، يستطيع موظف في وزارة الاقتصاد أن يرفض استيراد سلعة معيّنة، ويحرم بالتالي الخزينة من الإيرادات المتعلقة بها. أي عامل في الجمارك، أو في معهد البحوث الصناعية، يمكن أن يرفض شحنة ما لأسباب موضوعية أو غير مهنية، ما يفوّت على الخزينة أموالاً. ثمة الكثير من هذه الأمثلة مثل التخطيط الخاطئ الذي يقوم به موظفون في الخدمة العامة، قد يؤدي إلى زيادة موارد الخزينة أو حرمانها منها.
البنك الدولي يحاول إرساء التمييز بين فئات العاملين في القطاع العام


أخبار الموافقة على القرض وصلت إلى مسامع الموظفين، من غير المستفيدين، الذين رفضوا فكرة الاقتراض لدعم عدد معيّن من زملائهم في إدارات محدّدة، واستهجنوا تقسيم الوظائف العامة بين من يستحق الدعم، ومن عليه العمل بأقل التقديمات. فهل يمكن تقسيم الوظيفة العامة بين فئة سيادية وأخرى هامشية؟ «فما كان مقبولاً في السابق لناحية وصول هبات إلى الجيش وقوى الأمن، لا إمكانية للتغاضي عنه الآن. فالأموال المطلوبة هي قروض، ولا معيار موحّداً لتوزيعها». يقول أحد المعترضين على تركيبات الحكومة مع البنك الدولي: «القروض ستُدفع لاحقاً من جيوب اللبنانيين، والموظفون منهم. مفهوم الوظيفة العامة يتعارض مع مفهوم الحوافز المعتمدة من الحكومة، وقبول القرض يعني تكريس الوضع القائم، والتهرّب من تصحيح سلسلة الرتب والرواتب». ويسأل هؤلاء عن «كيفية قيام موظف بتأدية عمله كاملاً مع علمه بتقاضي زميله مبالغ إضافية على راتبه؟ فهل ستُعمّم فكرة القروض الدولية على الوزارات لتسيير الأعمال ليصبح الوزير القوي صاحب العلاقات الدولية أقدر على تأمين تمويل وزارته؟». يتحدّى الموظفون، الحكومة أن تعرض على مجلس النواب المشروع كاملاً، وأن تسمّي المواقع الوظيفية المشمولة بالقرض، إذ لا يجب الخلط بين الهبات والقروض لأن الأخيرة يتوجب تسديدها بفائدة وهي أموال تُدفع من جيوب كلّ اللبنانيين.