عَكَست مواقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله إزاء مجزرتَي النبطية والصوانة، مفهوم المقاومة لرسائل هذا النمط من الاستهداف ومخاطره. وأسَّس قرار الرد بالدم على الدم، بما يُمثِّله من ترجمة عملية لسياسة الارتقاء مقابل الارتقاء، لمعادلة ستكون لها تداعياتها على تقديرات مؤسسة القرار السياسي والأمني في كيان العدو، لمسارات المواجهة ومخاطر هذا المستوى من الاعتداءات.قبل أي اعتبار آخر، لاستهداف المدنيين حساسية خاصة لدى حزب الله. وعلى هذه الخلفية، صاغ الحزب، في مواجهة جيش الاحتلال، منذ تسعينيات القرن الماضي، معادلة ردّ وردع فرضت قيوداً على سياساته العدوانية، وأدّت إلى التحرير عام 2000، وهو أمر أقرّ به عضو مجلس الحرب، الرئيس السابق لهيئة أركان الجيش الوزير غادي آيزنكوت عندما كان يتولى قيادة المنطقة الشمالية، بالقول إن حزب الله لم يستهدف المستوطنات إلا عندما كان الجيش الإسرائيلي يتجاوز ما يراه الحزب خطاً أحمر (معهد أبحاث الأمن القومي/ 2010).
ما ميّز مجزرتَي النبطية والصوانة هو العدد الكبير من المدنيين الذين استُهدفوا عمداً، كما أكّد نصرالله، في سياق خطة مدروسة لفرض قواعد جديدة يتحوّل فيها استهداف المدنيين إلى سياسة عملياتية متواصلة، على أمل إخضاع المقاومة ولبنان. وقد تبلور هذا الخيار لدى العدو بعد فشل استراتيجية «الردع الفعّال» (بحسب تعبير نتنياهو) التي اعتمدها في الأشهر الماضية، والإخفاق في ردع المقاومة عن مواصلة عملياتها، وفرض شروطه على لبنان، وتوفير الأمن لمستوطنيه وجنوده.
في 21 الشهر الماضي، ذكّرت صحيفة «معاريف» بما كتبه آيزنكوت قبل سنوات، أنه «بمجرد أن تكون الحرب على الأراضي الإسرائيلية... فهي بالفعل نوع من الهزيمة». وفي الإطار نفسه، يخشى قادة العدو من التداعيات المستقبلية لطول المعركة على جبهة الجنوب، وهو ما سبق أن أفصح عنه وزير الأمن يوآف غالانت، بالقول إنه «من دون تحقيق أهداف الحرب، سنكون في وضع لن تكون المشكلة فيه أن المواطنين غير مستعدّين للعيش في غلاف غزة أو في الشمال، بل في أنهم لن يرغبوا في العيش في مكان لا نعرف كيف نحميهم فيه».
كون حركة أمل جزءاً فاعلاً في المقاومة يظهر أن القاعدة في الجنوب موحّدة في خيار المقاومة ضد العدو


هذه الرؤية للأبعاد الاستراتيجية للقيود التي فرضها حزب الله على جيش العدو، وفشل كل المحاولات السياسية والميدانية لكسر هذا الطوق، دفعت قيادة العدو إلى تطوير تكتيكاتها بهدف إحداث خرق في المعادلة وتقويض صمود المقاومة وبيئتها المباشرة والضغط على المنظومة السياسية، عبر الارتقاء بها بشكل مدروس. وهو ما عبّر عنه صراحة قائد المنطقة الشمالية اللواء أوري غوردين، بدعوته إلى انتهاج خيار «ردود غير متوقّعة، وبشكل مغاير» يتجاوز المعادلة السائدة منذ ما بعد عدوان 2006. وأهم ما في ذلك أنه ينطوي على إقرار بأن استهداف المدنيين كان متعمّداً، وترجمة لقرار بمحاولة تأسيس معادلة غير تناسبية تتضمّن استهداف المدنيين، ستتعاظم خطورتها إذا لم يتكبّد العدو ثمناً يدفعه إلى مراجعة حساباته، وقبل ذلك أن يدرك أن هذه الضربات لم تؤدّ إلى أي تغيير في الموقف من استمرار المقاومة.

الردّ الهادف
قد يتوهم البعض بأن الحديث عن إسقاط أهداف العدو من أي ضربة عسكرية كما لو أنه كلام إنشائي يقتضيه السياق، إلا أن الواقع هو أن إسقاط هذه الأهداف هو المعيار الأول والأهم لأي ردّ على العدو. وفي ضوء حقيقة أن هدف العدو من وراء هذه المجزرة، وما يلوّح به، هو وقف المقاومة مع ما يترتب على ذلك من خضوع لشروطه، لذلك كان إعلان الأمين العام لحزب الله أن «‏الجواب على المجزرة يجب أن يكون بتصعيد العمل المقاوم في الجبهة... هذا يزيدنا حضوراً وفعلاً واشتعالاً وغضباً وفعّاليّةً وأيضاً توسعاً، وعليه أن يتوقّع ذلك وأن ينتظر ذلك». وبالاستناد إلى آليات التقدير والقرار لديه، والكثير من الشواهد السابقة، أكثر من يدرك الأبعاد الاستراتيجية لهذه المواقف هو قادة العدو كونها تُمثل تعطيلاً لأهدافه، وما تحمله من رسائل إزاء مستقبل المعركة.
وفي السياق نفسه، يجب التوقف عند كون حركة أمل جزءاً فاعلاً في مقاومة العدو (كما هو تاريخها في مواجهة الاحتلال) في هذه المرحلة تحديداً، لجهة ما يحمله من أبعاد ورسائل استراتيجية ستكون حاضرة لدى مؤسسات القرار السياسي والأمني في كيان العدو. ومن أبرز هذه الرسائل أنها تُظهر حقيقة أن الجنوب اللبناني وقاعدة المقاومة، بالمعنى الخاص والعام، موحّدان في خيار المقاومة ضد العدو، وبالتأكيد سيقطع ذلك الطريق على أي أوهام يمكن أن تراوده.
في سياق متصل، فإن معادلة الدم مقابل الدم، إلى جانب كونها رداً على سفك دماء المدنيين، رسالة مدوّية لقادة العدو إزاء مستقبل هذه المعادلة في حال واصلوا السياسة العدوانية التي تستهدف المدنيين كجزء من استراتيجيتهم العملياتية. وهكذا اكتملت عناصر إحباط أهداف هذه الضربات الردعية والسياسية، وتحوّلت إلى عامل إضافي يقيّد خيارات العدو ويفاقم فقدان الشعور بالأمن لدى مستوطنيه ويعمّق مأزقه، ويعزّز موقع المقاومة في المعادلة السائدة.