تُعقد في محكمة العدل الدولية جلسات الاستماع العلنية بين 19 و26 شباط / فبراير 2024، بعدما قبلت المحكمة طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة إصدار رأي استشاري بشأن شرعية السياسات والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وعواقب سلوك إسرائيل على الدول الأخرى والأمم المتحدة. وتستمع المحكمة، بهيئتها المكوّنة من 15 قاضياً، إلى بيانات شفهية مقدّمة من 52 دولة (من بينها لبنان)، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ المحكمة، إضافة إلى مداخلات ستقدّمها ثلاث منظمات إقليمية سمحت لها المحكمة أن تبدي رأيها، وهي منظمة الاتحاد الأفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية. ويأتي طلب الرأي الاستشاري عملاً بالمادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنصّ على أنه «لأي من الجمعية العامة أو مجلس الأمن أن يطلب إلى محكمة العدل الدولية إفتاءه في أيّ مسألة قانونية»، والمادة 65 من نظام محكمة العدل الدولية التي تنص على أن للمحكمة أن تفتي في أي مسألة قانونية بناءً على طلب أي هيئة مخوّلة من قبل أو وفقاً لميثاق الأمم المتحدة لتقديم مثل هذا الطلب».
مسار طلب الاستشارة من محكمة العدل الدولية
إثر عدوان إسرائيل على غزة عام 2021، وبعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 21 أيار /مايو، عقد مجلس حقوق الإنسان في 27 منه، دورة استثنائية بشأن الحالة الخطيرة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية، واعتمد خلالها القرار المعنون «ضمان احترام القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية وداخل إسرائيل». وقرّر المجلس إنشاء لجنة تحقيق على وجه السرعة، وحدّد ولايتها للتحقيق في جميع الانتهاكات والتجاوزات المزعومة للقانون الدولي الإنساني، وجميع الانتهاكات والتجاوزات المزعومة للقانون الدولي لحقوق الإنسان التي سبقت 13 نيسان 2021 ووقعت منذ هذا التاريخ. وتم تعيين أعضائها الثلاثة من جنوب أفريقيا والهند وأستراليا. وطلب قرار ولاية اللجنة التحقيق في جميع الأسباب الجذرية الكامنة وراء التوترات المتكررة وعدم الاستقرار وإطالة أمد النزاع، بما في ذلك التمييز والقمع المنهجيان على أساس الهوية الوطنية أو الاثنية أو العرقية أو الدينية. وينص قرار ولاية لجنة التحقيق على تقديم تقارير إلى مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة سنوياً ابتداءً من حزيران/ يونيو 2022 وأيلول/ سبتمبر تباعاً. وقدّمت لجنة التحقيق الدولية تقريرين، تبيّن لها في الأول أن احتلال إسرائيل المستمر للأراضي الفلسطينية والتمييز ضد الفلسطينيين هما السببان الجذريان الأساسيان وراء التوترات المتكررة وعدم الاستقرار وإطالة أمد النزاع في المنطقة. وفي آخر تقرير لها أمام الجمعية العامة في 27 تشرين الأول /أكتوبر 2022، تبيّن للجنة وجود أسباب معقولة تدعو للاستنتاج بأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بات غير قانوني بموجب القانون الدولي نظراً إلى طول أمده وتدابير إسرائيل المستمرة لضمّ أجزاء من الأرض بحكم الأمر الواقع وبحكم القانون، وأن الأعمال التي تقوم بها إسرائيل تهدف إلى خلق حقائق لا رجعة فيها على الأرض، وتوسيع رقعة سيطرتها على الأراضي المحتلة لعام 1967، وهي انعكاسات لاحتلالها الدائم. وعليه، أوصت لجنة التحقيق الجمعية العامة بإحالة طلب عاجل إلى محكمة العدل الدولية لإصدار فتوى بشأن الآثار القانونية الناشئة عن استمرار إسرائيل برفضها إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية، بما في ذلك القدس الشرقية، والذي يشكل ضماً بحكم الواقع، بالإضافة إلى تلك الآثار الناشئة عن السياسات المتخذة لتحقيق ذلك وعن رفض إسرائيل إنهاء الاحتلال وعدم احترامها لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعلى الفتوى أن توضح ما هي الالتزامات المترتّبة على الدول والأمم المتحدة لضمان احترام القانون الدولي. وبناءً على ذلك، تقدّمت البعثة الدائمة لدولة فلسطين بطلب الفتوى إلى اللجنة الرابعة (اللجنة الخاصة بالمسائل السياسية لإنهاء الاستعمار) في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 11 تشرين الثاني 2022 ووافقت عليه. وفي 30 كانون الأول/ ديسمبر من عام 2022 تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار الرقم 77 /247 (بتصويت 87 دولة ومعارضة 26 دولة وامتناع 53 دولة عن التصويت) يطلب من محكمة العدل الدولية إصدار رأي استشاري بشأن المسائل الآتية:
(أ) ما هي التبعات القانونية الناشئة عن استمرار انتهاك إسرائيل لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، من احتلالها الطويل الأمد واستيطانها وضمّها للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما في ذلك تدابير تهدف إلى تغيير التركيبة الديمغرافية، والطابع والوضع لمدينة
القدس المقدّسة، ومن اعتمادها لتشريعات وتدابير تمييزية ذات صلة؟
(ب) كيف تؤثر سياسات وممارسات إسرائيل المشار إليها على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي التبعات القانونية التي تنشأ عن هذا الوضع بالنسبة إلى جميع الدول والأمم المتحدة؟.
في 3 شباط / فبراير 2023، أعلنت محكمة العدل الدولية عن تلقيها طلباً لتقديم رأيها الاستشاري، وقررت أنه «من المرجّح أن تكون الأمم المتحدة ودولها الأعضاء، وكذلك دولة فلسطين بصفتها مراقباً، قادرة على تقديم معلومات حول الأسئلة المقدّمة إلى المحكمة للحصول على رأي استشاري، ويجوز لها القيام بذلك خلال المهل الزمنية المحددة بشأن هذا الأمر».

موقف «إسرائيل» من طلب الفتوى
سعت إسرائيل إلى عرقلة المساعي الفلسطينية بطلب الرأي الاستشاري من محكمة العدل الدولية. ورغم أن رأي المحكمة غير ملزم، إلا أن الكيان الصهيوني يتخوّف منه من الناحية القانونية، لأنه في حال صدوره، ستكون له تبعات دبلوماسية ودولية ذات أهمية خاصة، قد تكون ضارّة لإسرائيل، ومن شأنها أن تعرّض قادتها لخطر الملاحقة الجنائية القانونية. وصرّح مسؤولون في الكيان المحتل بأنه «في حال قرّرت محكمة العدل في لاهاي أن إسرائيل تمارس احتلالاً طويل الأمد في الضفة الغربية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تعقيد الوضع إلى حد كبير من الناحية القانونية. ومع اعتبار الاحتلال طويل الأمد ضماً فعلياً، مع كل ما يترتب على ذلك من آثار في القانون الجنائي الدولي في مثل هذه الحالة، يمكن فرض عقوبات على إسرائيل، وحتى إدخالها في عزلة سياسية». ورغم معارضتها لقرار طلب الاستشارة، قدّمت إسرائيل بياناً خطياً من خمس صفحات، أهم ما جاء فيه «أن السؤالين اللذين طرحهما قرار الجمعية العامة على المحكمة يمثلان تشويهاً واضحاً لتاريخ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني وواقعه الحالي، وأن طلب الفتوى الوارد فيه يتعارض مع الإطار القانوني المعمول به الذي يحكم الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، ويشكل إساءة استخدام للقانون الدولي والعملية القضائية. وخلافاً لأي تصور للإجراءات القانونية الواجبة، يطلب القرار من المحكمة ببساطة أن تفترض الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي - وأن تقبل، كما هو مذكور، التأكيدات المتحيّزة والمعيبة بشكل واضح الموجّهة ضد إسرائيل وحدها من خلال الإشارة بإصبع الاتهام إلى جانب واحد فقط». وقد قرّر الكيان الصهيوني عدم المشاركة في جلسات الاستماع الشفهية.

أهمية طلب الفتوى
بعد مرور عقدين على رأيها الاستشاري عام 2004 بشأن الجدار الفاصل، تنظر محكمة العدل مرة أخرى في مسألة تتعلق بالاحتلال الإسرائيلي. ولكن المطلوب منها هذه المرة تقييم أكثر شمولاً لممارسات الاحتلال الإسرائيلي، وتقديم مشورة بشأن تطبيق القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان الدولي والقانون الجنائي الدولي. فمنذ صدور الفتوى المتعلقة بالجدار العازل، أمعنت إسرائيل في سياستها الممنهجة القمعية ضد الشعب الفلسطيني، واستمرت في التفتيت المنظّم لوحدة الأراضي الفلسطينية من خلال سياسة الاستيطان وضم الأراضي الفلسطينية قانونياً، بعد أن أحكمت سيطرتها عليها من الناحية الفعلية. كما واصلت محاصرة غزة لمدة 15 سنة حصاراً مطبقاً. وترافق الحصار مع شنّ خمس حروب ارتكبت فيها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وتأتي الحرب الحالية لتجسّد أفعال الإبادة الجماعية.
آراء محكمة العدل الدولية الاستشارية غير ملزمة، لكنها تحمل قيمة معنوية وقانونية لناحية استنادها إلى القانون الدولي، ويمكن أن تصبح في نهاية المطاف جزءاً، من العرف الدولي لكونها أساساً تعتمد مبادئ القانون الدولي وبالتالي قد تصبح ملزمة قانونياً لجميع الدول ومرجعية قانونية لمسألة الاحتلال لأنها توضح موقف القانوني الدولي من مسألة الاحتلال الإسرائيلي. وهذا في حد ذاته سيدعم الحقوق الوطنية الفلسطينية. فالطلب التي تقدّمت به الجمعية العامة حظي بتصويت أغلبية أعضائها وهو تصويت يعكس نوعاً من الإقرار بولاية المحكمة ودعمها في ظل عدم موافقة الدولة الطرف في المسألة المعروضة أي إسرائيل.

الرأي الاستشاري المتوقّع
ويتوقّع خبراء قانونيون أن من الطبيعي أن تصل المحكمة في فتواها المرتقبة للقول إن الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين هو غير قانوني من دولة لدولة أخرى وفقاً لقواعد القانون الدولي، لأن الاحتلال وسياسات الضم على أرض الواقع أصبحا لا رجعة فيهما، رغم تخفّي سلطات الاحتلال تحت ستار أنهما أمر مؤقّت. لكن الواقع يقول إنها تنوي إبقاء سيطرتها على هذه المناطق بشكل دائم. وينوّه القانونيون بأن المحكمة ستنظر في حجة إسرائيل المتمثلة في حقها في الدفاع عن النفس لتبرير احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 وأنه لا يمكن الاستناد إلى هذه الحجة الآن لأنه لا يوجد هجوم مسلح فعلي يبرر الاحتلال بأنه ضروري ومتناسب كوسيلة للدفاع عن النفس. كما أن الدفاع الوقائي عن النفس الذي تستخدمه إسرائيل لتبرير احتلالها، ليس له أساس في القانون الدولي. ومن المنتظر من المحكمة أن تقوم بوضع العديد من الالتزامات على الدول وإلزامها باتخاذ إجراءات لتفكيك الاحتلال وإنهائه. ومن هنا سيتم تطبيق مبادئ المسؤولية القانونية للدول عن الأفعال غير المشروعة دولياً، وهو ما ينطبق على الاحتلال المستمر للأراضي الفلسطينية منذ أكثر من 56 عاماً بعد عقود من مطالبة مجلس الأمن بإنهائه. وبناءً على ذلك، إذا اعتبرت فتوى المحكمة أن الاحتلال فعل غير مشروع، يتعين على إسرائيل إنهاؤه والتعويض واستعادة الوضع الذي كان قائماً قبل الاحتلال، وهو ما ينسجم مع قرارات الجمعية العامة التي تنص على ضرورة قيام إسرائيل بإنهاء احتلالها بشكل كامل ومن دون شروط. كما أن عدم شرعية الاحتلال يرتب ليس فقط مسؤولية على إسرائيل، بل أيضاً على الدول لعدم الاعتراف بأي من الأفعال غير المشروعة دولياً، وينطبق ذلك على الحالات التي يكون فيها انتهاك جسيم للقواعد الآمرة في القانون الدولي وعليها، أي على الدول، الالتزام بعدم تقديم العون أو المساعدة الذي من شأنه أن يساهم في استمرار تلك الأعمال غير المشروعة. ويرى القانونيون أن من النتائج المهمة التي قد تتوصل إليها المحكمة في فتواها قضية حق العودة، فذلك سيكون استكمالاً لعملية إنهاء الاحتلال وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل وقوع الفعل غير المشروع.
السؤال المطروح على المحكمة لا يتعلق بسؤال قانوني معلّق بين طرفين (كما تدّعي إسرائيل)، بل يقع ضمن إطار أوسع من مجرد تسوية نزاع ثنائي بحت، ويدخل أيضاً ضمن التزامات الأمم المتحدة تجاه القضية الفلسطينية. وعليه، فإن طلب الرأي الاستشاري حول شرعية أو لا شرعية الاحتلال لا يمكن اعتباره طلباً يتعلق بنزاع بين طرفين لأن المحكمة ستنظر في ضرورة وتناسب بقاء الاحتلال وفقاً لقانون الحرب وقواعد استخدام القوة وما إذا كانت ممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلي تنتهك قواعد القانون الدولي من عدمه، بما يشمل حق تقرير المصير بطريقة تؤثر في الوضع القانوني للأراضي المحتلة. فحق تقرير المصير، وفقاً للمحكمة، يمثل قاعدة من قواعد القانون الدولي الآمرة تجاه الكافة erga omnes، أي التي تفرض التزامات على كلّ أعضاء المجتمع الدولي، وبالتالي فهي ليست مسألة ثنائية بحتاً. تحديد شرعية أو لا شرعية الاحتلال يمكن فهمها وشرحها من خلال مجموعة عديدة من موضوعات القانون الدولي بما يشمل حق تقرير المصير والاحتلال الاستيطاني والاحتلال الطويل الأمد ونظام الفصل العنصري وقانون اللجوء إلى الحرب والقانون الدولي الإنساني وقرارات الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية وحظر الفصل العنصري وحظر التعذيب، وهذه كلها تتعلق بقواعد غير قابلة للتقييد أو الانتقاص. ولغايات الإجابة على السؤال القانوني الذي تقدّمت به الجمعية العامة للمحكمة، سيتم النظر في جميع هذه الفروع من القانون الدولي.
سبق لمحكمة العدل الدولية أن أصدرت فتوى حول شرعية الاحتلال عام 1971 عندما نظرت في طلب مجلس الأمن لإصدار رأيها بشأن الآثار القانونية المترتّبة بالنسبة إلى الدول على استمرار وجود جنوب أفريقيا (العنصرية آنذاك) في ناميبيا. وتضمّن الرأي ما يلي: «إن حكومة جنوب أفريقيا ملزمة بالانسحاب من ناميبيا لأن استمرار وجودها فيها غير شرعي. إن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ملزمة بالإقرار بعدم شرعية وجود جنوب أفريقيا في ناميبيا وبطلان أعمالها نيابة عنها أو بشأنها، وبالامتناع عن أي تعامل مع حكومة جنوب أفريقيا، يُستدل منها ضمناً على اعتراف بشرعية هذا الوجود وهذه الإدارة».
فهل ستصدر المحكمة رأياً مماثلاً بشأن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؟

* مندوب الصينّ أمام المحكمة: مقاومة الشعب الفلسطيني حق يستند إلى القانون الدولي