أصدرت محكمة العدل الدولية، في 26 كانون الثاني 2024، أوامرها بشأن فرض التدابير المؤقّتة في الدعوى التي تقدّمت بها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، بتهمة انتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وتتضمّن هذه التدابير أن على إسرائيل أن تتخذ كل ما في وسعها، أولاً لمنع ارتكاب كل الأعمال التي تدخل في نطاق المادة الثانية، وثانياً لمنع التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية في ما يتعلق بأعضاء الجماعة الفلسطينية في قطاع غزة والمعاقبة عليه، وثالثاً اتخاذ تدابير فورية وفعّالة لتوفير الخدمات الأساسية والمساعدة الإنسانية التي تمسّ الحاجة إليها لمعالجة ظروف الحياة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة، ورابعاً يجب أن تتخذ تدابير فعّالة لمنع التدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتصلة بادّعاءات ارتكاب أعمال تدخل في نطاق المادتين الثانية والثالثة من اتفاقية الإبادة الجماعية ضد أعضاء الجماعة الفلسطينية في قطاع غزة، وخامساً أن تقدّم تقريراً إلى المحكمة عن كل التدابير المتّخذة لتنفيذ هذا الأمر في غضون شهر واحد اعتباراً من تاريخه، على أن يُرسل التقرير إلى جنوب أفريقيا التي ستتاح لها، خلال أسبوعين، الفرصة لتقديم تعليقاتها عليه إلى المحكمة. في 26 شباط/فبراير، قدّمت إسرائيل تقريرها إلى المحكمة بشأن الإجراءات التي اتخذتها امتثالاً لأوامر المحكمة. وقد أُعلن أن التقرير سيبقى سرياً، ولا يمكن لأحد الاطّلاع على مضمونه سوى جنوب أفريقيا ومحكمة العدل الدولية. لذلك صدرت تكهّنات عدة حول فحوى التقرير منها ما رجّح «أن يكون قصيراً، ويتناول بشكل أساسي الأدلة التي تثبت أن إسرائيل تفي بالتزاماتها الإنسانية تجاه سكان غزة، وتلتزم بالإجراءات المؤقّتة التي أمرت بها المحكمة». وذكرت وسائل إعلام العدو أن التقرير سيركّز على الخطوات التي تم اتخاذها لتنفيذ الأوامر بما فيها نقل المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة والحفاظ على الأدلة ذات الصلة بالقضية، وأن وزارتَي العدل والخارجية (في الكيان الصهيوني) عمدتا إلى صياغة التقرير على نحو يؤكد أن المسائل التي صدرت بشأنها التدابير المؤقتة ستُنفذ في كل الأحوال حتى من دون أن تصدرها المحكمة، وأن قوات الاحتلال تسمح للمدنيين بمغادرة المناطق التي يدور فيها قتال في غزة، وفقاً للقانون الدولي»، وتحقق في «جرائم حرب مشتبه بها، وحالات تحريض تدعو إلى إيذاء المدنيين في غزة».

إسرائيل لم تنفذ أوامر المحكمة
استبقت منظمة «هيومن رايتس ووتش» التقرير الإسرائيلي، وأصدرت في 26 شباط/ فبراير بياناً أكّد أن إسرائيل لم تنفذ أياً من أوامر محكمة العدل الدولية، خصوصاً بالنسبة إلى توفير المساعدات الإنسانية. وفي ما يأتي أبرز النقاط التي وردت في البيان:
ـــ لم تمتثل إسرائيل لأمر المحكمة باتخاذ إجراءات فورية وفعّالة للسماح بتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية اللازمة لحياة المدنيين اليومية. واستمرت في عرقلة دخول المساعدات والوقود وغيرها من الضروريات الحياتية للسكان، ممارِسة في ذلك عقاباً جماعياً يرقى إلى جرائم حرب. وهي سمحت بدخول بعثات إغاثة إلى شمال غزة، ولكن بعدد أقل مما كان يُسمح به قبل صدور أمر المحكمة بالتدابير المؤقتة.

استخدام التجويع كسلاح حرب: يعاني مليونا شخص في غزة من الجوع نتيجة الحصار ومنع إدخال المساعدات الغذائية وتدمير المناطق الزراعية. ولفت البيان إلى أن إسرائيل تستخدم التجويع كسلاح حرب، وهو ما يحظره القانون الدولي الإنساني. كما ينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن تجويع المدنيين عمداً بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم هو جريمة حرب، لا يتطلب القصد الجرمي فيها اعتراف المرتكب، ولكن يمكن استنتاجه من مجمل ملابسات الحملة العسكرية. كما أن الحصار الإسرائيلي المستمر لقطاع غزة فضلاً عن الحصار المستمر منذ 16 سنة يرقيان إلى مصاف العقاب الجماعي للسكان المدنيين، وهو أيضاً يشكل جريمة حرب. وباعتبارها القوة المحتلة في غزة، بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، من واجب اسرائيل أن تضمن حصول السكان المدنيين على الغذاء والدواء. ويلحظ البيان أن الأوضاع تفاقمت على نحو أكثر مما كانت عليه قبل صدور أوامر المحكمة، ما يعني أن إسرائيل تجاهلت الأوامر المتعلقة بتوفير المساعدات الإنسانية فوراً. ولفت إلى أن على الدول الأخرى استخدام كل أشكال النفوذ بما فيها العقوبات والحظر (مثل حظر توريد الأسلحة وغيرها) للضغط على الحكومة الإسرائيلية للامتثال لأوامر المحكمة وتنفيذ التدابير المؤقتة الملزمة.
ـــ استمرار إسرائيل في قطع إمدادات الكهرباء والمياه عن قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر. كما تسببت العمليات العسكرية الجوية والبرية في تدمير واسع للبنية التحتية للقطاع، وأعاقت اسرائيل أي عملية إصلاح للبنية التحتية للمياه. ووفقاً لبيانات الاأنروا، تراجع عدد شاحنات الغذاء والمساعدات والأدوية التي تدخل إلى غزة بأكثر من الثلث في الأسابيع التي تلت قرار المحكمة. فبين 27 كانون الثاني/ يناير و21 شباط/ فبراير، دخلت 93 شاحنة إلى القطاع، مقارنة بـ 147 شاحنة بين 1 كانون الثاني/ يناير و26 منه. وقبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر، كان مليون شخص يواجهون انعداماً حاداً من الأمن الغذائي بسبب الإغلاق، وكان 80% من السكان يعتمدون على المساعدات الإنسانية، في وقت كانت تدخل غزة يومياً 500 شاحنة محمّلة بالبضائع.
ـــ منذ صدور أوامر المحكمة في 26 كانون الثاني/يناير، دمّرت إسرائيل مكاتب منظمتين إنسانيتين واتخذت خطوات لتقويض عمل الأونروا. وبحسب وصف مفوّضها العام في رسالة له إلى الجمعية العامة، فإن الوكالة وصلت إلى نقطة الانهيار بسبب تعليق حكومات متعددة تمويلها والحملة الإسرائيلية لإغلاقها.
ـــ في 19 شباط/ فبراير أكّدت اليونيسف أن 90% من الأطفال دون سن الثانية و95% من النساء الحوامل والمرضعات يواجهون فقراً غذائياً حاداً. وفي 22 من الشهر نفسه، ذكرت منظمة «إنقاذ الأطفال» أن العائلات في غزة تضطر للبحث عن بقايا الطعام في مخلّفات الفئران ولأكل أوراق الشجر للبقاء على قيد الحياة، وحذّرت من أن حوالي مليون طفل يواجهون خطر التجويع.

■ خطة التهجير القسري: كانت رفح، قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر، تؤوي حوالي 280 ألف شخص، ارتفع عددهم بعد اندلاع الحرب وإرغام السكان على النزوح جنوباً إلى 1.7 مليون شخص. إعلان الحكومة الإسرائيلية عن خطة محتملة لإخلاء رفح من أجل القيام بعملية عسكرية للقضاء على حركة حماس، دفع بجنوب أفريقيا للطلب إلى محكمة العدل الدولية اتخاذ تدابير إضافية. لكنّ المحكمة رأت أن التدابير التي أصدرتها كافية لمواجهة الوضع الخطير في غزة، وعلى إسرائيل واجب التنفيذ. ويحظر القانون الدولي الانساني تهجير المدنيين عمداً إلا في حالة أن يكون مؤقتاً وضرورياً لحمايتهم أو لأسباب عسكرية قهرية. وقد حذّرت منظمات دولية من تزايد خطورة التهجير القسري أثناء الأعمال القتالية مؤكدة أن أي تهجير سيقع هو جريمة حرب. ويستمر القانون الدولي الإنساني بحماية المدنيين الذين لن يتمكنوا من الإخلاء بعد تلقي التحذيرات للقيام بذلك بسبب أوضاعهم الصحية أو الخوف أو عدم وجود مكان يلجأوون إليه. لذا، فإن إجبار أكثر من مليون نازح فلسطيني في رفح على الإخلاء مجدداً من دون توفر مكان آمن لهم، غير قانوني وستكون له عواقب كارثية، وعلى المجتمع الدولي اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع حدوثه.

سرية تقرير الامتثال لأوامر المحكمة
في مرافعتها الشفهية أمام محكمة العدل الدولية في 11 كانون الثاني/ يناير، طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة أن «تقدّم إسرائيل تقريراً إلى المحكمة بشأن جميع التدابير المتخذة لتنفيذ الأمر ، ......، ويجب نشر هذه التقارير من قبل المحكمة». لكن التقرير الذي سلّمته إسرائيل للمحكمة سيبقى سرياً. بالعودة إلى السوابق المماثلة، يتبين أنه في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، تقدّمت غامبيا بطلب إلى محكمة العدل الدولية لإقامة دعوى ضد ميانمار لانتهاكها اتفاقية منع الإبادة والمعاقبة عليها. وفي 23 كانون الثاني/ يناير 2020، أصدرت المحكمة أمراً يطلب إلى ميانمار اتخاذ تدابير مؤقتة ملزمة لمنع خطر أو احتمال وقوع أعمال الإبادة الجماعية ضد أقلية الروهينغا، والحفاظ على أدلة ما وقع من هجمات عدائية عام 2017، ويتعين على ميانمار أن تقدّم تقريرها خلال أربعة أشهر من تاريخ صدور الأمر، على أن تلتزم بتقديم تقارير دورية كل ستة أشهر. والهدف من التقارير تمكين المحكمة من تقييم مدى ملاءمة التدابير المتخذة وكفايتها، والنظر في ما إذا كان من الجائز اتخاذ تدابير إضافية. وقد تم تصنيف التقريرين الصادرين عن ميانمار على أنهما سريّان.
من الناحية القانونية، لا يوجد في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية أو في قواعد عمل المحكمة الداخلية ما يفرض أن تكون التقارير حول تنفيذ التدابير المؤقتة علنية، كما أن السرية قد تكون أكثر فائدة، إما لتشجيع الطرف المعني على تقديم بياناته على نحو صريح ودقيق، أو لأن ما ورد فيها قد يشكل انزعاجاً أو يسبب ردة فعل سلبية أو إحباطاً إذا لم يكن بالمستوى المطلوب وعلى قدر من الجدية التي تتطلبها الأوضاع الخطرة. وفي كل الأحوال، فليس هناك ما يمنع نشرها في مرحلة لاحقة، خصوصاً بعد صدور حكم نهائي، ونشر المحكمة تفاصيل الدعوى والوثائق المتعلقة بها. ولكن، ثمة من يرى ضرورة نشر تقارير الامتثال فور تقديمها للمحكمة. وبالعودة إلى تقارير ميانمار «السرية»، أوضح عدد من القانونيين أن ضرورة نشر التقارير تبررها الحجج الآتية:
أولاً، أن القضية تتعلق باتفاقية منع الإبادة والمعاقبة عليها، وهي اتفاقية ملزمة لكل الدول الموقّعة، وعلى كل طرف التزامات وحقوق تتعلق بالقضية نفسها، والطابع السري لتقارير الامتثال لن يسمح للدول بتقييم التزاماتها وتحديد ماهية الإجراءات الواجب عليها اتخاذها لناحية منع الإبادة والمعاقبة عليها. فالدول الأطراف ملزمة كلها بمنع الإبادة متى علمت بوجود خطر أو احتمال حقيقي بارتكاب أعمال إبادة لتقرر كيفية التعامل مع الدولة المرتكبة.
عدم نشر التقارير سيستبعد الدول الأطراف ويحبط قدرتها على تحديد ما إذا كانت ستتدخّل في الدعوى


ثانياً، سرية تقارير الامتثال لن تسمح أيضاً لمجلس الأمن بأن يمارس وظيفته في حفظ الأمن والسلم الدوليين. فمحكمة العدل الدولية يفترض أن تنشر تقارير الامتثال ليتمكن مجلس الأمن من اتخاذ الخطوات اللازمة في حال تبيّن أن الدولة «المرتكبة» لم تلتزم بالتدابير المؤقتة.
ثالثاً، سرية تقارير الامتثال للتدابير المؤقتة لن تمنح الفرصة للضحايا للمشاركة الفعّالة في الضغط على الدولة المعنية لتنفيذ التدابير أو التأكد ما إذا كانت التقارير الصادرة عنها دقيقة وصحيحة أو مجافية للحقيقة.
رابعاً، نشر تقارير الامتثال يتسق مع نص وروح اتفاقية منع الإبادة والمعاقبة عليها ومع ميثاق الأمم المتحدة، وعدم نشرها بداية يضعف للوهلة الأولى فعالية التدابير المؤقتة ويمنع الأطراف الثالثة (دول ومنظمات دولية حكومية وغير حكومية) من مراقبة الدولة الملزمة بالتدابير ومتابعة إجراءاتها العملية للتنفيذ الفعلي.
بناءً على ما سبق، يُعتبر نشر تقارير الامتثال للتدابير المؤقتة تحقيقاً للمصلحة العامة المشتركة المتمثّلة بمنع جريمة الإبادة. فالمنع هو التزام تجاه كلّ الدول، وليس فقط التزاماً على من تقدّم بالدعوى. فالنزاع هنا ليس ثنائياً، بل يتعلق بالتزامات منبثقة عن الاتفاقية ذات حجية مطلقة على الدول كافة. وعدم نشر التقارير سيؤدي إلى استبعاد الدول الأطراف ويحبط من قدرتها على تحديد ما إذا كانت ستتدخل في الدعوى أو حتى في التدابير المؤقتة. فالاطّلاع على تقرير الامتثال للتدابير المؤقتة سيساعد الدول الأخرى على تحديد موقفها، سواء باتخاذ إجراءات محددة تجاه الدولة المرتكبة إذا تبيّن أنها لم تمتثل لأوامر المحكمة، أو أن تساعدها على تنفيذ أوامر المحكمة، أو أن توظف نفوذها في الأمم المتحدة للضغط عليها أو تقديم المساعدة للضحايا. لذلك، فإن عدم تقديم المحكمة أسباباً مقنعة حول الوضع السري لتقارير الامتثال للتدابير المؤقتة، سواء بالنسبة إلى دعوى غامبيا ضد ميانمار أو دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، من شأنه أن يقوّض ثقة العامة والضحايا بالمحكمة، ويشكّك في القيمة الحقيقية للتدابير المؤقتة.