تؤكد قرارات الأمم المتحدة بشأن السلام أنّ الحفاظ عليه مهمة مشتركة لجميع أجهزتها وللدول الأعضاء والمجتمعات المدنية المعنية، كما تسعى إلى توسيع نطاق فهم عملية بناء السلام لتشمل ليس فقط حل الصراع، بل منع تكراره، عبر معالجة - من بين أمور أخرى- أسبابه الجذرية، لأن هذا من شأنه أن يحول دون وقوع الأجيال المقبلة في دائرة العنف مرة أخرى، وهذا ما يعرف بالسلام المستدام. ولكن، هل مفهوم السلام المستدام قابل للتطبيق على الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي؟
الحفاظ على السلام: نهج جديد
في تسعينيات القرن العشرين، كان بناء السلام يُفهم في الأمم المتحدة، في الغالب، على أنه بناء لسلام بعد صراع. لكن ذلك تغيّر عام 2002 مع البيان الرئاسي لمجلس الأمن حول خطورة الحالة في الشرق الأوسط وضرورة التوصل إلى حل شامل للمشكلة. وجاء قرار إنشاء لجنة بناء السلام عام 2005، ليوسع من مفهوم السلام كي يشمل منع اندلاع أو تكرار أو استمرار النزاع المسلّح. لكن، كيف يمكن تحقيق السلام بين أطراف متصارعة؟ هل يعني السلام أنه لا توجد حرب؟ وما الذي يضمن بقاء الاتفاق السلمي واستمراره للأجيال المقبلة؟
من هنا، تطرح فكرة السلام المستدام ضرورة بناء مجتمع سلمي يوجه ثقافته وتطوره الثقافي نحو السلمية، وتبني الأفكار والمعايير والقيم والأنظمة، والمؤسسات الثقافية التي تقلل من العنف وتعزز السلام. وبالتالي، يتعين على كل من أطراف النزاع تطوير قيم سلمية للحفاظ على اتفاقيات السلام. ولتحقيق المجتمع السلمي المنشود، فإنّ إحدى أفضل الطرق لحل الخلافات بين الدول هي معرفة تاريخها وثقافتها والظروف التي أدت إلى الصراع. وفقاً لذلك، فإن السلام هو حالة يتفق فيها الطرفان على احترام أحدهما الآخر، والاستعداد للعيش جنباً إلى جنب، والعمل على استمراره. واتخذت الأمم المتحدة مبادرات لمناقشة بناء السلام والحفاظ عليه. وجاءت الإشارة الرئيسية إلى المفهوم الجديد لاستدامة السلام مع إصدار قرارين متطابقين اعتمدتهما الجمعية العامة ومجلس الأمن في 27 نيسان/ أبريل 2016 بشأن بناء السلام (A/RES/70/262) و 2282 على التوالي. لم يعد يُنظر إلى بناء السلام على أنه نشاط ما بعد الصراع فقط، بل ينبغي أن يكون أولوية قبل الصراع وأثناءه وبعده. وهكذا، فإن استدامة السلام تتطلب منظوراً طويل الأجل، يجب أن يشمل الأنشطة الرامية إلى منع نشوب الصراع واستمراره وتصعيده وتكراره، ومساعدة الأطراف على المصالحة والتعافي وعمليات إعادة الإعمار والتنمية، واعتماد عملية سياسية لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع، من أجل إنهاء الأعمال العدائية عبر الحلول السياسية. ويمكن تحقيق ذلك عبر وضع نهج شامل لإنهاء الصراع إلى الأبد. ومن ناحية أخرى، يحتاج إلى بناء المجتمع بعد الصراع إلى تهيئة المناخ المناسب الذي من شأنه أن يعطي الفرصة للمشاركة الشاملة في الحوار والانتخابات والسلامة والأمن وسيادة القانون وحقوق الإنسان.
واحدة من التقنيات الرئيسية لتحقيق السلام المستدام هي معالجة جذور الصراع. في حالتنا هنا، ومن أجل تطبيق مفهوم السلام المستدام المشار إليه أعلاه، يجب معالجة جذور الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. وأكبر معضلة وعقبة تواجه أي محاولة لحل هذا الصراع، تأتي من حقيقة أن جذوره تنبع من أسس أيديولوجية – توراتية أُنشئت على أساسها عام 1948 دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وكانت بدايات الظلم المستدام.

الأيديولوجية والتشريعات
خلال الأعمال العدائية التي واكبت قيام إسرائيل عام 1948، تم تهجير معظم الفلسطينيين، وبقي عدد قليل منهم في ما بات يُعرف بأراضي الـ48، كأقلية ضمن غالبية من السكان اليهود الذين استُقدموا من الشتات، لتكون إسرائيل وطناً لكل يهود العالم. وقبل إعلان ما يسمى بــ «دولة إسرائيل»، صرّح بن غورين بأنه «لا يحق لأي يهودي التخلي عن حق الأمة اليهودية في الوجود في أرض إسرائيل... لن يتوقف هذا الحق تحت أي ظرف من الظروف. حتى لو أعلن البعض في بعض الأحيان أنهم يتخلّون عن هذا الحق، فليس لديهم القوة ولا السلطة لإنكار هذا الحق للأجيال القادمة... حقنا في هذه الأرض، كل ذلك، صحيح وشرعي إلى الأبد». (دايفيد بن غوريون، خطاب أمام المؤتمر الصهيوني الـ21، بازل، 1937). وتطبيقاً لهذه المقولة، تبنت إسرائيل منذ قيامها تشريعات تعكس بوضوح أيديولوجية الدولة وقيمها، أهمها:
1- قانون العودة لعام 1950 وينص في مادته الأولى على أنه «يحق لكل يهودي أن يهاجر إلى إسرائيل»، فيما منح قانون الجنسية لعام 1952 الجنسية الإسرائيلية تلقائياً لليهودي الذي يستقر في إسرائيل. واعتبرت هذه الهجرة غير المقيدة من قبل اليهود جزءاً لا يتجزأ من التطلع إلى دولة يهودية، بالنسبة إلى اليهود من جميع أنحاء العالم باستثناء الفلسطينيين. فلا حق لأصحاب الأرض في العودة التي تقتصر على اليهود فقط.
2- وفقاً لقانون عام 1985، يُمنع من الترشح لانتخابات الكنيست أي مرشح يرفض وجود إسرائيل كدولة للشعب اليهودي.
3- مجتمع أحاديّ الثقافة ضد مجتمع متعدد الثقافات: تعكس رموز الدولة التقاليد والتراث اليهودي. فالمهمة الخاصة لإسرائيل هي تشكيل الدولة القومية لليهود والحفاظ على الثقافة القومية اليهودية وتعزيزها، وبالتالي لا يوجد مكان للتعددية الثقافية في المجتمع اليهودي. والتعريف الذاتي للدولة كدولة لمجموعة عرقية واحدة يستبعد ضمنياً الآخرين. وبمقتضى القانون،على القاضي الإسرائيلي الذي يواجه مسألة قانونية تتطلب قراراً ولا يجد إجابة عنها في القانون التشريعي أو السوابق القضائية أو عن طريق القياس، أن «يبت فيها في ضوء مبادئ الحرية والعدالة والإنصاف والسلام لتراث إسرائيل». وبما أن إسرائيل تُعرف تشريعياً بأنها دولة يهودية، فإنّ «تراث إسرائيل» يعني التراث اليهودي، ولا اعتبار للتراث العربي أو المسيحي أو الإسلامي!
4- ضم الأراضي وسياسة التهويد: إسرائيل دولة يهودية في الممارسة العملية، وهذا يعني أن مؤسسات الدولة وسياساتها مصمّمة لضمان استمرار الغالبية اليهودية. منذ عام 1967 وسّعت إسرائيل هذا الإطار ليشمل الأراضي المحتلة في عملية تعرف باسم «الضم الزاحف»، هدفها الاستراتيجي السيطرة الدائمة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي مع حد أدنى من العرب.
5 - الفصل العنصري ضد الأقلية العربية الفلسطينية: قانون العودة وقانون الجنسية يضران بالعرب الفلسطينيين في أراضي الـ48 وينتهكان معايير حقوق الإنسان، وقد وصفا بأنهما انعكاس لــ «الفصل العنصري القانوني».
6 - قانون يهودية الدولة: يعتبر قانون يهودية إسرائيل الصادر في تموز 2018 إعلاناً رسمياً بعنصرية هذا الكيان، فهو نص على أن إسرائيل هي حصراً دولة الشعب اليهودي، وهم وحدهم من تحقّ لهم المطالبة بحق تقرير المصير.
7- ترسيخ قيم الصهيونية في القرارات الحكومية: في نيسان/ إبريل 2023، صادقت حكومة العدو على مشروع قرار ينص على إيلاء القيم الصهيونية وزناً حاسماً في قراراتها، لتصبح الصهيونية بموجبه قيمة إرشادية وحاسمة في أعمال وزارات الحكومة، والهدف تثبيت سياسة الاستيطان والأمن للمستوطنين وإعطاء الأولوية لتثبيت حق اليهودي في أرضه وتقوية وجوده في النقب والجليل ويهودا والسامرة (الضفة الغربية).

أوسلو واستمرارية الصراع
بعد أكثر من 30 عاماً، فشلت اتفاقيات أوسلو في إحلال السلام وفي تحقيق حل الدولتين. من أهم أسباب فشلها، أنها تضمنت بنوداً تخالف القانون الدولي، ما يجعلها وثيقة غير قانونية ولا يعتد بها. فقد قامت الاتفاقية على أساس بند جوهري، وهو اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في الوجود على 78% من أراضي فلسطين (وفي ذلك مخالفة لقرار التقسيم 181)، وعلى نبذ المنظمة المقاومة المسلحة وانتهاج المفاوضات كحل وحيد لاسترداد الحق الفلسطيني مع تجريم المقاومة واعتبارها إرهاباً (في مخالفة صريحة لحق تقرير المصير وهو حق ثابت في القانون الدولي للشعوب الرازحة تحت الاحتلال والاستعمار، أكدت عليه قرارات الأمم المتحدة).
إذا قبلت إسرائيل فكرة الدولتين يعني أن عليها الفصل العنصري والاستيطان وعودة اللاجئين هو أمر لن يتحقق لأن تبني قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان يعني حتماً زوالها ككيان سياسي

لك أعطت اتفاقية أوسلو سلطة الاحتلال الحق في اقتحام ومطاردة من تشاء في الأراضي المحتلة بذريعة الحفاظ على أمنها وأمن مستوطناتها. أما ملحق أوسلو الاقتصادي، فقد نتجت منه تبعية فلسطينية مالية واقتصادية لحكومة العدو فقدت معها استقلالها الاقتصادي. ولم توقف الاتفاقية سياسة الاستيطان ولا خطط تهويد القدس وإعلان يهودية الدولة العبرية على كامل أراضي فلسطين.
بعد أوسلو ماذا حدث؟ انتفاضتان في عامَي 2000 و2005، وفي عام 2021، و4 حروب في قطاع غزة، وإبادة جماعية مستمرة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مع حرب تجويع، وشهداء تجاوز عددهم الـ 30 ألفاً، ومشروع تهجير جديد لسكان غزة!
بعد 30 عاماً من أوسلو، أولئك الذين كانوا يبلغون من العمر 5 سنوات عند توقيع الاتفاقية، كانوا جزءاً من الانتفاضة الأخيرة في فلسطين في أيار/ مايو 2021. فالمقاومة لا تسقط باتفاقيات «تسوية»، ولا بمرور الوقت.

ما هو الحل الجذري للصراع القائم فوق أرض فلسطين؟
النقطة الرئيسية التي يجب إثارتها هي أن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي لا يشبه أي صراع دولي آخر. فهو ليس بين دولتين حول حدود مشتركة، بل أقرب للصراع الذي كان قائماً بين القوى الاستعمارية الغابرة والأمم الخاضعة لحكمها، وبين الشعوب الأفريقية ونظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا. فالصراع في فلسطين منشؤه استيطان غير شرعي لمجموعة من اليهود تم جلبهم من أنحاء العالم بتشجيع من القوى العظمى، لإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين. وإسرائيل تقوم على أسس أيديولوجية لاهوتية مقدسة تدعي أن فلسطين هي أرض الميعاد للشعب اليهودي، تماماً كما ادعى الاستيطان الأوروبي عند استيلائه على الأراضي الأفريقية. تغذي أيديولوجية ما يسمى بالدولة الإسرائيلية العنف، والقيم المقدسة التي يعتنقها الإسرائيليون تم تنفيذها بالقوة، وتسبّبت في حروب متتالية على مدى السنوات الـ 75 الماضية. وإذا قبلت إسرائيل فكرة الدولتين، فهذا يعني أن عليها التخلي عن قيمها «المقدسة» وأساس وجودها، أي التنازل عن يهودية الدولة والفصل العنصري ووقف الاستيطان وعودة اللاجئين، هو أمر لن يتحقق، لأن تبني قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان يعني حتماً زوالها ككيان سياسي.

العقد الرابع وزوال الاستعمار
عام 1960، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 1514 التاريخي المتعلق بمنح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة. وأكد الإعلان حق الشعوب في تقرير المصير وضرورة الإنهاء السريع وغير المشروع للاستعمار. وبعد عامين، تم إنشاء اللجنة الرابعة المعنية بإنهاء الاستعمار ورصد تنفيذ الإعلان. وفي عام 1990، أعلنت الجمعية العامة عن العقد الدولي الأول لإنهاء الاستعمار، وامتد من عام 1990 إلى عام 2000. وتلا ذلك، الإعلان عن العقد الدولي الثاني الذي بدأ عام 2001 ثم العقد الثالث بين عامَي 2011 و2020. وفي عام 2020، أعلنت الجمعية العامة بدء العقد الرابع (2020 - 2030) للقضاء النهائي على الاستعمار في العالم. وطالبت جميع الدول بالعمل على تنفيذ قرارها المتعلق بمنح الشعوب المستعمرة حقها في تقرير مصيرها وإنهاء السيطرة الأجنبية عليها.

من أهم أسباب فشل اتفاقيات أوسلو تضمنها بنوداً تخالف القانون الدولي ما يجعلها وثيقة غير قانونية ولا يعتد بها


تُعدّ حالة فلسطين من ضمن الحالات التي تقع ضمن نطاق اللجنة الرابعة الملتزمة بمتابعة تنفيذ سياسة القضاء على الاستعمار بكل صوره، والمعنية بمتابعة تقرير اللجنة الخاصة بالممارسات الإسرائيلية التي تؤثر في حقوق الشعب الفلسطيني وغيره من العرب في الأراضي المحتلة. وهي اللجنة التي رفعت إلى الجمعية العامة طلب الفتوى من محكمة العدل الدولية حول التبعات القانونية للممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة والآثار القانونية المترتبة على الأمم المتحدة والدول الأعضاء. لذا، فإنّ صدور الفتوى عن محكمة العدل الدولية سيتزامن مع العقد الرابع لإنهاء الاستعمار، ومن المتوقع أن تؤكد ما أكدته سابقاً في فتواها حول الجدار العازل، أن الوجود الإسرائيلي في الأراضي المحتلة هو احتلال غير شرعي ويتعين الانسحاب من الأراضي المحتلة، وعلى الأمم المتحدة والدول الأعضاء العمل على ضمان التنفيذ والتعامل مع الكيان المحتل على أساس أنه غير شرعي.



جنوب افريقيا تكرّر طلب الحماية للفلسطينيين


قدمت جمهورية جنوب أفريقيا، في 6 آذار 2024، طلباً عاجلاً للإشارة بتدابير مؤقتة إضافية وتعديل أمر التدابير المؤقتة السابقة المؤرخ في 26 كانون الثاني 2024 والقرار المؤرخ في 16 شباط 2024، في القضية المتعلقة بتطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة والمعاقبة عليها (جنوب أفريقيا ضد إسرائيل). وفي طلبها الجديد، ذكرت جنوب أفريقيا أنها «مضطرة للعودة إلى المحكمة في ضوء الوقائع الجديدة والتغيرات في الحالة في غزة - ولا سيما حالة المجاعة الواسعة النطاق - الناجمة عن الانتهاكات الصارخة المستمرة لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها... من قبل دولة إسرائيل... وانتهاكاتها المستمرة الواضحة للتدابير المؤقتة التي أشارت إليها هذه المحكمة في 26 كانون الثاني 2024». وطلبت من المحكمة أن تشير إلى مزيد من التدابير التحفظية و/أو أن تعدل التدابير المؤقتة المشار إليها في أمرها المؤرخ في 26 كانون الثاني 2024، من أجل ضمان سلامة وأمن 2.3 مليون فلسطيني في غزة على وجه السرعة، بما في ذلك أكثر من مليون طفل». ويحث الطلب المحكمة على القيام بذلك من دون عقد جلسة استماع، في ضوء «الإلحاح الشديد للحالة».