كأنّ عالم المسرح وشخوصه ملوك ورعيّة ومهرّجون في حالة انتقال إلى لوحة التشكيليّ السوريّ غيلان الصفدي، وهذا دأبه في عدد من معارضه منذ سنين، وها هو يستمرّ في الرؤية عينها في معرضه الجديد الذي تحتضنه غاليري Art on 56th تحت عنوانEvery Table Has a Story أو «لكلّ طاولة قصة». علماً أنّ الوجوه كثيرة والطاولات قليلة وكان حريّاً به تسمية معرضه «لكلّ وجه قصة»، إذ يمسرح تلك الوجوه ويهبها مشاعر وملامح، حزينة ومكتئبة غالباً، بتأثّر جليّ من احتكاكه العمليّ بالعرض المسرحيّ كمصمّم لشخوص مسرح الظلّ، فضلاً عن تأسيسه معهد «القمة» في السويداء لتدريس الأطفال المسرح والفنون. مع أنّه خرّيج اختصاص الرسم في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام 2002، إلا أنّ عالم الفرجة المسرحية جذبه أيضاً فاستلهمه للوحاته.
«طاولة الصبّار والسمك» (أكريليك على كانفاس ــــ 110x120 سنتم ــــ 2023. بإذن من صالة Art on 56th)

‏السمة التي تقفز إلى عين زائر المعرض هي ازدحام اللوحات بكمّ هائل من الوجوه التي قد تستدعي تمحيصاً وتدقيقاً في ملامح كلٍّ منها، بحيث يبدو أنّ أمراً ما فاق الحدّ وبات ينتمي إلى «التعجيق» المبالغ فيه، فلا بدّ من طرح السؤال: هل تحتاج اللوحة إلى هذا العدد من الوجوه التي تُشتّت الانتباه وتفقد التأثير وبؤريّة التركيز؟! يمكن اعتبار الأمر «ميزة» في أسلوب الصفدي و«عيباً» في الوقت نفسه لناحية الحشو والمبالغة وتحميل فضاء اللوحة أكثر ممّا يحتمل. صاحب الأسلوب القريب من أوتو ديكس، الذي قد يكون من المؤثّرين في الصفدي، هو رسّام وجوه تراجيدية وكئيبة لا يضمّن لوحاته أكثر من وجهين أو ثلاثة، أو يكتفي غالباً بوجه واحد، فيجعله بورتريهاً قاسياً على طريقته. وإذا ضمّن ‏لوحته مجموعة شخوص ‏في حالة استثنائية، ففي الخلفية المظلّلة وغير الواضحة. ولو عدنا إلى اللوحات المستوحاة من «الكوميديا دي لارتي» ومهرّجيها وبهلوانييها، لما رأينا مثل هذا «التعجيق» الذي نراه في لوحات الصفدي.
لو تجاوزنا الجانب السلبيّ تشكيليّاً و«توازنيّاً»، إذا جاز التعبير، يمكننا البحث في الأبعاد الدرامية الكامنة في زحمة الوجوه وافتراض ‏أنّها اختزال لمجتمعاتنا العربية، وتحديداً السوريّة عقب المأساة التي عصفت بالوطن السوريّ وشعبه، أو شعوبه ويا للأسف، على ما ظهر. إذ شاء الصفدي الترميز إلى فئات المجتمع بسائر أطيافه، من «الملك» المتوّج أو الرئيس، إلى مهرّجي البلاط أو السلطة، فالناس الخاضعين كباراً وصغاراً، ونساءً ورجالاً، على اختلاف انتماءاتهم وطوائفهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، وهم يحملون القنوط والحزن والذبول في ملامح وجوههم، ‏رغم الألوان الدافئة التي لجأ إليها الفنان بعد مرحلة سابقة بالأبيض والأسود. بعض هذه الوجوه طمست ملامحه، والبعض الأغلب اجتهد الصفدي في رسم تنويعات عليه كي لا تتشابه الأحاسيس وتتناسخ ‏التعابير، ويُحسب ‏له ذلك لإقامة الفروق وجذب الانتباه إليها رغم ضنى ‏المهمّة. ‏كما يُحسب ‏للفنان أنّ ‏وجوهه ‏أثارت اهتمام المشاهد الغربيّ ‏حيث شارك الصفدي في معارض بين لندن وباريس وتورينو ‏وبرلين ‏وسواها. ‏شيء ما معبّر استدعى ‏الانتباه إلى تلك الوجوه التي تعبّر ‏بوضوح عن قنوط وخَدَر ويأس وانتظار، ‏في أسلوب يميل بوضوح إلى التعبيرية «الممسرحة» ‏وتكثيف للألوان وتشديد على الكتلة وتكوينات بسيطة واضحة تسعى ‏إلى الإفصاح عن الرمز عبر وجوه فقدت معنى الحياة ومذاقها، ‏جامدة في مكانها، ‏ذات نظرات شاردة، ‏قلقة، ‏حائرة أمام سؤال الواقع والمصير. واللافت أن وجوه لوحاته متماثلة في وضعيّاتها ونظراتها، فلا فرق بين نظرة الملك ونظرة المهرّج ونظرة الإنسان العادي. جميعهم في حالة من الجمود والسؤال، والألوان الغنيّة لا تعكس المشاعر الداخلية بل هي في تضادّ معها، عمداً واختياراً. بعد تحوّله من الأبيض والأسود إلى الألوان، يريد الفنان جذب نظر المتلقّي أولاً، ثمّ دفعه إلى الغوص في كآبة الوجوه وحزنها الداخلي وإحساسها بالفراغ المهيمن.
أسلوب يميل بوضوح إلى التعبيرية «الممسرحة»


‏تتفاوت مهارة التشكيل والتكوين والتلوين بين لوحة وأخرى في المعرض، فقد نرى في إحداها («طاولة الموسيقى» ـــ أكريليك على كانفاس ـــ‏ 140x180سنتم) توازناً هندسياً وتلوينيّاً رغم غزارة العناصر والمفردات التي تمزج الوجوه بالأشكال، فيما نلمح ضعفاً في عدد من اللوحات للنواحي عينها تكويناً ومناخاً لونيّاً (حيث يطغى الأحمر القاني مثلاً بلا مبرّر جماليّ أو تعبيريّ). تفاوتٌ يثير استغراباً ويطرح سؤالاً: لِمَ يستطيع فنان أن يرضينا ويدهشنا بلوحة، في مقابل لوحات تولّد لدينا شعوراً مؤسفاً بالخيبة؟ هل في الأمر سرعة وتسرّع واستسهال؟ ربما. لعلّ العطب الأساسيّ في المعرض يكمن في التماثل التعبيريّ والتكرار التيماتيّ. وجوهٌ، وجوهٌ، وجوه، كيفما نظرنا وبحثنا عن تكوين مختلف ومعنى مفارق فلا نعثر عليهما. زحمةٌ في الوجوه، تخمةٌ تُفْقدها البوح والقدرة على الإبهار.

* «لكلّ طاولة قصة»: حتى 25 أيار (مايو) ـــ صالة Art on 56th (الجميزة ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/570331