منذ بدء «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وما تلاه من عدوان إسرائيلي، أخذت قناة «العربية» السعودية طرفاً واضحاً رغم سياستها المعلنة في «الحياد»، فاعتبرها ملايين العرب منحازةً لمصلحة العدوّ الإسرائيلي الذي تخندقت في صفّه، وهو ما لم تخفه القناة بوصفها حرب الإبادة «نزاعاً» وحركات المقاومة «ميليشياتٍ» واستضافتها المتكرّرة لمسؤولين في الكيان العبري للأخذ برأيهم و«وجهة نظرهم»، غير آبهة بخسارتها المشاهدين لمصلحة قنوات أخرى عرفت كيف تستغلّ الفرصة في تغطيتها، وعلى رأسها «الجزيرة» القطرية.في هذا السياق، كانت انتقادات واسعة تطال مستشار القناة للشؤون العسكرية رياض قهوجي بسبب تغطيته المنحازة إلى كيان العدوّ ضدّ المقاومة الفلسطينية، إضافة إلى الحملة الشعبية على الإعلامية اللبنانية في القناة ليال الاختيار لاستضافتها المتحدّث باسم «جيش» العدوّ الإسرائيلي أفيخاي أدرعي والتوجّه إليه بلقب «الأستاذ»، قبل أن تعود وتستضيف المتحدّث باسم رئيس الحكومة الإسرائيلية للإعلام العربي أوفير جندلمان، مستخدمةً لقب «أستاذ» من جديد! يومها، أقامت الاختيار حملة تضامن معها لعبت فيها دور الضحية وبرّرت مخالفتها القوانين اللبنانية التي تجرّم التطبيع مع العدوّ بأنّها «قوانين حزب الله»، وبأنّ عملها يحتّم عليها القيام بما قامت به. وتقدّمت «هيئة ممثّلي الأسرى والمحرَّرين» في حينه بإخبار ضدّها لدى المحكمة العسكرية التي أصدرت بلاغ بحث وتحرٍّ بحقّها.

(ميكائيل سيفتشي ــ تركيا)

وها هو السيناريو الآنف يتكرّر مع الإعلامي في القناة نفسها، اللبناني طاهر بركة، الذي أعلن أخيراً أنّه محروم من زيارة لبنان بسبب دعوى قضائية رفعت ضدّه على خلفية محاورته شخصيّات إسرائيلية. وكما مع ليال الاختيار، ثارت حفيظة الجوقة الإعلامية و«المدنية» نفسها معروفة التوجّه، وهو ليس سوى الهوى الأميركي الذي تعترف باتّباعها له، فوضعت بركة في موقع الضحية كأنّه لم يخطئ، وألبسته عباءة حرّية الصحافة، رغم أن لا علاقة لذلك بما قام به. فحرّية الإعلام مقدّسة، فيما التطبيع تجرّمه القوانين اللبنانية ويُعدّ خيانة واعترافاً بكيان احتلال يمعن في ارتكاب أبشع الجرائم بحقّ الإنسانية.
وكان المحامي غسّان المولى بوكالته عن «هيئة ممثّلي الأسرى والمحرَّرين»، والإعلامي حسين مرتضى، تقدّما في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بإخبار أمام النيابة العامّة العسكرية ضدّ بركة بجرم «اتّصال تلفزيوني مع المتحدّث باسم جيش الاحتلال الصهيوني أفيخاي أدرعي». وقال بركة في مقطع نشره على صفحته على منصّة X (تويتر سابقاً) إنّه محروم من زيارة لبنان منذ ستّة أشهر بسبب محاورة شخصيّات إسرائيلية على شاشة غير لبنانية ولا تخضع لقوانين لبنان، بل تخضع لقوانين البلد الذي تبثّ فيه، أي الإمارات العربية المتّحدة، بحسب قوله. وكأنّ البلد حيث بركة موجود لا يمنع أشخاصاً يعتبرهم خالفوا قوانينه من دخول أراضيه؛ لكن عندما يتعلّق الأمر بلبنان، يُستسهل الانتقاد مهما كان القرار. الأنكى أنّ الإعلامي لا يبدو بأنّه يشعر بأيّ ذنب، بل يدخل مباشرةً في تبرير القوانين متغاضياً عن الجانب الأخلاقي والإنساني، إذ يرى أنّه «واجه» المتحدّث الإسرائيلي وأجبره على الانسحاب. علماً أنّ الصحافي يتمتّع بحقّ رفض إجراء حوار مع شخصية تعتبرها قوانين بلاده «عدوّة».
ادّعى طاهر بركة أنّ هناك جهات «تحاول استغلال ثغرات في القانون اللبناني»، ملمّحاً إلى «تسييس» ما!


وادّعى بركة أنّ هناك جهاتٍ (لم يسمّها) «تحاول استغلال ثغرات في القانون اللبناني»، ملمّحاً إلى «تسييس» ما، ومعتبراً أنّه «يتمّ استغلال هذا الموضوع لأسباب شخصية وحزبية وسياسية ضيّقة»، ومشيراً إلى أنّ المقابلة كان يُجري مثلها منذ سنوات من دون أن يتعرّض للإخبار القضائي حتّى الآن. كأنّ التمادي في الخطأ يبرّر عدم محاسبته ولو أتت متأخّرة! فوق ذلك، حذا بركة حذو زميلته الاختيار باتّهام أسرى محرَّرين بأنّهم مسيّسون! وكانت «هيئة ممثّلي الأسرى والمحرَّرين» قالت إبّان التقدّم بالإخبار إنّ «الادّعاء بحجّة العمل لدى وسائل إعلامية عربية كانت أو أجنبية على علاقة مع العدوّ الصهيوني غير مبرَّر، وهو عذر أقبح من ذنب، فتطبيق القانون يسمو فوق كل اعتبار».
هي حلقة جديدة من مسلسل «تطبيع التطبيع» الذي كان جارياً على قدم وساق قبل أن يغرقه ويجهضه «طوفان الأقصى»، ويبدو أنّ محاولات إكماله لن تستكين مهما استفحل التيّار الذي يسير بعكس ما يشتهيه. لكنّ المهمّ أنّ هذا التيّار قويّ بما يكفي لصمود لبنان بوجه عدوّ فاشل لم يترك وسيلة إلّا وجرّبها بوجه هذا البلد الصغير الذي لا يزال يعصى عليه.