نسيم ضاهر *أحيا حزب الله ذكرى أربعين القائد الأمني والعسكري عماد مغنيه (الحاج رضوان) في قاعة مجمّع سيد الشهداء في الرويس من الضاحية الجنوبية. وكما كان متوقعاً، ألقى أمينه العام، السيد حسن نصر الله، كلمته المنقولة عبر شاشة عملاقة غلبت عليها، في الشكل، حماسة المناسبة والأواصر العميقة التي شدّت سماحته إلى الغائب غيلة، إنما استولدت شعوراً يدعو إلى الارتياح لجديد لمسات ومزيد طلاق لمقولة الحرب المفتوحة، وإطلاق الإشارات الدالة على الابتعاد عن دروبها في الأصل.
تخلل الحفل، عن غير جاري عادة وانتظار، ما مهَّدَ لانطباع الرويّة في إطار التقويم، والمفاجأة بالمنحى الحداثي المتصل بتوليفة الحدث. منذ البداية، قدّمت فرقة «رسالات» أوبريت «الضوء المشذّى» مهداة إلى روح الشهيد مغنية، أنشدتها على إيقاع فرقة موسيقية عريضة، توازي الطائم السمفوني، بقيادة المايسترو عبدو المنذر. ولقد حرص ناظم الأوركسترا والكورس في مقابلة تلفزيونيّة متلفزة، على توكيد رسالة التضامن في المصيبة والأخوّة المُجسّدة عبر العمل الأوبرالي بتوجيه وإحاطة من العماد عون، عكسها اشتراك مسيحي لافت في التدبير الموسيقي والمسرحي، ومضمون النشيد المقدّم، التوحيدي الجامع في منبته العقيدي، والسياسي الهادف الى إعلان الوقوف تحت راية القائد، ونُصرة السيِّد في المسار الذي يراه ويُحدّده لمنفعة الجميع.
هيّأت المقدمة الموسيقية الحشد لتلقّي الخطاب، محور المناسبة ومادتها الصلبة. وكان، من التتابع المنطقي، أن يُعرِّج الخطيب على المضيء في السجل، الخاص برمز المناسبة «المتقدم» في حمل راية الجهاد، والعام العائد للرسالتين السماويّتين، المسيحية والإسلام، وتعاليم الأنبياء والرسل، التي ينغِّصُها عمل مجموعات صهيونية وأميركية تريد الإيقاع بين العالم الإسلامي وأوروبا بشكل خاص. من هذا الباب، جال الأمين العام في رحاب الوعي وثقافة الحياة والموت لدى الصديق والعدو، يُكدِّرهما في الجانب العربي، اختراق أميركي صهيوني غير مسبوق للإعلام، مشفوع بقول ضعاف النفوس، أصحاب الروح المهزومة والعقول المغلوبة، إن المقاومة خيار غير عقلاني وغير منطقي.
ويخلص السيد نصر الله إلى أن الأقلام المهزومة من سيئات الارتداد وانقلاب بعض الثوار والعقائديين والمقاومين السابقين ــ على وجه أسوأ ممن وقف في صف الإسرائيلي من اليوم الأول ــ خلافاً للناس الطيِّبين المؤيدين بنسبة 90,3% العمل على إسقاط النظام الصهيوني حسب الأرقام المُستخرجة من استطلاع للرأي موثوق به وموثّق.
لا شكّ أن السيّد نصر الله أراد تناول مسألة شائِكة من دون مواربة أو تزيين لفظي. نجح في تبديد بعض الضباب المحيط بقضية عقدية، ومواجهة نقّاد المقاومة في حقلهم المختار، ومع ذلك تسجل ملاحظات على المقاربة والقالب الذي سكبت فيه، حيث شاء الأمين العام لحزب الله الإدلاء بمطالعة دفاعية مطوّلة بداية، ضمَّنها بيانات وردية وصولات بحثية مقارنة تعمَّدت الإضاءة على العوامل النفسية وبيان أسباب الانهزامية المعنوية. عندها خلص إلى نقائض الوعي، المنقلب تراجعياً يستشعر فقدان الثقة والهزيمة لدى العدو، وضعفاً استسلامياً لاجِماً عند ثائِرين ومقاومين سابقين، فيما لن يحبط ويعرف اليأس من انتمى إلى مدرسة الإمام الخميني الذي كان يقول «اُقتلونا، فإنّ شعبنا سيعي أكثر فأكثر». وتلفت إشارة الأمين العام، للمرة الأولى، في معرض المقاومة، إلى أن قصده كل مقاومة، وهو لا يتحدث عن ضرب معين أو ينكر أو يتجاهل تضحيات أحد، فكأنه أراد تصويب التأريخ في مجرى الانفتاح على اليسار ووراثة المهمة التاريخية على معنى الإكمال بعد إيفاء الحق بالأسبقية، والتبرّم العلني من قنوط أوساط من أهله، وأقلامهم المغلوبة، غير المأجورة بالضرورة.
على عكس ذلك، جاءت أمثولة غزّة، خاتمة التمهيد الطويل للمراد الأساس، مثابة إضافة مصطنعة في السياق، ارتكزت على تقديرات نجاح وانتصار تخالف الصورة المعطاة فلسطينياً والمشهودة. أغلب الظن أن السيد نصر الله، إنما توسَّل الربط الممانع والتحية من وحي المناسبة، لإحراج الأنظمة العربية، والتأكيد على التواصل الشعبي والجهادي، العابر للمذاهب والرافض للتسويات.
يتقن الأمين العام لحزب الله مخاطبة جمهوره وشحذ همته ورفع معنوياته. لكنّ واجب الأمانة يقضي بالاعتراف بأنّه يبرع أيضاً في احتواء حلفائه وطمأنتهم، إلى إرسال الرسائل للقاصي والداني، والصديق والعدو، على السواء، المختارة المتبدلة حسب المكان والزمان. فبعد المقبّلات، إذا جاز القول، انتقل السيد إلى صلب الموضوع، المعنون إشكالية التخويف كجزء من حرب نفسية تشنّها إسرائيل، وواقع القلق على ضفتي الصراع. هذا بالضبط، لا سواه من تركيبة وزارية وقمة عربية، هو ما يشغل البال، بيت القصيد، ومادة الخطاب الدسمة. ولقد استخدم الأمين العام، في هذا الصدد، أسلوبه المفضل، مضفياً إلى تصرّف العدو أسباباً مشدّدة، سالخاً على احترازه الوقائي طابع الهلع، ومانحاً بيئة الحزب أقصى الأسباب التخفيفية من حيث القلق المفتعل واصطناع مسبّباته ومظاهره. ومن البديهي ألّا يحاسب الخطيب أو يؤاخذ على تضخيم من هنا، والتفاف من هناك، لأنّ هذا المنهج صحيح الحرب، كما يقول الفرنسيون. بل إن المهم الجوهري هو في اللاحق من إعلان موقف ذي سند نظري، واستقصاء الخلاصات العملية والعملانية في ضوء الاحتمالات المتحرّكة والخاضعة للدرس. هنا يتبيّن مدى إلمام الأمين العام بذهنية الجمهور وإحاطته بشواغله، ودأبه على إيقاظ الوعي فيه وفق ظروف المرحلة وشروطها، يجول معه في بستانه على خطى أفلاطون مع تلامذته ومريديه.
أيقنت قيادة حزب الله مقدار التململ الحاصل في صفوف المناصرين المتحوِّل تردّداً إزاء العمران والثبات في الموضع، والمؤدِّي إلى حال من القلق الوجودي، يدفع إلى البحث عن بدائل ومخارج. ولقد اجتهد الأمين العام لإزاحة المخاوف بالدفوع قبل الدفاعات، عازياً إشاعة أجوائها وضخِّها إلى الهندسات الإسرائيلية والنفوس الضعيفة. في المقابل، أحال جمهور الجنوبيين إلى التطلع نحو الجاري في مجتمع العدو، والمُعرّف عنه بالرعب والقلق القاطع الساكن في خلايا مريضة أصلاً، موصياً جازماً أن في هذه الظاهرة الردّ الشافي على تساؤلات الناس المشروعة، ومضادات الدعاية الخبيثة المرتدَّة على مطلقها. وفي الكباش القائم، ينتصر ذوو الوعي والإرادة، ولا من منجد لأعدائهم الخائبين على ما استشهد به السيد نصر الله آية كريمة وأعدل كلمات «إن تكونوا تقلقون فإنهم يقلقون كما تقلقون وترجون من الله ما لا يرجون».
قاد هذا الاستطلاع الميداني الأمين العام الى الاعتراف بأمر القلق ومحاصرة آثاره، وبيان محدوديته قياساً بنظيره لدى العدو. وسوف ينتقل الخطاب من هذه المعاينة إلى المحدِّدات، مسقطاً فرضيات غير واردة، ومرجّحاً احتمالات وفق قراءة رصينة هادئة، تتحسّب برزانة، وتزن المعقول والطارئ في نطاق ما يسمح به ميزان القوى، والحرص المصلحي على الذات.
هكذا، وكمدخل تعريفي يرسم الخط الأساس، صارح الخطيب مشاهديه وسامعيه بحقيقة مرّة، وهي أن مسألة الحرب سواء على لبنان أو إقليمياً، ليست أمراً بسيطاً وأضاف، بعلم المعني المتابع والحذر «لمن يتحدثون عن احتمالات الحرب، أنا لا أريد أن أنفي أي احتمال. ولكن أريد أن أذكّرهم بأن الحرب الإسرائيلية لم تعد نزهة» وإذا ما قورن هذا القول بسابق توكيد أن إسرائيل العدوانية هي وحدها مشعل الحروب، تبدّت إيجابيات ضخمة، تطمئن في أبسط الأحوال، على مسافة بعيدة من زلَّة الحرب المفتوحة، وتعد بانفراجات.
قد يتمسَّك المتشائمون بأحكامهم الصادرة عن متابعة متأنية لتكتيكات حزب الله، وغموض إشاراته، وازدواجية مفادها أحياناً. هذا شأن لا يُستهان به، لكنه يتنكَّر لوضوح المُقال في مناسبة أليمة، المترابط والملموس إلى حدّ الشروحات والأمثلة المَسوقة إيضاحاً للعلاقة بين الرؤى العقيدية الفكرية والسلوك العملي في حيِّز الممارسة. وعليه، يقول السيد نصر الله، لمن يتوخَّى الإنصاف، إنه يؤمن بإسقاط النظام الصهيوني، الصياغة الملطّفة لإزالة الكيان الإسرائيلي، لكن المُبهمَة والسياسية الطعم عن قصد، إنما «هذا لا يعني أننا ذاهبون إلى فتح جبهة في الجنوب». «لا أحد يقول إن إسقاط النظام الصهيوني هو مسؤولية لبنانية، ونحن لا ندّعي ذلك. ولكن هذه ثقافة، هذه هي الفكرة». ومن نافل القول إن الثقافة أو الفكرة، لا تنبت أو تنتج مفاعيل آنيّة، بل تؤطِّر وجدانياً وتحتضن القناعات، دون إكراه للآخرين.
عندي، إن ثمّة قفزة نوعية كبرى عبّر عنها نص الخطاب ومتنه وحواشيه، ولم تعارضها أو تغالطها المقدِّمات والهوامش، المدرجة بانوراما تثقيفية إعدادية. وهذه القفزة تحمل بشائر على أكثر من صعيد. صحيح أن سنونو واحداً لا يصنع ربيعاً، لكن قراءة الخطاب بتفاؤل وتلمّس رسالة انفتاح ودعوى تهدئة وتروٍّ ليست من المراهنة أو المحظورات. ولمن دليله مسلّمات ومستحيلات أزلية جامدة، وأياً كانت اعتبارات الحزب الراهنة ودوافع طحمائميته» ربما ساعده وأيقظ ما يساور الشك المحمود لديه، ختام السيد نصر الله للفصل الجوهري المركزي من الخطاب، بلفتة حزن وعناد واقع سمحت له بإفشاء سرّ ومغادرة التكتم، «إذ» «رغم أن الإسرائيليين قتلوا عماد المقاومة، لم نوقف المفاوضات حول تبادل الأسرى، وجرت لقاءات في المرحلة الأخيرة ولم نوقف التفاوض». إلى أن تعمّ هذه اللغة ويسود منطقها، لا يسع المراقب إهمال مفاتيح النص وإنقاص جديتها وأهميتها. ففيما يستمر خطباء حزب الله في رتابة الترداد والتكرار، خرج الأمين العام وأفرج عن جديد موقف جريء غير مسبوق في توصيفه وتوصياته. فعل ذلك، وهو العليم بشحّ المعلومات عن التحقيق في اغتيال مغنية، أو ربّما المتوجّس منها، والعالم بتقدّم هذه النقطة العقدة أولوية اهتمام الناس، فكانت إعادة الطمأنينة والثقة عند جمهوره، أغلى وديعة وأفعل ضامن لإكمال المسيرة.
* كاتب لبناني