إسكندر منصور *
لمناسبة صدور كتاب «الحرب العالميّة الرابعة: الكفاح الطويل ضدّ الإسلام الفاشي» لنورمن بدورتز، انعقدت ندوة سياسيّة، نُشرت في عدد مجلّة «كومنتري» الأخير، عن الكتاب حضرها وشارك فيها كل من فؤاد عجمي، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في كليّة نيتزه للدراسات الدوليّة المتقدّمة في جامعة جون هوبكنز؛ جون بولتون، مندوب الولايات المتحدة السابق في الأمم المتحدة، جايمز وسلي، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزيّة (السي آي إيه)، مارتن كريمر الأستاذ السابق في جامعة تل أبيب ومستشار المرشّح رودي جولياني لرئاسة الجمهوريّة للسياسة الخارجيّة؛ وليم كريستول رئيس تحرير مجلة «ويكلي ستاندرد» المعروفة بكونها منبراً للمحافظين الجدد إلى جانب مجلة «كومنتري»؛ بالإضافة إلى بعض المفكّرين والكتّاب والسياسيّين المنتمين والقريبين من الفكر اليميني المحافظ.
الأسئلة التي دار حولها النقاش تمحورت حول عدّة مواضيع؛ منها مدى صحّة استخدام تعبير «الحرب العالميّة الرابعة» لوصف المعركة الدائرة بين الغرب و«الإسلام المتطرّف»؛ مدى التقدّم والنجاح بعد ستّ سنوات على أحداث الحادي عشر من أيلول 2001؛ أولوية الديموقراطية ودورها في التصدّي لظاهرة «الإسلام الفاشي» ودحرها؛ والسؤال الأخير كان موضوعه انتخابات الرئاسة الأميركيّة وأثرها على «مبدأ بوش».
فؤاد عجمي، ابن أرنون القرية الجنوبيّة اللبنانيّة الذي هاجر إلى أميركا سنة 1963 وهو في السابعة عشرة من عمره لتحصيل العلم، هو الابن المدلَّل لوسائل الإعلام الأميركيّة، نظراً لعلاقته القريبة من صانعي القرار في عهد إدارة الرئيس بوش ومتانة علاقاته في الأوساط الصهيونيّة ـــــ الأميركيّة منها والإسرائيليّة. كانت هزيمة العرب سنة 1967 نقطة تحوّل في حياة عجمي، فبدأ قريباً من الناصرية والحلقات اليسارية الجامعية في الولايات المتحدة مروراً بشيعيّة سياسية في منتصف الثمانينيات خلال حرب المخيّمات بين الفلسطينيين وحركة «أمل» قبل أن يحطّ به الرحيل في الأوساط الأميركية المحافظة. عندما حاول نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني أن يسوِّق الحرب الاستباقيّة على العراق، لم يجد سوى عجمي يستشهد بما كتبه في هذا الموضوع وخاصة «تنبّؤ» عجمي بأن العراقيّين في البصرة وبغداد سيستقبلون الأميركيّين في الشوارع والفرح في قلوبهم. يفخر عجمي باستخدام «نحن» (أي نحن الأميركيّين) في محاضراته ومقابلاته الصحافيّة وإطلالاته التلفزيونيّة أكثر من أيّ «أكاديمي» آخر، وكأنّه يريد أن يؤكّد دوماً ولاءه وانتماءه الجديدين ومغادرته ماضيه اللبناني والعربي.
زار إسرائيل أكثر من مرة، والتقى قادتها وأشاد بشجاعتهم في وجه «الإرهاب الفلسطيني». يقول آدم شاتز في مجلة «ذا نايشن» «إنّ الإستابلشمنت اليهودية في نيويورك وواشنطن حضنته فأصبح صهيونياً متحمّساً» يفضل حزب الليكود وتطرّفه على حزب العمل واتفاقية «أوسلو». صدر له أخيراً كتاب «هديّة الأجنبي: الأميركيون والعرب والعراقيّون في العراق». وما الهديّة بنظره سوى الحريّة التي حاول الأميركيّون، وخاصة الرئيس بوش الابن، نشرها ولا يزالون في ديار العرب والمسلمين.
لقد تطرَّق عجمي في الندوة لجملة من القضايا، التي لم يشذّ فيها كثيراً عن الأسس الفكريّة الرئيسيّة للمحافظين الجدد؛ من تحديد طبيعة المعركة الدائرة رحاها بين الولايات المتحدة و«الإسلام الراديكالي» إلى الحرب على العراق؛ من الأهميّة الاقتصاديّة لمنطقة الشرق الأوسط إلى دور الديموقراطيّة في دحر «الإسلام
الراديكالي».
عبَّر عجمي عن توافق تام مع بدورتز في استخدام تعبير «الحرب العالميّة الرابعة». «إنه تعبير موفّق ومناسب لطبيعة المعركة مع الإسلام الراديكالي» على حدّ قول فؤاد عجمي. طبعاً هناك تحاشي استخدام التعبير الأصلي لبدورتز المستعمل في عنوان كتابه وهو «الإسلام الفاشي» بدل الإسلام الراديكالي. إذاً نحن في صلب الحرب العالميّة الرابعة، لكون الحرب الباردة تمثّل الحرب العالميّة الثالثة التي انتصرت فيها الولايات المتحدة بقيادة رونالد ريغان الذي أحاط نفسه بمستشارين ينتمون إلى المحافظين الجدد كجين كيباتريك مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة خلال فترة ريغان الرئاسيّة، وريتشارد بيرل وغيرهم. انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة مفهوم يتشارك فيه كل المحافظين الجدد، لكون فكرهم واستراتيجيتهم صنعا النصر، والأستاذ عجمي لم يشذّ عن القاعدة، لكونه الأمين والوفي لهذا الفكر وسياسته.
يحدّد عجمي المنطقة التي تدور حولها الحرب والمنافسة بين الولايات المتحدة و«الإسلام الراديكالي» أو «الإسلام الفاشي» حسب تعبير بدورتز بأنها «أرض العرب والفرس قلب العالم الإسلامي»، وهذه المنطقة «لا يمكن التخلي لهم عنها نظراً لأهميتها للاقتصاد العالمي». ليست الحرب حرب أفكار كما يُقال هنا وهناك بها يتحدّد مصير ديار العرب والإسلام، لكنها حرب من نوع آخر، حرب عسكرية حيث هناك فقط في «أرض المعركة»، مع «الإسلام الراديكالي»، سوف يتحدّد مستقبل المنطقة العربيّة ـــــ الإسلاميّة. فالمشروع الراديكالي مشروع يشكّل تحدّياً من العيار الثقيل للولايات المتحدة ووجودها في العالم العربي ـــــ الإسلامي ولا يمكن التعاطي معه إلا «بهزيمة شاملة» على حد تعبير عجمي. يبشّرنا بحروب قادمة طويلة ومستمرّة لكون الحرب الأميركيّة على العراق لم تنته بعد بنظره والانتصار لا يزال ممكناً لا بل مؤكّداً. لقد نوقشت أسباب وشرعيّة الحرب العراقيّة مطوّلاً. فبالنسبة إلى عجمي كانت ولا تزال «حرب عادلة ونبيلة» شنّها رئيس أميركي اتّخذ على عاتقه التصدّي لمشاكل وحالة العداء المستشرية في العالم العربي ـــــ الإسلامي وليكون الأجنبي الذي يهدي العرب الحريّة والديموقراطية. إنّها الحرب على الإرهاب بكل أبعاده ولا مكان للتخاذل أو التراجع مهما كان الثمن. تخلّى الكثيرون عن طروحات المحافظين الجدد بعد حرب العراق. فكنث أدلمان الذي ينتمي إلى المحافظين الجدد والذي تبوّأ مناصب في عدّة إدارات جمهوريّة كتب أنّ «كل ما تبنّيناه أصبح دماراً وخراباً». وفرنسيس فوكوياما نأى جانباً عن بعض طروحات المحافظين الجدد التي «تطوّرت باتجاه لا أستطيع أن أؤيّده وأتبناه». أمّا عجمي فبقي على اقتناعاته السابقة بأن الحرب عادلة ونبيلة، وأنّ الانتصار في العراق، الذي سيؤدّي بدوره إلى انتصار الديموقراطيّة في بلاد العرب والمسلمين، آتٍ ولو بعد حين.
يؤكّد عجمي أنّ الفضل في هذه السياسة الجديدة، حيث الديموقراطيّة تحتلّ مرتبة أهمّ من الاستقرار، لجورج بوش الابن الذي قطع مع الواقعيّة المحافظة المتمثّلة بكلّ من سكوكروف، مستشار الأمن القومي السابق للرئيس بوش الأب وجايمز بيكر وزير الخارجيّة السابق في عهد جورج بوش الأب اللذان فضّلا عدم الدخول إلى بغداد وإسقاط نظام صدام حسين في حرب الخليج على أثر غزو العراق سنة 1990. لقد وجّه المحافظون الجدد سهام نقدهم للمحافظين الواقعيّين الذين بنظرهم لم يولوا مسألة الديموقراطيّة الأهميّة القصوى في سياستهم الخارجيّة. كانت أولوياتهم مصلحة الولايات المتحدة المتمثّلة بالاستقرار، وإن أتى على حساب الديموقراطيّة. إنها مدرسة السياسة الواقعيّة (ريل بوليتيك) التى مارسها هنري كيسنجر في تعاطيه مع الحرب في فيتنام وفي علاقة الولايات المتّحدة مع الاتحاد السوفياتي. فجورج بوش الابن، بنظر عجمي، اختار الحرية والديموقراطيّة على حساب الاستقرار في الشرق الأوسط؛ فأسهمت سياسته المبنيّة على «الديموقراطيّة أوّلاً» في «ثورة الأرز» في لبنان التي أدّت إلى خروج السوريّين منه والانتقال نحو
الديموقراطيّة.
ها هم المحافظون الجدد بعد فشلهم في العراق يودّون أن ينسبوا ما حصل في لبنان إلى سياسة جورج بوش الخارجيّة ووقوفه بدون تردّد خلف شعارات ما عرف بـ«ثورة الأرز». طبعاً، هنا عجمي المعجب ببوش الابن على خلاف مع بعض المحافظين الجدد الذين يقودون الحملة الانتخابيّة لرودي جولياني والذين يرون أن جعل الديموقراطيّة من أولويات جورج بوش كان خطأً فادحاً يجب تلافيه والرجوع عنه، لأنّ الاستقرار أهم من الديموقراطيّة. أما بالنسبة إلى «البوشيّة» فيعتقد عجمي أن جورج بوش خطا الخطوة الأولى من أجل شرق أوسط ديموقراطي، وأنّ الاستبداد ليس قدر العرب والمسلمين إلى ما لا نهاية. لو كتب عجمي ما كتبه الآن منذ خمس سنوات في أعقاب الحرب على العراق لوجد عدداً أكثر من المؤمنين. والمؤمنون بدور أميركي في نشر الديموقراطيّة في أرجاء العالم العربي كانوا حقاً أكثر في بداية الحرب. فأقلام الليبراليين الجدد في عالمنا العربي ملأت صفحات الدوريات العربيّة والجرائد تتنبّأ بأنّ الديموقراطيّة آتية إلى العراق ومن بعدها سوريا وإيران. أما السعودية وبلاد العرب الخليجيّة الأخرى، فإن الديموقراطيّة الشوريّة فيها متأصلة وليست بحاجة إلى الجهد الأميركي. فقط يجب أن تنصبّ الجهود الاميركيّة على نشر الديموقراطيّة في العراق وسوريا وإيران.
هنا يتلاقى الليبراليون الجدد العرب (حازم صاغية ووسام سعادة على سبيل المثال) مع المحافظين الجدد في الولايات المتحدة على أرضيّة مشتركة عمادها الصمت عن الكلام في ما يتعلّق بمسألة نشر الديموقراطيّة وحقوق الإنسان والمرأة في السعودية ودول الخليج الأخرى. يقول عجمي: «السعوديون محظوظون». لديهم «قائد مقتدر». وقيادة المملكة ليست العائق أمام تطوّرها كما يعتقد كثيرون في الغرب؛ لأنّ «السلطة في السعودية تتقدّم على المجتمع». إنّ الحرية التي أرادها الرئيس بوش أن تكون هديّته إلى «الليبراليين العرب لم تصل، لأنهم لم يثقوا بالرسول. وبالتالي لم يستجب المثقّفون العرب للدعوة إلى الحريّة»، على حدّ تعبير
عجمي.
وصلت الرسالة. قرأها العربي الذي يعرف القراءة في صفحات «أبو غريب» وفي وجوه مليون ضحية في العراق وفي هواجس أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ عراقي في بقاع الأرض. لقد قرأها أيضاً أطفال قانا في
لبنان.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة