strong> ياسين تملالي *
ما إن وطئت قدما نيكولا ساركوزي الجزائر، حتى استعر الجدل مرة أخرى حول مسألة «اعتذار فرنسا للجزائريين عن مآسي الاستعمار»، وهو مطلب تبنّاه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مراراً فأصبح مطلب الدوائر الموالية للسلطة مثل حزب جبهة التحرير الوطني ومنظمات قدامى المحاربين.
وكان تعليق الرئيس الفرنسي على هذا المطلب مطبوعاً بشيء من الدبلوماسية المحرَجة، إذ اكتفى بالقول: «يجب النظر إلى المستقبل والحديث عن الأمور الملموسة». أما وزير خارجيته، برنارد كوشنير ـ وهو من يُمعن في التشبه باشتراكيي بداية القرن الفرنسيين المؤمنين بدور أوروبا التحضيري في «العالم المتوحش» ـ فرّد على الصحافيين ببراءة مصطنعة: «الاعتذار؟ عن ماذا؟»
وعاب الكثير من رموز ثورة التحرير على الحكومة سكوتها عما عدّوه إهانة للشعب الجزائري فوق أرضه. غير أن امتعاضهم لم يمنع استقبال نيكولا ساركوزي بحفاوة بالغة من طرف عبد العزيز بوتفليقة، فعاد إلى باريس راضياً تمام الرضى عن عزم السلطات الجزائرية على توطيد الشراكة مع «المستعمر الأسبق»، وبرهانه على ذلك اتفاقيات اقتصادية قيمتها 5 مليار يورو «افتكها» لمصلحة شركات بلاده.
ولكي لا تظهر هذه الاتفاقيات بمظهر مكسب مجاني، قدم نيكولا ساركوزي لعبد العزيز بوتفليقة تنازلاً رمزياً في شكل جملة مقتضبة مؤداها أن «النظام الاستعماري كان نظاماً جائراً» متعارضاً مع أقانيم فرنسا الجمهورية الثلاثة: المساوة والحرية والإخاء. وبالرغم مما عبقت به هذه الجملة من روائح انتهازية (كيف لمن سبق له أن وصف الاستعمار بأنه كان «حلم حضارة لا حلم فتح وغزو» أن يرى فيه نظاما جائراً؟)، فقد أنقذت السلطات من ورطة معنوية حقيقية إذ أعطتها ما تقدمه للشعب على أنه ثمرة سعيها إلى إقناع فرنسا بالاعتذار عن مآسي الفترة
الاستعمارية.
فرحت الحكومة الجزائرية أيما فرح بهذا التصريح «اليساري» للرئيس اليميني وجنّدت وسائل إعلامها لبثه وإعادة بثه حتى الغثيان. ورآه الناطقون باسمها «خطوة معتبرة» دون أن يبينوا نحو ماذا (نحو محاكمة مجرمي الحرب الفرنسيين أمام محكمة دولية؟)، وصوّروه على أنه انتصار للجزائر يعود الفضل فيه بطبيعة الحال إلى حكمة فخامة الرئيس، ولم ينظروا إلى ما في الأمر من هزل يثير البكاء: هل الجزائريون ـــــ وهم من قُتل منهم خلال سنوات الثورة السبع قرابة المليون ـــــ بحاجة لأن يُعْلمهم نيكولا ساركوزي بجور نظام الاحتلال؟
وأسهم تصريح نيكولا ساركوزي ـــــ وما نتج منه من نقاش في أعمدة الصحافة ـــــ في التعتيم على أهم دلالات زيارته، فبدا الأمر كما لو أن لبّ المفاوضات بين البلدين هو كتابة تاريخ الحقبة الاستعمارية لا حجم مبيعات الغاز الجزائري لفرنسا ولا استثمارات كبريات الشركات الفرنسية في الجزائر. نُسي الأهم في خضم حديث مجترّ عن الماضي، وهو أن شريك الجزائر الاقتصادي الأول هو فرنسا، وأن تبعيتها التكنولوجية لها ما فتئت تتعمق يوماً بعد يوم.
وبرهنت وقائع الزيارة على أن مطلب «اعتذار فرنسا عن جرائم النظام الاستعماري» لم يكن في نظر السلطات سوى مطلب ظرفي لا علاقة له بمبادئ ثابتة، يُرفع بأمر الرئيس ويُنسى بأمره. فقد أهمله عبد العزيز بوتفليقة إهمالاً تاماً في محادثاته مع الوفد الفرنسي، مبدياً حرصاً كبيراً على تنقية الأجواء من كل ما ينشز عن سمفونية «العلاقات الاستراتيجية بين البلدين». وحتى عندما ساوى نيكولا ساركوزي بين المعتدي والمعتدى عليه، في قوله إنه «يجب تكريم ذاكرة ضحايا حرب التحرير من كلا المعسكرين»، كان الصمت جواب خطيب البلاد الأول، وهو من أطرب مسامع الشعب طوال سنين بأغنية عنوانها: «لا صداقة مع فرنسا ما لم تعترف بمجازر الاستعمار».
ليس مطلب «الاعتذار» إذن دليلاً على تأجج روح الوطنية في نفوس الحكام. وقد دل التخلي عنه بهذه السهولة على أن السلطةَ لا تكترث لـ«ذاكرة الشهداء» اكتراثها لفتح أبواب البلاد على مصراعيها لشذّاذ الآفاق الجدد، «المستثمرين الأجانب»، دعاة التمدن باسم الليبرالية. كذلك دل على أن لا شعبية حقيقية لهذا المطلب في الجزائر. لم يُذكر منذ الاستقلال حتى أواخر سنة 2000، أن أشار إليه أحد من قادة حرب التحرير ولا من ملايين ضحايا الاحتلال، فقد كان الجزائريون يؤمنون بأنهم انتصروا في معركة الاستقلال فما فائدة دعوة الخاسرين إلى «الاعتراف
بجرائمهم»؟
نعم، استُورد هذا المطلب استيراداً في السنوات الماضية. ففي سنة 2000، اكتشفت بعض النخب الفرنسية ـــــ ويا لهول الاكتشاف ـــــ أن فرنسا الجمهورية لجأت إلى التعذيب والإعدامات العشوائية في حربها على ثوار جبهة التحرير الوطني، فدعت الدولة الفرنسية إلى إراحة الضمير الفرنسي من ثقل هذا التاريخ الدموي بطلب الصفح من الجزائريين وغيرهم من «شعوب المستعمرات». ولم يتوقف رد فعل السلطات الجزائرية عند الابتهاج ـــــ المشروع ـــــ بنبل هذه النخب وشهامتها، فتعدّاه إلى تبنّي مطالبها، كما لو كانت مطالب أغلبية الشعب الساحقة.
وبالرغم مما حظي به من دعاية رسمية، لم يتحول مطلب الاعتذار هذا إلى مطلب جماهيري. ففي بلد آلت فيه آمال الاستقلال إلى ما آلت إليه من فقر وعنف دموي، يدرك الجميع أنه ليس سوى ورقة توت تستر عورات الحكام، وأن الضجة المثارة حوله، علاوة على أنها جزء من مفاوضات صامتة موازية مع الدولة الفرنسية، وسيلة لإخماد ضجة الوضع الداخلي المتأزم. أليس أسطع دليل على ذلك أن الكثير ممن دعوا فرنسا إلى طلب صفح الجزائريين عليها هم ذاتهم من يرسخون أقدامها في الجزائر، ويخصخصون المؤسسات العمومية لفائدة مؤسساتها، ويرون فيها شريكهم الاستراتيجي الأبدي؟
*صحافي جزائري