ناصيف قزّي *
كان عائداً، من حديقته الصغيرة، والبلابلُ تلاحقُهُ خَفَراً، فتَتَنَقَّلُ بشموخٍ بين تلك الصنوبرات التي اخضرَّ بها فضاءُ تلك الرابية، عندما ارتَشَفْتُ القهوةَ معهُ، على الشُرفة عينها، تلك التي تولَدُ فوقَها كلُّ أفكاره.
جلس الجنرال عون في مكانه المعهود، صبيحة ذلك النهار التشرينيّ، قُبالةَ مشهد الهضاب المنحدرة نحو الشاطئ، ومن حوله أهلُ البيت وبعضُ الأصدقاء.
وكانت أشعَّةُ الشمس قد بدأت تلامسُ المساكِبَ والشتول، تلك التي يحرَصُ على الاعتناء بها بنفسه، عندما ارتَسَمَت على مُحيّاه، وعلى غير عادته، كآبةٌ خريفيَّةٌ صفراء.
لم تكنِ المدينةُ قد خَرجَت من الصدمة التي أحدثَتْها عمليَّة الاغتيال في نفوس الناس، ولا سيما المسيحيِّين منهم... وما تبع ذلك من افتراءات وتعدِّيات مشبوهةِ الأهداف، لم تَجِدْ لها مبرراً، آنذاك، سوى أن أصابع الفتنة أرادت أن تُصيب منّا مقتلاً.
أعادَ الجنرال كوب النيسكافيه الى الطاولة. وبعد أن أعرب عن أسفه لانعدام الرؤيا لدى غالبيَّة الساسة المسيحيّين إزاء ما يجري، وبخاصةٍ بعد أن كان قد دعاهم الى التنبُّه والتبصُّر وعدم الانجرار في أيِّ فتنة؛ بعد ذلك، رفعَ يده اليمنى جامعاً أصابعَه الى بعضِها الى بعض، كرافِعِ القربان في وليمةِ الآب، ليُردّدَ، وبصوتٍ واثقٍ ونبرةٍ قاطعة: «أنا لا أستطيعُ أن أحيا إن لم تُلامِسْ أناملي الترابَ كلَّ صباح... أَذكرُ دوماً أنِّي من الترابِ وإليه أعود». ثم نظر في وجوهِنا المحدِّقة إليه، ليتابِعَ متسائِلاً: «وهم... هل يَذكُرون؟». بهذه الكلمات اختصَرَ الجنرال عون ما يَعتَصِرُ فِكرَهُ من قناعاتٍ وما يُمليه عليه ضميرُه من سلوكيّات... هو المتحَدِّرُ من عائلةٍ تماهى فيها حبُّ الإرض وسخاؤها مع حبِّ السماء ونِعَمِها.
فليس مستغرباً أن تكون بينهُ وبين الأرض علاقةٌ حميمةٌ... هو الساكنُ منذ نعومة أظفارِه بين الزروع، يَرصُدُ تعاقُبَ الفصول، قبل أَن يَصيرَ جندياً، فضابطاً، فقائداً، فزعيماً، ارتَسَمَتْ بينَه وبين الطبيعة في لبنان إشاراتٌ وإيماءاتٌ، من شتول التبغ في الجنوب، الى صنوبرات الجبل، مروراً بالسهول والهضاب والوهاد. وكم كان يواكبُ، بين أزيز الرصاص وطنين المدافع والراجمات، العصافيرَ في تَرحالِها، قبلَ أن يَغفُوَ في حُضن العَراء.
ليس مستغرباً أن يكونَ بين الجنرالِ والأرضِ عشقٌ... هو الذي تجمَّدَتِ المطارحُ، الأحبّ الى قلبه، في ذاكرتِه... من سنديانة دير القلعة الى حُرش بكاسين... هناك على مقرُبةٍ من تلك المزرعة الجنوبيَّة التي انحَدَرَ منها جدُّهُ، والتي تتماثلُ في وجدانِه مع ذلك العشق. حتى إنَّه أبقى، وفي منفاهُ الباريسي، على علاقاته الوثيقة بالأرض وبخيراتِها، بحيث نبتت الملوخيَّة، لأول مرَّة في التاريخ، في صقيع الـ Haute Maison.
لم يكتَف الجنرال بهذه العلاقة الأفقيَّة مع الأرض، بل ذهبَ الى أبعد من ذلك، بحيث استحالَ حبُّهُ للتُربَة المِعطاء، فلسفةَ حياةٍ، ذاتِ بُعدٍ كينونيّ. ففي الوقت الذي رأى فيه أنَّ المجتمع الزراعيّ هو الأنقى، وأن العلاقة مع الأرضِ هي الأصدقُ والأبقى في دائرةِ علاقات الإنسان بمحيطه، لأنَّ الأرض لا تخونُ، بل «تُعْطِي بقَدْرِ ما تُعطَى»؛ في الوقت الذي رأى فيه ذلك، ذهب الى اعتبار أنَّ الأرضَ التي تَحضِنُ رُفاتَنا، إنَّما تَخْضَرُّ به... لتبقى الحياةُ وتستمر. تلك هي أنشودةُ الكائنات في دَفقِها الأبديّ. إنَّها الصلاةُ الكونيَّةُ التي لا تزول. عنده، إنَّ الحياةَ «ترتدي في الولادةِ ثوباً». وفي الموتِ «يفنى الرّداءُ وتبقى الحياة».
تلك هي جدليَّةُ الحياة والموت في وجدان رجلٍ لا أطماعَ لديه في هذه الدنيا، ولا هو مؤمنٌ بالفناء... لأنَّه، وعلى ما يردِّد، «من رفاتِنا تعود الحياة».
هذا غيضٌ من فيضِ ما يمكِنُ أن نستَقيَه من مُنطلقاتِه الفكريَّةِ وقناعاتِه العقائديَّةِ التي عليها تمَدْمكَتْ كلُّ أخلاقياتِه السياسيَّة. وبالإضافةِ الى حبِّهِ للأرض، والى كونِه مدركاً لجوهرِ الناموسِ... ناموسِ التراب، فإنَّه يُنشِد الحقيقةَ وينطُقُ بالعَدلِ ويُؤثِرُ الاعتدالَ على التطرُّف.
كم جميلٌ أن يَتَحلّى الإنسانُ بهذا الصفاء، ولا سيما في وقتٍ باتَ يُدرِكُ فيه أنَّ كلَّ الشرورِ المستجِدَّة تَستَهدِفُه، لما يُشكِّلُه، الى كونِه حالةً أخلاقيَّةً استثنائيَّة، من ممانعَةٍ بنّاءةٍ، في وجه كلِّ المخطَّطات المستعادَة لتخريب لبنان وتقسيم شعبه وتشريده.
أما عظمَةُ تلك القناعات، فتكمنُ في كونها محاولةً دؤوباً لاسترجاعِ المزايا والفضائلِ، التي فقدَها إنسانُنا، في مجتمعٍ نخَرَهُ الجَهل والأنانيَّةُ والنفعيَّةُ والمكابرة. وكم نحن اليومَ بحاجةٍ الى تلك العلاقة بالأرض، التي هي صُنوُ العلاقة بالله، لنسترِدَّ بعضاً من تلك الفضائل التي فقدناها في حياتنا الاجتماعيَّةِ والسياسيَّة، وفي مقدَّمها، الطيبَةُ والبساطَةُ والصّدقُ والوفاء.
ألم يفقَه الجنرال عون، بعلاقتِه تِلكْ، مع الأرض، حقيقةَ السماء... السماءِ التي «تأرَّضَتْ» يوماً... «لتصيرَ الكلمةُ جسداً»؟ فها هو على حقيقته، وفي عمق صدقِه وشفافيَّتِه، ومهما تقلَّبَت الظروف، وأياً كانت المغرَيات... ها هو يصلي كلما لَمَسَتْ يداه الترابَ، صلاة الكائناتِ التي تجمعُها وحدةُ الوجود. يصلّي ويتَّضِع، ليردِّدَ على الدوام «إنّه من التراب وإليه يعود».
تلك هي مدرستُه في الحياة، هو الذي، نسألُ معكم اليوم، في ذكرى ميلاده، أن يمُنَّ الله عليه بالصحة والعمر المديد... ليبقى قائداً لمسيرتنا وموجِّهاً لنضالنا ورمزاً لعنفواننا.
تلك هي مدرستُه في الحياة... تلك هي بساطتُه... وتلك هي عظمتُه. ومن الخطأ بمكان أن نحاولَ زجَّهُ، كما يفعل البعض، بمساراتٍ افتراضيَّةٍ ضيِّقة، لا تَمُتُّ الى كُنْهِ حقيقتِه بأيَّة صلة.
وبعد،
وإذا كانت «صدفةً إلهيَّةً»، تلك التي جمعَتْه، هو الذي يُدرك تمام الإدراك معنى الأرض ومعنى الذود عن أرض الوطن، والذي أفرَدَ للشهادة والشهداء، الذين سقطوا في مسيرة النضال الطويل من أجل السيادة والحريَّة والاستقلال، مكاناً في قلبه وموقعاً في فكره؛ إذا كانت «صدفةً الهيَّةً»، تلك التي جمعَتْه بشركائِه، أولئك المقاومين الذين رَوَوا بأحمر عروقهم تربَةَ الجنوب، لتتقدَّسَ بشهادتهم، أفلا يعني ذلك أن بعض الحقيقة يكمنُ خارج النصّ ــ خارج النقاط العشر التي تضمَّنتها «وثيقة التفاهم» ــ، وبالتحديد، في سرِّ الأرض وقدسيَّة الشهادة؟ وهذا، بدوره، ألا يُفصِحُ عن «سرِّ الفداء»... السرِّ الذي منه وبه تُبعَثُ الحياةُ وتدوم؟
وأنتم، يا من خَرَجتُم عن الأصالة والأصول... يا أبناءَ حضارةِ الإسمنتِ على حساب التُربة وعفويَّة الحياة... يا ساسةَ التعنُّتِ والتجريحِ والذمّ... هل بقي مكانٌ في ضمائِرِكُم لذاك الفداء؟ بالله عليكم... متى تَذكرون «أنَّكم من التّراب وإلى التّراب تعودون»؟ وهل تَذكرون...!؟
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة