مصطفى الهواري*
من هي «القيادات الأجنبية» التي تقف خلف التفجيرات الأخيرة التي استهدفت الجزائر في الأسبوعين الماضيين؟ سؤال طرحه الجزائريون بعدما أطلق الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تهماً على «الجماعة الإسلامية للدعوة والقتال» التي أصبحت تنسب نفسها لـ«القاعدة في بلاد المغرب»، بأنها تُحرَّك من «عواصم وقيادات أجنبية»، لخدمة مصالحها. كان ذلك في 6 أيلول الجاري، مباشرة بعد التفجير الذي حصل وسط جمهور تمّ جمعه في مدينة باتنه لاستقبال الرئيس، وذلك قبل دقائق قليلة من وصول موكبه. وقد تلى العملية في أقلّ من ثلاثة أيام، تفجير انتحاري استهدف ثكنة لحرّاس الشواطئ في ميناء دلس في منطقة القبائل، أدّى إلى مقتل أكثر من 50 قتيلاً، وذلك في بداية مشؤومة لشهر رمضان، وهو ما جعل الجزائريّين يحاولون فكّ اللغز الكامن وراء توجيه التهم التي أشار فيها الرئيس إلى الخارج.
«من؟» طُرح السؤال بنوع من الريبة لأن كثيراً من الجزائريّين يميلون إلى عدم الإفراط في استهلاك أطروحة «الأيادي الخارجية»، خصوصاً إذا كانت مبهمة. وممّا ضاعف من هذا التحفّظ، وقوع هذه العمليات الدموية بعد أسابيع فقط من رواج الشائعات عن تدهور صحّة الرئيس.
كانت إيران في العقد التاسع من القرن الماضي، المتّهم السهل في دعم الجماعات المسلّحة. لكن، اليوم يصعب ذلك، إذ لا أحد يرى دوراً لطهران في القضية. فالعلاقة بين البلدين جيدة، وقد عبّر بوتفليقة في 6 آب الماضي، خلال زيارة الرئيس محمود أحمدي نجاد إلى الجزائر، عن دعم لافت لموقف إيران في نزاعها مع الولايات المتحدة بخصوص الملف النووي. كذلك لم يجرؤ أحد، مثلما جرت العادة أيضاً، على توجيه أصابع الاتّهام للمغرب المجاور.
لعلّ رئيسة حزب العمال لويزا حنون، كانت الوحيدة التي خرجت نوعاً ما عن الخطاب «المشفّر»، حيث اتهمت علناً في نيسان الماضي، بعد عملية استهدفت مقرّ رئاسة الحكومة، الولايات المتحدة بالوقوف خلف المنفّذين. وقالت آنذاك إن «الإرهاب ليس أعمى» وهو يستهدف «الدولة الجزائرية» بعد تراجعها عن قانون محروقات يتيح للشركات الأجنبية تملّكاً يصل حتى 80 في المئة من آبار البترول، ورفضت استقبال قواعد عسكرية أميركية وقيادة الجيش الأميركي في أفريقيا (الأفريكوم) التي أعلنت الولايات المتحدة عن إنشائه منذ عام، وكرّرت حنون اتهاماتها بعد العمليّتين الأخيرتين.
وإذا كان كثيرون لا يستثنون دوراً خارجياً في الأحداث، خصوصاً بعد إعلان «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» انضواءها تحت راية «القاعدة» العالمية، فإنهم يرون في اتهامات حنون تعبيراً عن قناعات سياسية ما زالت تفتقر إلى أدلّة. فعلى الجانب الاقتصادي، لم تتأثّر المصالح الأميركية في قطاع المحروقات بالتراجع عن قانون النفط، ونالت الشركات الأميركية عقوداً ضخمة في هذا المجال. لا شكّ في أن الريع البترولي المتراكم على الجزائر جعل تنافس الشركات الأجنبية يحتدّ، لكن يفضّل كثيرون عدم الإفراط في استهلاك أطروحة اليد الأجنبية، معتبرين أن غياب حلّ سلمي للأزمة، هو الذي يهيّئ الأرضية للتدخّلات الأجنبية. فالخطاب الرسمي عمل على توجيه الرأي العام كلياًَ إلى «الأيادي الأجنبية». وقد صرّح وزير الداخلية يزيد زرهوني بأنه «لا أحد في الجزائر يمكن أن يستفيد من هذه العمليات الإرهابية»، مضيفاً أن «عودة الجزائر إلى الساحة الدولية، خصوصاً في المجال الاقتصادي، قد تقلق بعض المصالح الأجنبية». وقد نظّمت الأحزاب الموالية تظاهرات تنديد بالإرهاب ودفاع عن سياسة المصالحة الوطنية للرئيس بوتفليقة، وخلال هذه التظاهرات التي لم تلقَ استجابة كبيرة، رفع البعض شعار «عهد ثالث للرئيس»، وهذا يعني تغيير الدستور على طريقة الجار بن زين العابدين علي في تونس.
ويمكن تفسير عدم حماسة الجزائريّين إزاء هذه التظاهرات، بكونهم غير مقتنعين بسياسة المصالحة بالطريقة التي تطبّقها السلطة، التي تتجاهل المسائل الأساسية الإشكالية، مثل تغيير النظام السياسي وفتح مجال الحريات. فسياسة المصالحة التي يقدّمها النظام سقفاً لما يمكن الذهاب إليه، أدّت مفعولها الأمني، حيث سمحت بتفريغ الجبال من الآلاف من العناصر المسلّحة، لكنّها لم تعالج الأزمة السياسية. وعلى عكس ذلك، فإن بعض بنود قانون المصالحة، مثل المادة 46، يجرّم أي محاولة للتعاطي مع أحداث الـ 15 عاماً الماضية، واستخلاص العبر السياسية الضرورية منها. فالسلطة ترى أن الأزمة انتهت، وأن التاريخ قد تمّت كتابته ولا يمكن قراءته على طريقة مغايرة لما تراه. وقد ولّد ذلك عقماً سياسياً رهيباً. وعبّرت شخصيات سياسية معارضة تحظى باحترام كبير، مثل عبد الحميد مهري وحسين آيت أحمد ومولود حمروش، عن ضرورة إعادة النظر بتاريخ البلاد، وأصدروا في 14 أيلول الجاري، بياناً يدين «العنف والترهيب»، ورد فيه: «إننا ننادي ونقول بأن إنكار السياسة وممارسة العنف والإقصاء ليسا حلولاً للمشاكل والصعوبات وحالة الانسداد التي يعيشها النظام». وعبّروا عن قناعتهم بأنّ «المخرج الوحيد والطريق الوحيد لأمن البلاد واستقرارها وتحقيق الأمل هو وضع مسار لدمقرطة السلطة وممارستها ورقابتها».
ويُنتَظر أن يكون هذا البيان انطلاقاً لمبادرة سياسية. غير أنّ كثيرين يخشون من أن تعمد السلطة إلى تجاهلها أو إجهاضها، وهذا سيكون هروباً إلى الأمام، لأنّ أرضية الدمار لا زالت خصبة عند الشباب الجزائري الذي وصل به اليأس إلى البحث عن «الجنّة» في قوارب تتّجه نحو أوروبا أو عبر العمليات الانتحارية. فعمر الشاب الذي فجّر نفسه في ثكنة دلس لا يتجاوز 15 عاماً، وهذا يحثّ على التفكير العميق، لا على اعتبار أنّ الأمور تسير يشكل سليم، وأنّ المشاكل «تأتي من الخارج».
* صحافي جزائري