strong>وهيب معلوف *
كان لا بد لمقاطعة إسرائيل والمجتمع الدولي للسلطة الفلسطينية بعد فوز حركة حماس بأكثرية المقاعد في الانتخابات التشريعية مطلع عام 2006، من أن ترتدّ عليهما. وهذا ما حصل مع الانقلاب الدموي لحماس وإحكامها قبضتها على السلطة في قطاع غزة.
تداعيات ما حصل في غزة، وفق ما ورد في العدد الأخير من مجلة «الإيكونوميست» البريطانية الرصينة، يمكن تلخيصها بأنّ الحركة «العلمانية الوطنية مثل فتح تبدو القوّة الأضعف، فيما الإسلام الراديكالي يبدو هو الأقوى. وهذا يشكل خطراً كبيراً على منطقة تُنهكها أصلاً النزاعات العنفية. والأسوأ هو أن السياسة الغربية هي في خطر تقوية الطرف الخطأ بجعلها الإسلاميين يبدون كشهداء والعلمانيين كخونة». لكنّ حقيقة الأمر أنّ الصراع الذي تشهده غزة ليس بين علمانيين وإسلاميين، بقدر ما هو بين من تسمّيهم الإدارة الأميركية «المعتدلين العرب» وأولئك الذين يعارضون سياسات تلك الإدارة في منطقة الشرق الأوسط. فالإدارة الأميركية وإسرائيل، بالإضافة الى الرؤساء «العرب المعتدلين» يرون في الصراع القائم فرصة لعزل حركة حماس التي ما زالت ترفض مبدأ السلام مع إسرائيل. وليس سرّاً أنّ الإدارة الأميركية طالما عقدت آمالها على تقوية الرئيس الفلسطيني محمود عباس بهدف إطاحة حركة حماس من السلطة، على عكس العديد من الدول الأوروبية التي توقعت أن تؤدي مقاطعتها للسلطة الفلسطينية الى جعل حماس «أكثر اعتدالاً».
في الظاهر، تبدو السلطة الفلسطينية وحركة فتح وكأنهما تمسكان بزمام الأمور. فقد سارع المجتمع الدولي كما الدول العربية الى التعبير عن دعمهم لحركة فتح، فيما يطمح المانحون الدوليون الى إنهاء مقاطعتهم للسلطة الفلسطينية وإعادة ضخ الأموال إليها بعدما حلّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس الحكومة التي تقودها حماس وعيّن حكومة جديدة معظمها من التكنوقراط.
وفي المقابل، تتعرّض غزة لحصار محكم بحيث يستحيل على المواطنين الخروج منها، ويُمنع إدخال معظم البضائع إليها ــ باستثناء اليسير من المواد الغذائية والأدوية المقدمة من المنظمات غير الحكومية. وقد وصف الصحافي الأميركي ستيفن إيرلانغر خطة الإدارة الأميركية التي تقضي بـ«تركيز الجهود الغربية والأموال على الضفة الغربية» بهدف جعلها «نموذجاً مشعّاً لفلسطين جديدة»، ما يجبر قطاع غزة وحركة حماس على الانصياع.
أما إسرائيل فهي أيضاً تريد دعم الرئيس عباس في وجه حركة حماس. وفيما يبدو أن إسرائيل لن تقدّم أية تنازلات إلا إذا أحرز عباس تقدّماً في مجاليْ الأمن والاستقرار، تبقى قدرة الأخير على إحراز تقدم كهذا مرهونة بالتنازلات الإسرائيلية، ما يبقي الوضع في الحلقة المفرغة المعروفة. «يعتقدون أننا سنصبح في جنّة لمجرد أن العائدات الضريبية ستعود، لكن كل ما في الأمر أن الوضع سيعود الى ما كان عليه عام 2005»، يقول السياسي الفلسطيني مصطفى البرغوتي في هذا الصدد.
غير أن أهم ما في الموضوع هو أن الإدارة الأميركية الحالية لا تزال ترفض استخلاص العبر من أخطاء الماضي. فليس في دعمها ــ في إطار الصراع الداخلي الفلسطيني ــ رئيساً طيّعاً هو محمود عباس وقائداً أمنياً متعطّشاً للسلطة هو محمد دحلان، سوى دليل آخر على النفاق الذي تمارسه الإدارة المذكورة في تعاطيها مع وكلائها في إطار صراعاتها الإقليمية الملتهبة. فـ«رجال الدولة» اليوم هم أنفسهم «إرهابيّو» الأمس، تتغيّر ألقابهم تبعاً لمقتضيات السياسة الأميركية ووكلائها في المنطقة. فبالأمس كانت حركة فتح على لائحة وزارة الخارجية الأميركية للمنظمات الإرهابية، وكان زعيمها ياسر عرفات إرهابياً معزولاً ومحاصراً في مقره الرئاسي في رام الله الى حين موته الملغز عام 2005. وكتائب شهداء الأقصى، الجناح العسكري لحركة فتح، لا تزال مدرجة على لائحة وزارة الخارجية الأميركية للمنظمات الإرهابية. إلا أن أياً من هذين الأمرين لا يشكل مصدر إزعاج أو قلق للقيادة الفلسطينية الحالية التي تستسهل الحصول على صفات «سلطة» و«شرعية» مسبغة عليها من الخارج.
والحال أن تحالف عباس ــ دحلان هو موضع ازدراء بنظر أسياده أكثر مما هي الحال مع حركة المقاومة الشعبية التي تتزعّمها حماس. فعباس غالباً ما يتم تجاوزه وتجاهله عندما يجتمع المفاوضان الأميركي والإسرائيلي لاتخاذ القرارات السياسية التنفيذية. وهي قرارات تبقى أحادية الطابع وتتجاهل أية مطالب فلسطينية، باستثناء تلك المتعلقة بالمنفعة الشخصية للرئيس عباس والمجموعة المحيطة به. ويبدو أن الدعم المالي والعسكري المعلن لحركة فتح ليس سوى وسيلة لضمان السياستين الأميركية والإسرائيلية ودعم حججهما بشأن حماية مصالح أمنهما القومي المفترضة في منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما يفسر السهولة التي استطاعت بها حماس إتمام سيطرتها على قطاع غزة.
وبعد الكارثة التي تعرضت لها حركة فتح في قطاع غزة، يرى بوش وأولمرت فرصة مؤاتية للإثبات ــ عبر حكومة خالية من مشاركة حركة حماس ــ أن «الاعتدال» يؤتي ثماره. وقد ترافق ذلك مع إعلان نية الإفراج عن الأموال المستحقة للشعب الفلسطيني ــ التي كانت مجمّدة في فترة قيادة حماس لحكومة الوحدة الوطنية ــ كأنما معضلة الشعب الفلسطيني هي اقتصادية بالدرجة الأولى. فالفلسطينيون لم يصوّتوا لحماس في الانتخابات التشريعية في مطلع العام الماضي بالضرورة لأنهم يؤيدون شعاراتها، أو يفضّلون العيش في دولة إسلامية، أو يؤيّدون الهجمات على المدنيين الإسرائيليين، بل لأنهم رأوا فيها حركة غير ملطّخة بالفساد، بالخنوع لإسرائيل وبالرغبة في الاستمرار بتنفيذ الرغبات الإسرائيلية. كانت حماس هي البديل في ظل سلطة بوليسية أمنية يُنظر إليها على أنها تدير شؤون البلاد لمصلحة الاحتلال الإسرائيلي.
ومما زاد من حدّة التوتر بين فتح وحماس هو النفاق المنطوي عليه موقف الغرب المعادي لهذه الأخيرة. فغداة فوزها بالانتخابات التشريعية عام 2006، حرم الغرب الحكومة التي شكلتها حماس من المساعدات المالية بحجة أن حماس لا تعترف بوجود إسرائيل. وهو منطق على قدر كبير من التهافت ما دامت إسرائيل لا تعترف بفلسطين ولا بحقوق الشعب الفلسطيني.
تتهم حماس بأنها لا تلتزم بالاتفاقات الموقّعة سابقاً، في حين أن إسرائيل، بتعليقها تحويل العائدات الضريبية المستحقة الى السلطة الفلسطينية، تقدم مثلاً صارخاً على مخالفتها للاتفاقات الموقّعة، بالإضافة الى ما ينتج عن ذلك من آثار مدمرة على عامة الشعب الفلسطيني لا تُقارن بما يسببه عدم اعتراف حماس بالاتفاقات الموقعة من آثار على الإسرائيليين.
خلاصة القول أن حماس لم تستثر عداوة الغرب بسبب عقيدتها الإسلامية، بل بسبب معارضتها للاحتلال الإسرائيلي ومقاومتها له. والسلام الحقيقي المنشود هو في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية مجاورة لإسرائيل تكون مستقلة حقاً وقابلة للحياة. وهو سلام يبقى مستحيل التحقيق في الأمد المنظور، أي في ظل مقاربة «المعتدلين العرب» للقضية الفلسطينية.
* باحث لبناني