ألبير فرحات *
«كل شي فرنجي برنجي». ازدهرت هذه العقدة لدى البعض بتأثير التطورات الدراماتيكية التي جرت في ساحة العالم في الربع الأخير من القرن العشرين الماضي. ويمكننا أن ننقد المقال الذي نشره الأستاذ نسيم ضاهر تحت عنوان: «تداول السلطة: المفاعيل والمراهنات» («الأخبار» 18/5/2007) من هذه الزاوية.
ما هي حال «الديموقراطيات الغربية» وفقاً لوجهة النظر التي عرضها الكاتب في مقاله؟ يقوم فيها البناء المؤسسي على تداول السلطة وفق أجندة الاستحقاقات الدورية التي يخضع فيها المتنافسون لمنطوق صناديق الاقتراع، والتي تنساب فيها العملية الانتخابية بشكل طبيعي حيث يسجل كل مواطن اسمه طوعاً في لائحة القيد. ويضيف الكاتب قائلاً: ثم يأتي تداول المناصب ضمن مداميك الصرح الانتخابي الذي يلجم التفرّد بالسلطة. أما الرائد النظري لتلك المجتمعات فهو التسابق على الخدمة العامة، ما يفترض أهلية المتنافسين واشتراكهم في السعي لترجمة المصلحة العامة، كلٌّ على طريقته. وتعمل تلك المجتمعات، حسب قوله، على مصالحة المجتمع مع نفسه، وعلى مجانبة الصدامات الحادة قدر المستطاع، أمّا المناعة فهي مطلقة من خلال عامل العودة دورياً إلى الشعب.
وما دام كلام الكاتب يدور حول محاسن الديموقراطية الغربية في بلدان «محور الخير» تلك، فكان لا بدّ له من أن يعرّج على بلدان «محور الشرّ» قائلاً: «إن انهيار المنظومة الاشتراكية قد أدّى إلى اقتلاع العداء من قاموس السياسة، فما من تخوين للخصم واستئثار بالوطنية وامتلاك للحكمة والحلول العجائبية».
ليس الماركسيون وحدهم مَن يقول بشكليّة الديموقراطية البورجوازية التي تكتفي بإعلان الحق في المساواة بين الناس، من دون ضمان الشروط المادية لتحقيق هذه المساواة، ذلك أن مجتمعاً يقوم على ملكية طبقة لوسائل الإنتاج والإعلام، في ظل هيمنة المجمّعات الصناعية ــ العسكرية والاحتكارات التريليونية العالمية، لا يكون للمواطنين من شأن في تقرير مصائرهم، إلاّ في أدنى الحدود.
قلنا إن الماركسيين ليسوا وحدهم مَن كشف عن الرابط بين الملكية والحرية. فقد قال لافونتين منذ زهاء 300 عام: «تبعاً لكونك صاحب نفوذ، فإن أحكام القضاء تجعل منك أبيض أو أسود». أمّا الرئيس الجمهوري الأميركي آيزنهاور فقد حذّر في نداء شهير من سيطرة «المجمع الصناعي ــ العسكري» على الحياة السياسية في الولايات المتحدة الداخلية والخارجية معاً.
وإذا عرفنا على سبيل المثال أن هناك عرضاً لشراء وكالة «رويترز» للأنباء بمبلغ 13،4 مليار دولار، وإذا نظرنا إلى ردود الفعل غير المسبوقة من قبل العاملين في وسائل الإعلام الفرنسية من سيطرة أصدقاء ساركوزي من كبار رجال المال على تلك الوسائل، وصولاً إلى تلك الصحيفة الكبرى التي كانت تعتبر وسيلة إعلام موضوعية ومستقلة، فإنه يصبح بإمكاننا أن نأخذ فكرة عن كيفية «صناعة الرأي العام»، وهي الصناعة التي تتيح الفرصة للمواطنين في أن يختاروا كل أربع سنوات مَن هم أهل الخير الذين سيتداولون ثروات البلاد وتعب الناس.
نعم، يتم تداول السلطة بكل رقيّ وحضارة، ولا سيما من خلال «ضربات الكعوب» التي يوجّهها هذا أو ذاك من المرشحين إلى بعضهم الآخر من نوع تلك الضربات التي وجّهها الرئيس شيراك إلى ساركوزي أملاً في إضعاف قواه ومنعه من الترشّح للرئاسة لكي يتمكن هو من الترشّح مرة أخرى.
أمّا كلفة تداول السلطة الحضاري هذه، فإنها تبلغ مئات الملايين من الدولارات في الانتخابات الرئاسية التي تجري في الولايات المتحدة. المال ثم المال هو عصب تلك الديموقراطية التي يبشّر نسيم ضاهر بعذريتها. وبالنسبة إلى هذا الدور، نستعيد ما ذكرته وسائل الإعلام الفرنسية أخيراً من أن الرئيس ساركوزي كان قد صرّح عام 2005 بأن ثروته هي «أقل من 750 ألف أورو»، أمّا عام 2006 فقد صرّح بأن ثروته تبلغ 2،500،000 أورو، أي بزيادة 1،750،000 أورو في عام واحد! أمّا الرئيس السابق شيراك، فإن فضائح الفساد التي تلاحقه منذ أن كان رئيساً لبلدية باريس، والمتصلة أيضاً بالصفقات التي أجراها آل الحريري تحت رعايته، هي مالئة الدنيا وشاغلة الناس.
وإذا تابعنا الكشف عن الأوضاع في فرنسا فإن أهم وأكبر الإنجازات الديموقراطية التي تحققت في ذلك البلد، في الميادين السياسية والاقتصادية ـــ الاجتماعية، لم تتحقق من خلال تداول السلطة السلمي، بل من خلال ثورات ونضالات دفع فيها الناس دماءهم وأرواحهم منذ الثورات الكبرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حتى حرب الغوار ضد المحتل النازي و«ثورة الطلاب» التي جرت عام 1968، وهي كلها مكاسب مهددة اليوم.
وعلى كل حال، فإننا لا نفهم كيف أن الديموقراطية في الداخل، حتى إذا تحققت، تسمح باستعمار الشعوب ونهب خيراتها والقضاء على حياة الملايين من الناس. وأين هو ذلك «الاقتلاع للعداء من قاموس السياسة»؟ هل هو في غزو العراق بذريعة أكاذيب مفضوحة وقتل ما يزيد على 650 ألف عراقي وتهجير الملايين، طمعاً بالنفط وبالموقع الاستراتيجي؟ للأسف، فإن أي ضمير بارد لا يمكنه أن يقبل بأن تكون إسرائيل، الجزيرة الديموقراطية في الشرق الأوسط، قد شنّت حرب إبادة على لبنان وشعبه، استخدمت فيها مجموعة كاملة من الأسلحة المحرّمة أو المحرّم استخدامها ضد المدنيين في 9000 غارة لطائراتها العسكرية على الناس وعلى البنية التحتية لتحقيق الهدف الذي أعلنه قادة إسرائيل في بداية حرب تموز 2006، أي «إعادة لبنان 20 عاماً إلى الوراء».
ويأتي الكاتب على أطروحة «التخوين» وكأن التخوين كان يصدر عن طرف، في حين أن الطرف الآخر لا يخوّن الغير. نعم، نحن لا نقبل بتخوين الرأي الآخر، ولكننا لا نعتبر الخيانة وجهة نظر. فقد كان هناك خونة منذ فجر التاريخ كما كان هناك وطنيون. أمّا الغرب الديموقراطي الاستعماري، فإنه يذهب إلى نعت الآخرين بما هو أشدّ من التخوين، إذ يجري اتهام المناضلين ضد الاحتلال وفي سبيل الحقوق الديموقراطية لشعوبهم، ولا سيما الحق في تقرير المصير، بكونهم «إرهابيين» و«مجرمين» يجب «استئصالهم»، ولا بأس في أن يذهب المئات من الأطفال والنساء والشيوخ قتلى مقابل كل «إرهابي» يجري استئصاله.
نعم، هذه هي لغتنا الخشبية في ردنا على تلك اللغة القطّية (نسبة إلى مواء القطط) التي لا تترك وسيلة من وسائل التحذلق إلّا تستخدمها للترويج لأفكار الحرب النفسية التي يقوم البعض بتسويقها دفاعاً عن «الغرب الديموقراطي» بوجه أولئك «المغامرين» و«المتعصبين»، في حين أن المطلوب هو «الاعتدال» و«الإقلاع عن الأيديولوجيا» بعدما انتهى التاريخ بانتصار الرأسمالية.
* محامٍ