ناصيف قزّي *
أيكون نزلاء السرايا الكبيرة «أشبه بالراقصين في فيلم التايتانيك، قبل أن تصطدم بجبل الجليد»؟ فأمامهم حلاّن: «إما الانتخابات النيابيَّة المُبْكرة، وإما انتخابات رئاسيَّة من الشعب». أما «الحلُّ الثالث... فلن نطرحْه الآن». وفي مطلق الأحوال، «لا رئاسة جمهوريَّة بهذه الأكثريَّة»... الأكثريَّة المطعونِ بتمثيلها، بل المسروقة، و«لن نقبل بأن نؤسِّس دولة على الفساد بعد الآن. عهد الفساد بالسياسة وبالمال سينتهي».
بهذا الكلام الواضح والصريح والحازم في آن، ختم العماد ميشال عون كلمتَه التي ألقاها خلال العشاء السنويّ لأطباء التيّار الوطني الحرّ، مساء الجمعة الفائت، والتي نسف بها، الى كونها وضعتْ الأمور في نصابِها، الـ Establishment القائم في لبنان على الفساد والإفساد والتسلُّط والاستئثار والانهزام والتملُّق والمحاباة والكذب وتحوير الحقائق وتبسيط الكبائر وتعظيم الصغائر... فوضع الجميع، من زمنيّين وروحيّين، أمام مسؤولـــــــــيّات، يصعب على المرء أن يتجاهلَها.
يأتي هذا الكلام، في وقت تغيب فيه العدالة عن الساح، فنرى القضاء «ينام على الأرض»، بدل أن ينتصب في وجه الانتهاكات، وقد بلَغَت حدَّ الخطر الداهم... و«حكومةُ النورماندي»، حكومةُ حجز أموال المهجَّرين وحقوق المتضرِّرين من جراء عدوان تموز... حكومة الديون المذهلة والشركات الحصريَّة والجمعيّات البيئيَّة العائليَّة والصفقات وإفقار الناس وتعطيل الإنماء والتمسك بالسلطة خلافاً للدستور والأعراف؛ يأتي هذا الكلام، والحكومة تلك، تستمرّ في توزيع نَفَياتها السامّة في شاحنات الموت المتنقِّلة على جَنْحِ الظلام، كما في وَضْحِ النهار، وبمواكبة أمنيَّة رسميَّة، في المناطقِ اللبنانيَّة كافة.
يأتي كـــــــــلام الجنرال عون، وفي ظلّ الاستحقاقات الداهمة، من تنفيذ القرارات الأمميَّة، بما فيها إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي، الى الحديث عن سلاح حزب الـــــــله والانتخابات الرئاسيَّة، في إطار عملية تصويب المسار السياسي في البلاد، وذلك بتصحيح المفاهيم وتجديد الحياة السياسيَّة والنظرة الى الشأن الوطني، تماماً كما فعل الشيخ عبد الله العلايلي مرَّة، في كتابه «أين الخطأ؟».
ففي حين أعاد الجنرال التأكيد أننا «كتيّار وطني حرّ نسعى الى نظام مدني تحكمه قواعد الأقليَّة والأكثريَّة، لكن نظامنا القائم نظام توافقي يقوم على التوازن الطائفي»، رأى أن الخطأ في مزاولة الحكم ناجم من نزعة الحكومة للسيطرة، وبالتالي دحضِ مبدأ الشراكة الذي أقرّه دستور الطائف. وبعدما أكَّد «أنه ما من أحد يؤيد بقاء سلاح حزب الله الى الأبد بمن فيهم حزب الله نفسه»، خلص الى القول إن «ورقة التفاهم» وضعت آليَّة للحل.
أما الهدف الذي يعنون به مسيرته الوطنيَّة، ولا سيما بعد عقود أربعة من النكبات والأهوال، فهو بالدرجة الأولى «توفير الاستقرار للمجتمع»... فتلك هي الهدية الكبرى التي يطمح إلى أن يقدِّمها الى اللبنانيّين، الذين عليهم أن «يتنبهوا للمؤامرات المبطنة والمموهة».
وقبل أن يسأل عن «تساهل اللبنانيّين في ارتكاب الخطأ والخطيئة»، أشار الى «عدم أهلية المجلس النيابي الحالي لانتخاب رئيس للجمهوريَّة» حتى لو تم ذلك بنصاب قانوني لأن الأكثريَّة تعتبر مسروقة بعد إلغاء المجلس الدستوري وبالتالي الطعون.
ثم انتهى الى المطالبة بحقوق المسيحيين بعدما تقلَّص موقعهم التشريعي والحكومي وانتهكت صلاحيات رئيس الجمهوريَّة... ما يفترض إعادة تكوين السلطة، بَدءاً بقانون انتخابي وبانتخابات مبكرة. والخائف الوحيد من تلك الانتخابات هو بالتحديد مغتصب السلطة.
وبعد، فإذا كانت المشكلة في السلطة التي تبيِّض السرقات بواسطة توفير نصاب مسروق، فهل هذا يعفي المؤسسات كافة، من زمنية وروحية، من مسؤولياتها؟
ألا تندرج زيارات صاحب الغبطة، من روما الى بعبدا، في السياق عينه، لجهة التفتيش عن مخارج وحلول للوضع المأزوم؟
صحـــــــيح أن للـــــــــكنيسة المارونيَّة دورَها الريادي في اجتراح الحلول للأزمة اللبنانية، ولكن هل يعقل أن يتم ذلك كما جرى في الآونة الأخيرة؟
أيعقل أن نرى رأس الكنيسة، في ظل الانقسامات الحادة في البلاد، وعشيَّة صدور البيان الشهري لمجلس المطارنة الموارنة؛ أيعقل أن نرى رأس الكنيسة بين داوودين، الصايغ وولش... وداوود المسيحيّة الحقَّة، الذي من سبطه مريم، لا يكون؟
هل لنا أن نسأل سكريتاريا الصرح عن الموعد الثابت الذي يعطى لداوود الصايغ، مستشار النائب سعد الحريري، وبصورة منتظمة عشيَّة اجتماع مجلس المطارنة الموارنة في الأسبوع الأول من كل شهر؟
ودافيد ولش، الغيور على مصلحة المسيحيين... ماذا يريد منا، نحن الذين نحمل في وجداننا ظلم التهجير والهجرة والضياع... غير ما أراده سلفه دين براون يوم جاء ليقنعنا بالرحيل عن لبنان...!؟ ألم يكفنا حب جاك شيراك، المعاند حتى الرمق الأخير؟
أمكتوب علينا أن نتحمل أخطاء قادة زمنيين وروحيين عند المفترقات الكبيرة التي نمر بها؟
ثم، أيجوز أن يجري الاستحقاق الرئاسي في موعده وبأي ثمن... والمهم فقط أن يكون الرئيس الجديد، كما وصفه صاحب الغبطة، «لبنانياً محضاً» و«رجلاً ذا خبرة وعلى مسافة واحدة من الجميع» و«متجرد»؟
هل للصفة التمثيليَّة من مكان في فهرس مواصفات صاحب الغبطة... أم التنكر للشعب وإرادة الشعب بات مكرساً...!؟
في اعتقادنا أن تلك المواصفات لا يمكن أن نجدها إلا بواضــــــعها. وربما كان صاحب الغبطة أوفر حظاً مـــــــــــن سواه... فيتسنّى له تسريع إقرار قانون عادل للانــــــــــتخاب... وتنفــــــــــــــــيذ قرارات المحكمة الدولية تحت الفصل السابع... أما الفدراليَّة ومسالك التقسيم على وقع طبول التوطين بعد إلغاء حق العودة للفلسطينيين، فيصبح شأناً داخلياً يتدبره جهابذة الأكثريَّة في ما بينهم.
في أي حال، بين أوهام الأكثرية وحقائق الجنرال مسافة، حدودها المنطق ومنهج العقل... فلا اغتصاب السلطة يدوم، ولا تبسيط هذا الأمر وتغطيته سهل المرور... فالوطن المنكوب بأحداث وتراكمات وأزمات وأوجاع، كما ببعض بنيه ممن عشَّشَ الحقد في نفوسهم وأقاموا أمام وجوههم هياكل من الشعارات... الوطن المنكوب لا يعود بالتسويات الباهتة بل بإعادة تصويب المسار... وهل يتم ذلك إلا بالعودة الى الشعب وبالتمثيل الصحيح...!؟
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة