ماجد عزام *
الذكرى الثانية والأربعون لانطلاق حركة التحرير الوطني الفلسطيني ««فتح» » لم تشهد مزيداً من الحكمة والوقار والتجربة والتروي كما يفترض أن يكون، بل شهدت، للأسف الشديد، قيادة حركة ««فتح» » أو المتنفذون فيها انقلاباً في الساحة الفلسطينية لن يطيح فقط المكاسب الديموقراطية والمعنوية المهمة التي أفرزتها الانتخابات التشريعية، بل سيطيح كامل المكاسب والنجاحات التي حققتها الثورة الفلسطينية المعاصرة التي كان لحركة «فتح» فيها نصيب مؤثر ومركزي.
للإنصاف، لا يجب التركيز فقط على المرحلة الحالية التي تعيشها، أو بالأحرى تتخبط فيها حركة «فتح» ، وتحديداً في الثلاث سنوات الأخيرة التي أعقبت رحيل القائد المؤسس الشهيد أبو عمار. ولفهم ما يجري الآن بشكل دقيق، يجب إلقاء نظرة على المراحل الأربع التي شكلت تاريخ الحركة والتي شهدت انتقال الحركة من الثورة إلى الانقلاب خلال 42 عاماً من عمرها.
المرحلة الأولى التي عاشتها حركة «فتح» امتدت من تاريخ النشأة عام 1965 إلى حين الخروج من بيروت في خريف عام 1982، وهذه المرحلة مثلت ربيع حركة «فتح» وإبداعاتها، رغم بعض السلبيات، إلا أن إيجابيات المرحلة ومعالمها كانت واضحة وجلية لكل ذي بصر وبصيرة، أهمها، بالطبع، تحويل القضية الفلسطينية من قضية إنسانية تتعلق بالاحتياجات الضرورية لشعب اقتلع من أرضه، إلى قضية سياسية بامتياز لشعب يبحث عن حقوقه وآماله الوطنية وطموحاته في تقرير المصير والعودة إلى دياره التي شرد منها. «فتح» كانت صاحبة النصيب الأكبر في هذا الإنجاز الذي رافقه إنجاز آخر يتعلق بإحدى أكثر التجليات والإبداعات الفلسطينية على مر التاريخ، المتمثل بمنظمة التحرير الفلسطينية التي تحولت إلى وطن معنوي للفلسطينيين أينما كانوا والتي مثلت الإطار أو الوعاء الذي تتفاعل فيه القدرات والمواهب والإبداعات الوطنية المختلفة من أجل الهدف السامي المتمثل بالتحرير والعودة وتقرير المصير. ورغم كل السلبيات، فإن الإيجابيات تظل هي الغالبة، وحتى الخروج من بيروت الذي أثار وما زال العديد من السجالات وكانت له تداعيات سلبية هائلة على منظمة التحرير وحركة «فتح» نفسها، إلا أن كل ذلك لا يخفي حقيقة أن منظمة التحرير وحركة «فتح» تركت وراءها إمكانات ونقاط قوى وتجربة مهمة على مختلف الصعد السياسية والعسكرية والأمنية والمعنوية. المرحلة الثانية التي مرت بها حركة «فتح» تمتد من عام 1982 حتى عام 1993 تقريباً، هذه الفترة شهدت التيه السياسي والتنظيمي وعدداً من الخلافات والانشقاقات التنظيمية والتخبط، ولم تستغل لإعادة بناء التنظيم وفق أسس ديموقراطية ووطنية شفافة ونزيهة. وللأسف لم تجر عملية تقويم للمرحلة الأولى للاستفادة من الإيجابيات وتلافي السلبيات. وحتى الانتفاضة الأولى التي كانت أيضاً أحد التجليات والإبداعات المتفردة للشعب الفلسطيني، حال التيه السياسي والتحجر والجمود التنظيمي دون التعاطي معها كما ينبغي، وكان من الغريب أن تستغل الانتفاضة هذا الاستغلال البشع بحيث تؤدي في النهاية إلى اتفاق أوسلو.
المرحلة الثالثة التي عاشتها حركة «فتح» تتعلق بأوسلو أيضاً وتمتد من خريف عام 1993 وحتى خريف عام 2000، وهذه المرحلة شهدت الخريف الحقيقي للحركة التي هرول العديد من قادتها ورموزها إلى مكاسب السلطة وتحولوا من قيادة الصراع والمقاومة ضد اسرائيل إلى التفاوض والتنسيق الأمني معها. وهذه المرحلة شهدت مزيداً من الجمود والتحجر التنظيمي، وحال الرئيس عرفات رغم نياته الطيبة دون إعادة بناء التنظيم بشكل جاد وجدي وفعال، ورعى كل التيارات والمشارب من عرابي أوسلو والتسوية والاندماج ضمن المشاريع الإسرائيلية والأمريكية إلى رافضي هذا المشروع والمصرين على المقاومة خياراً نموذجياً وجدياً وفعالاً للشعب الفلسطيني، مروراً طبعاً بمؤيدي الجمع بين الخيارين، رغم قيود أوسلو ومحاذيره. وعندما انهارت مفاوضات التسوية وماتت سريرياً في كامب دايفيد كان ثمة تيار في «فتح» لا يريد الاستخلاص أو إعادة القراءة، بل ظل مصراً على اقتناعاته وخياراته البائسة، بينما أعطى الرئيس عرفات مستفيداً من قوته وسلطته التاريخية والأدبية والمعنوية وطبعا المادية الفرصة لأعضاء التنظيم للمشاركة الفاعلة في الانتفاضة وفاعلياتها وخصوصاً العمل المسلح على اعتبار أنه لا يجوز ترك الساحة للآخرين.
السجالات السابقة كونت البداية والإرهاصات للمرحلة الرابعة التي امتدت من عام 2000 إلى خريف عام 2005 والتي شهدت حصار الرئيس عرفات وعزله وفقدانه للسيطرة على معظم التيارات داخل «فتح» ، وشهدت كذلك استئساد التيار التسووي والأوسلوي ومحاولة للهيمنة على الحركة وعلى السلطة بشكل عام وحتى بثمن الانقلاب على الرئيس عرفات نفسه. وعندما اغتالت إسرائيل الرئيس عرفات، تصور التيار الانقلابي أن الفرصة متاحة للهيمنة على السلطة بشكل كامل والمضي قدماً في خياراته الكارثية، غير أن فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية الماضية قلب كل الموازين، حيث أريد من الانتخابات أن تشكل الغطاء الديموقراطي الشرعي والشعبي لكل الخطوات الانقلابية والتفريطية السابقة واللاحقة.
مع غياب الرئيس عرفات وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية دخلت حركة «فتح» المرحلة الأخيرة التي شهدت انتهاءها تنظيماً موجوداً ذا رؤية سياسية وفكرية موحدة ومتماسكة وفكرة أو مفهوم جبهة التحرير الجزائرية أي الجبهة التي تجمع اتجاهات ومشارب سياسية فكرية مختلفة عفا عليها الزمن،فضلاً عن رحيل الرجل الذي مثل الخيمة أو العباءة التي تجمع تحتها كل الاختلافات والتباينات. ولم يتم العمل بشكل جدي لإعادة بناء تنظيم حركة «فتح» وفق أسس وطنية وديموقراطية شفافة ونزيهة وسليمة، بل على العكس جرى اختطاف التنظيم والهيمنة عليه من المجموعة نفسها التي حاولت الانقلاب على الرئيس عرفات، وهي اليوم تنقلب على حكومة الشعب الفلسطيني وعلى خياراته الحرة والديموقراطية وتتواطأ حتى مع الأجنبي والعدو من أجل حصار الحكومة وقطع المساعدات والمعونات عن الشعب الفلسطيني.
الوضع الراهن يزيد ويراكم الصعوبات على جمهور حركة «فتح» وأنصارها والمتعاطفين معها، وتحديداً على التيار الوطني، حيث يجب أن ينزل رموز وقيادة هذا التيار من عليائهم وينخرطوا في عملية حقيقية وشاملة لإعادة بناء «فتح» وترتيب صفوفها، ولو بثمن الخروج والتمايز عن التيار المتصهين، وهي بالمناسبة عبارة لم تبتدعها حماس، بل عمرها من عمر حركة «فتح» وأطلقت على تيار في حركة «فتح» لم يعترف ويقر يوماً بخيار المقاومة ونجاعته، وللأسف الشديد بات هذا التيار مهيمناً الآن على قيادة «فتح» والسلطة حتى منظمة التحرير الفلسطينية.
أخيراً، رغم أننا نتكلم على «فتح» ، إلا أن ثمة أمراً مهماً يجب أن تعيه حركة حماس وقيادتها. مهم جداً أن يكون المرء محقاً، ولكن من المهم أن يكون حكيماً أيضاً، ويجب ألّا تخطئ حماس باستثارة العصبوية ال«فتح» اوية وحشدها خلف القيادة المتنفذة في الحركة، ويجب أن يزن قادة حركة حماس كل تصرف وكل حركة بميزان الذهب بشكل يستلزم السير على خيط رفيع أو على حد السيف، وهذا الأمر يستلزم بالضرورة لياقة عالية، لا بدنية فقط، بل أيضاً نفسية ومعنوية وأدبية. وإذا لم تجتهد وتكد قيادة حماس فإنها ستجد نفسها في مواجهة جمهور ومناصري حركة «فتح» ، لا التيار الانقلابي .
* مدير مكتب شرق المتوسط للصحافة والإعلام.