جورج مسّوح *
«لكلّ شخص الحقّ في حرية الرأي والتعبير» تؤكّد المادّة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وإذ بات هذا الإعلان شرعة عالميّة لا يسع أيّ حكومة من حكومات عالمنا المعاصر أن تخالفه من دون أن تسبّب لنفسها المتاعب، ولا سيّما في مسألة الحقّ في إبداء الرأي والتعبير عنه بحرّيّة. سوف نعرض، من وجهة نظر دينيّة بعامّة ومسيحيّة بخاصّة، حدود حرّيّة التعبير ووسائله، ولكن أيضاً واجب المواطنين بالتعبير عن رأيهم بالأساليب الراقية المتاحة.
تتّفق الأديان، وبخاصّة المسيحيّة والإسلام، على القول بأنّ غاية الدين الأولى خدمة الإنسان وصون كرامته. فالأديان وجدت لخدمة الإنسان لا الإنسان لخدمة الأديان، ووجوده سابق لوجودها. والله، بحسب هذه الأديان، وعد الإنسان وحده، دون سواه من سائر المخلوقات، بالخلود. لذلك، تميّز تلك الأديان الإنسان عن بقية المخلوقات، لكونه «صورة الله ومثاله» (التكوين 1، 26) أو «خليفة الله في الأرض» (سورة البقرة، 30). وما يميّز الإنسان عن غيره إنّما هو العقل وحرّيّة الاختيار. فالله صنع الإنسان حرّاً، وخيّره بين طريقين، وأرسل الأنبياء والرسل كي ترشده إلى طريق الصلاح وتبعده عن طريق الشرّ، وذلك بواسطة شرائع ووصايا وتعاليم شتّى.
أجمع آباء الكنيسة المسيحيّة، في مختلف الحقب التاريخيّة، على القول إنّ الحرّيّة والعقل هما صورة الله في الإنسان. فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يقول عنه الكتاب المقدّس إنّه خُلق على صورة الله ومثاله، والبديهيّ أنّ العقل والحرّيّة هما ما يميّزان الإنسان عن كلّ المخلوقات العاقلة وغير العاقلة، وتالياً يكون الله قد خلق الإنسان حرّاً مختلفاً عن المخلوقات كافّة. وما قصّة سقوط آدم إلّا لتبيّن لنا مدى احترام الله لحرّيّة آدم وخياراته. لذلك، لا يلزم الله أحداً من الناس بالإيمان به جبراً، الله يريد أن يختار الإنسان بملء إرادته وحرّيّته البقاء معه أو الذهاب عنه. ولنا في كلام القدّيس مكسيمس المعترف عبرة تتلخّص بقوله إنّ الإنسان ليس مكرهاً على الاتّحاد بالله، فهو حرّ، وحرّيّته تعطيه الإمكانيّة أن يرفض الله أو أن يتّحد به. الله نفسه رضي بأن يخرج آدم من جنّته إذ احترم حرّيّته، وبعضنا لا يرضى بأن يرى أحدهم يخرج من تحت سلطته.
إنّ أهمّ ما صنع الله للإنسان منذ إنشاء العالم كان تسخيره الكون كلّه للإنسان، وإخضاع كلّ المخلوقات له. فالله، في سِفر التكوين، عندما خلق الإنسان قال له بصيغة الجمع: «انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلّطوا على أسماك البحر وطيور السماء وكلّ حيوان يدبّ على الأرض» (التّكوين 1، 28). أمّا القرآن الكريم فيكرّر في مواضع عدّة معاني هذه الآية: {وَسَخَّرَ لَكُم ما فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة الجاثية: 45، 13). معنى هذا أنّ الله وضع للإنسان مهمّة مقابل الامتياز الذي منحه إيّاه تجاه بقية المخلوقات، من حيث يكون بمثابة سلطان أو ملك عليها جميعاً. هذه المهمّة توجز بعمل الخير وتجنّب الشرّ، أي العمل بكلّ طاقاته من أجل إعمار الأرض والرفع من شأن الإنسان. وكلّ ما يتعارض مع هاتين المهمّتين الأساسيّتين يجعل الإنسان مخالفاً الهدف الذي من أجله صنعه الله، يجعله متعارضاً والحرّيّة التي أنعم الله بها عليه.
من هنا، يأتي الموقف من الحرّيّة مبنيّاً على أساس الخير العام والسلام والبرّ والمحبّة والرحمة، وكلّ الفضائل والقيم الأخرى التي إن تحقّقت في الأرض تجعل الإنسان أكثر سعادة. وهذه كلّها لها أبعاد إلهيّة ولكنّها مطلوبة إنسانيّاً من كلّ بشريّ. لذلك، كلّ ما لا ينتقص من شأن الإنسان وكرامته ينبغي أن يكون مقبولاً أخلاقيّاً. الإنسان، وحده، هو القيمة العظمى. هو المقياس لرفض أو لقبول أيّ أمر. لذلك، لا قيود للحرّية إلّا في ما يسيء إلى الكائن الإنسانيّ وخيره. فالمعيار الأساس لاستعمال المرء حرّيّته إنّما هو مدى احترام إنسانيّة الإنسان والمحافظة على السلام والخير العام. المانع الوحيد لممارسة الحرّيّة هو عندما تكون في سبيل ممارسة الخطيئة وارتكاب الكبائر والمعاصي، فبعد أن يذكّر الرسول بولس أهل غلاطية بأنّ المسيح قد حرّرهم ينبّههم في رسالته إليهم قائلاً: «فإنّكم إنّما دعيتم للحرّيّة أيّها الإخوة، على أن لا تجعلوا هذه الحرّيّة فرصةً لإرضاء الجسد» (5، 13). من هنا، يسعنا القول إنّ الحرّيّة مرتبطة أصلاً بالحقّ والصدق والاستقامة في الفكر والحياة. وهكذا نفهم أيضاً قول السيّد المسيح: «تعرفون الحقّ، والحقّ يحرّركم» (يوحنّا 8، 32).
لا تؤمن المسيحيّة بالجبريّة التي تجعل الإنسان مستسلماً للقدر، وكأنّ الله هو المسؤول عن الظلم والقهر ولا حيلة للإنسان في مواجهة الأحداث التي تعترضه. بل، على العكس تماماً، تؤمن المسيحيّة بالحرّيّة الكاملة للإنسان وبقدرته على الاختيار، بحيث يكون هو مسؤولاً عن كلّ ما يقوم به. من هنا نستلهم قول مارتن لوثر كينغ، قائد الحملة ضدّ التمييز العنصريّ في الولايات المتّحدة الأميركيّة، الذي يقول: «هل ينبغي لنا أن نخلص إلى الاعتقاد بأنّ التمييز العنصريّ إنّما هو من إرادة الله، فيقودنا ذلك إلى الرضوخ للقهر؟ كلا بالتأكيد. لأنّ ذلك إنّما يكون تجديفاً ننسب به إلى الله ما يأتي من الشيطان. إنّ التعاون السلبيّ مع نظام ظالم يجعل المظلوم مساوياً للظالم من حيث الشرّ». من هنا، كلّ مسّ بحرّيّة الإنسان هو مسّ بصورة الله، وتالياً هو مسّ بالله.
ومن النافل القول بأنّ السلام المبنيّ على الظلم إنّما هو سلام زائف، فالسلام الحقّ لا يمكن أن يُبنى إلاّ على العدل، وهو يمرّ لا محالة بالنضال من أجل إحقاقه. وفي هذا يقول المفكّر الفرنسيّ روجيه غارودي: «ليس السلم غياب الحرب، إنّه غياب الظلم وتسلّط الإنسان على الإنسان». وقد ورد، في هذا السياق، في كتاب حكمة يشوع بن سيراخ: «أيّ سلام يمكن أن يقوم بين الضبع والكلب؟ وأيّ سلام ممكن بين الغني والفقير؟ إنّ حمير الوحش إنّما هي طرائد الأسود في البرّيّة، هكذا الفقراء هم فريسة الأغنياء».
لذلك، ينبغي أن يتّخذ النضال مــــــــــــن أجل الحقّ طريق اللاعنف، ولا سيّما في الخلافات الداخـــــــــــــــــــليّة بين أبناء الوطن الواحد. أمّا وسائله الطبيعيّة فهي: التـــــــــــــوجّه إلى الرأي العام، التظــــــــــــــــاهرات والمسيرات والعرائــــــــــض والإضرابات والاحتجاج ورفض الضرائب والاعتصام، وذروته تبــــــــــــــلغ بالعصيان المدنــــــــــــــــــيّ. وقد أثـــــــــــــــبتت هذه الوســــــــــــــــائل فاعليّتها في أماكن وأزمان شتّى.
أمّا لبنان، بلد الطوائف، فوضعه خاصّ. إذ لا ينطبق عليه ما ينطبق على المجتمعات السياسيّة الأخرى. فسرعان ما يتحوّل أيّ مطلب ترفعه إحدى مكوّنات البلد، في البازار السياسيّ اللبنانيّ، إلى الرصيد المضاف لهذه الطائفة أو تلك. وعندها لا يجدي الكلام على مطلب حقّ أو مطلب باطل. فمعيار الاصطفافات السياسيّة هو مصلحة الطائفة، أو هكذا يتمّ تزيين الأمر في أذهان المطالبين والمعترضين على حدّ سواء. وما نشهده اليوم لدليل على كيفيّة الخلط بين الطائفيّ والسياسيّ في لبنان، وعلى الانحدار الذي بلغه البلد بحيث يستقوي السياسيّون بأبناء طوائفهم وكهنتها وعلمائها في سبيل مصالح آنيّة، متناسين الأهمّ وهو كرامة الإنسان الفرد المواطن الذي إن بقي مغيّباً وراء متاريس أهل الطوائف لن تقوم للبلد قيامة.
* مدير مركز الدراسات المسيحيّة الإسلاميّة ــ جامعة البلمند