أرنست خوري *
على الرغم من مرور أكثر من أسبوع على انعقاد القمّة العاشرة لمنظّمة الدول الفرنكوفونية في 28 و29 أيلول الفائت في العاصمة الرومانية بوخارست، تبقى الاضاءة على الملابسات التي رافقت دعوة ــ عدم دعوة الوفد اللبناني الى القمة ضرورةً لتتبّع التطورات الدولية التي تتسارع في هذه الآونة، من ناحية إعادة خلط الأدوار التي ستشكّل معالم النظام الدولي الجديد المزمع تشكيله.
تكمن أهمية هذه التظاهرة الديبلوماسية الدولية في محاولات فرنسا العودة الى البعض من مجدها الاستعماري الغابر من باب تعزيز دور الـ«كومنولث على الطريقة الفرنسية». الا أنّ الظروف الدولية غير المؤاتية لعودة النفوذ الفرنسي حتى على مستعمراته السابقة من جهة، وتركيبة المنظّمة وغاياتها والطبيعة غير الملزمة لقراراتها وتوصياتها من جهة ثانية، جعلت تلك المناسبة لا تستحوذ الا على القليل من الاهتمام في الصحافة العالمية، حتى الفرنسية منها. لقد ناقش ممثّلو الدول الأعضاء (72 دولة) عدداً من الملفات ــ الأزمات، وأصدروا توصيات أقل ما يقال عنها إنها كانت باهتة وباردة: دعوات للتهدئة في تشاد وساحل العاج، تمنيات بالسلام في دارفور، آمال في زيادة مساعدات التنمية للدول الافريقية الأعضاء في المنظمة (من أصل 72 دولة هناك 29 منها افريقية و21 أوروبية)، إبداء الحزن على الذي يجري في أفغانستان والعراق، تشديد على تطبيق كل القرار 1701 في لبنان... إلخ.
قد يقال إنه كان من الطبيعي أن تتسم هذه التوصيات بشيء من العمومية واللاموقف، بما أنّ شعار القمة لهذه الدورة كان «توظيف تكنولوجيا المعلومات في التعليم»، غير أننا نتوقف عند خلفيات وأبعاد عدم دعوة الرئيس اللبناني لتمثيل بلاده في رومانيا.
في الأشهر السابقة لموعد انعقاد القمة، تحوّلت رومانيا من دولة هامشية على الساحة الدولية الى فاعل أساسي في الصراع الدائر في بيروت. فجأة قررت أن تنصر قرارات الأمم المتحدة والمساهمة في تنفيذ القرار 1559، وذلك عبر عدم الاعتراف بشرعية ولاية الرئيس لحّود، وبالتالي التعامل مع لبنان من باب رئاسة حكومته لا رئاسة جمهوريته. لزّمت رومانيا قرار دعوة ممثّلي الدول الأعضاء في المنظّمة الفرنكوفونية الى الأب الفعلي للمنظّمة، فرنسا، بعدما كانت قد ربطت حياة جنودها بالارادة الأميركية عبر مشاركتها بفرقة عسكرية في احتلال العراق. أمام واقعة من هذا النوع، ينقسم المتابعون الى معسكرين اثنين: أولهما من نوع الذي يبرّر الأمر بكونه منطقياً بما أن رومانيا، وقد تحرّرت من نظامها الشيوعي ـ القومي القمعي، قد أدركت محاسن ركوبها القطار الأميركي حيناً والفرنسي حيناً آخر، وعدم معاندة سياسات واشنطن وباريس. تفيد هذه الحجج أن رومانيا أصبحت أخيراً قادرة على التمييز بين المساعي الأميركية في اعادة بناء أقطار الشرق العربي على قاعدة ديموقراطية، وأصحاب اللغات الخشبية المتمثّلين بالرئيس لحود وأحزاب المعارضة الراهنة في لبنان. بناءً على ذلك، يدّعي هؤلاء بأنّ مقاطعة رومانيا للحّود كانت قراراً منسجماً مع القرارات الدولية المتمثّلة بالـ 1559 (السيء الذكر لأكثر من نصف اللبنانيين). هذه هي القراءة الايديولوجية التي روّجت لها معظم الصحافة الغربية لتبرير السلوك الروماني المتناقض مع كل الأعراف الديبلوماسية.
الاّ أن قراءة أكثر علمية تنبري هنا لتقديم رؤية مغايرة لجدلية تحديد سياسات خارجية لدولة مثل رومانيا، التي تسعى منذ فترة غير وجيزة لحجز مقعد في أي تجمّع أكان إقليمياً أم دولياً، لا لسبب سوى أنّها، كسائر دول أوروبا الشرقية والجمهوريات السوفياتية السابقة، وقعت بعد انهيار جدار برلين، في أزمة هوية: ثقافية، قومية، إثنية، سياسية، اقتصادية، وحتى اجتماعية تهدّد وجودها كلياً.انطلاقاً مما تقدّم، كانت رومانيا أوّل دولة (مع بلغاريا) تنال صفة عضو مراقب في المنظّمة الفرنكوفونية عام 1991. على الرغم من ضآلة المكاسب التي توفّرها «العائلة الفرنكوفونية»، اعتبرت رومانيا ــ الدولة الأفقر في أوروبا (مع ألبانيا) ــ مذاك التاريخ ولا تزال، أن خلاصها قد يأتي من التصاقها بتكتلات إقليمية حتى لو كان التصاقاً التحاقياً لا شراكة فيه، لأنّ أرقام الاقتصاد الروماني كارثية وخاصّةً بعد «حفلة» الخصخصة الجنونية التي اجتاحت البلاد من الشركات الأجنبية. وعلى الرغم من أنّ بوخارست لا تبعد سوى 2000 كلم عن باريس، لا تزال رومانيا متأخرة في مجالات الفرنكوفونية. بعد حوالى 10 سنوات من قبولها في المنظّمة، لا يزال 1 على 4 من الرومانيين يفهمون اللغة الفرنسية، وفقط ألف طالب وأستاذ جامعي استفادوا من دعم «المؤسسة الجامعية الفرنكوفونية» FAU لإكمال دراستهم في فرنسا وبلجيكا وكندا، بينما تشغّل الشركات الفرنسية العاملة في رومانيا حوالى ستين ألف مواطن بشروط اجتماعية واقتصادية سيئة للغاية. هكذا يمكن فهم انتساب رومانيا إلى النادي الفرنكوفوني كخطوة تحضيرية وتحفيزية لقبول طلبها دخول الاتحاد الأوروبي يوماً ما. ولمّا كانت رومانيا تدرك كغيرها، أنّ بوّابتي الاتحاد تقعان في العاصمتين الفرنسية والألمانية، فإنّها قرّرت بيع الرئيس شيراك موقفاً ديبلوماسياً بثمن تأمل أن يكون مرتفعاً، وخاصّةً أنّ على «لجنة بروكسيل» اعطاء رأيها للمجلس الوزاري الأوروبي خلال الشهر الجاري (تشرين الأول) لإبقاء موعد مناقشة عضوية رومانيا في الاتحاد عام 2007 أو إرجاء البتّ في قرار القبول الى عام 2008. يدرك صنّاع القرار في رومانيا أنّ حظوظهم ضعيفة في التعويل على الاحتمال الأوّل، لكنهم يعرفون أيضاً أنه لا يمكن قبولهم يوماً ما في الاتحاد إلاّ بقرار «سياسي بامتياز» بما أنّ بلادهم بعيدة جدّاً من تلبية الشروط الاقتصادية والنقدية والديموقراطية التي تضعها لجان الاتحاد لنيل صفة العضوية الكاملة.
هكذا استنتج حكّام بوخارست أنّ احترام البروتوكول الديبلوماسي مع لبنان لن يعود عليهم بالفائدة، فمن الأجدر بهم مسايرة الرئيس «الديغولي» والرضوخ لضغطه ودعوة الرئيس السنيورة بدل لحود لتمثيل لبنان. من غير المعروف بالنسبة إلى رومانيا ما اذا كانت خطوةً مماثلة كافية لدعم ملف عضويتها في الاتحاد الأوروبي، وخاصّةً أنّ شيراك يعيش آخر شهوره في الإليزي، وأن شعبيته ليست في أحسن أحوالها. لا يجدر بالرومانيين تعليق الآمال الكبيرة على الفرنسيين، فتجربة تركيا ماثلة أمامهم، فالأوروبيون لا ينفكّون يشترطون المزيد من التنازلات على أنقرة قبل قبولها في الاتحاد. صحيح أن لبنان أصبح عام 2006 «دولة اقليمية عظمى» كما قال السيد حسن نصر الله بعد النصر الميداني الذي تحقق في عدوان تموز ــ آب، لكن الصحيح أيضاً هو أنّ بيروت اكتسبت قيمة سياسية مضافة، حين أصبحت دولة مثل رومانيا مضطرّة لأن تعكّر صفو علاقاتها الديبلوماسية بعاصمتنا، لإرضاء الرئيس شيراك، على أمل أن يدعم هذا الأخير ملف عضويتها للاتحاد الأوروبي.
* كاتب لبناني