زياد حافظ*
الخطاب السياسي الذي يسود المشهد السياسي اللبناني والذي يؤثر في تكوين الوحدة الوطنية وصمودها هو «بناء الدولة الحديثة». وهذا الخطاب امتداد لقضية الهوية ودور لبنان العربي. فالمناهضون لحزب الله ولسلاحه يرددون المقولة بأنه لا يمكن بناء دولة في ظل سلاح تملكه ميليشيا خاصة وأن «المجتمع الدولي» أقرّ مبدأ نزع سلاح المقاومة و«بسط سلطة الدولة» على كل الأراضي اللبنانية. ورموز ما يسمّى «قوى 14 آذار» تردد عبر وسائل إعلامها العديدة والمتنوعة تلك المقولات من دون التمعّن في أبعاد ذلك الكلام. الطريف في هذا الموضوع أن الأميركيين الذين يسوّقون تلك المقولة يتجاهلون دستورهم الذي يسمح بل يصون حق حمل السلاح وتكوين الميليشيات كما لحظه الملحق الثاني للدستور الأميركي. فتلك الميليشيات عديدة في الولايات المتحدة وترفض وصاية الدولة الاتحادية بل تتحداها أحياناً في مواجهات مسلحة إذا اقتضى الأمر. فما هو مسموح في أميركا محظور في لبنان علماً أن المقاومة بالمفهوم الرسمي والسياسي اللبناني ليست ميليشيا!
لقد بات واضحاً أن قرار مجلس الأمن الرقم 1559 كان الإشارة الأولى لزعزعة الوضع في لبنان للضغط على سوريا وجلب الكثير من المآسي للبنانيين تنفيذاً لسياسات دولية في المنطقة كما أوضح وزير المال الأسبق الدكتور جورج قرم والدكتور داوود خير الله في عدة مقالات نشرت في لبنان وفرنسا. ذلك القرار أعاد لبنان إلى محور الصراع الجيوستراتيجي في المنطقة بعد الحرب على العراق واحتلاله والتجاذبات المدمّرة. والمؤسف أن عدداً من السياسيين اللبنانيين انخرطوا في ذلك المشروع من دون الانتباه إلى ما يمكن أن يؤول إليه من مآسٍ على الطوائف التي يمثلونها. وتنفيذ ذلك القرار قسرياً كان وراء العدوان الأخير الذي هو ليس إلاّ حلقة من سلسلة طويلة تريد من خلالها الإدارة الأميركية إخضاع المنطقة بكاملها والقضاء على أي مفهوم للمعارضة والمقاومة لسياساتها.
في هذا السياق توجد ثقافة سياسية عند النخب الحاكمة والمعارضة في لبنان، وهي ثقافة القناصل التي تتيح لممثلي القوى الخارجية التدخل في الشؤون اللبنانية. وهذه الثقافة «عريقة» إذ تعود إلى عهد القائمقامية والمتصرفية في لبنان في القرن التاسع عشر وهي وليدة التركيبة الطائفية في لبنان. لست هنا في معرض سرد الوقائع التاريخية في لبنان فهناك مؤلفات وأبحاث عديدة قيّمة لمن أراد التعمق في تلك المسألة حول التركيبة الطائفية في لبنان وجذورها التاريخية وتداعياتها السياسية والاقتصادية والثقافية على المجتمع اللبناني وما آلت إليه من مآسٍ ما زال لبنان يعيش نتائجها. تقضي تلك الثقافة بـ«شرعية» الاستقواء بقوى خارجية على الفرقاء الآخرين اللبنانيين مما يتيح لممثلي تلك القوى التدخل في الشؤون اللبنانية على حساب مصالح اللبنانيين. أخلص إلى القول إن البنية السياسية اللبنانية المبنية على النظام الطائفي والمذهبي تغيّب المواطنة عند الفرد الطائفي فيبدي ولائه لطائفته قبل الولاء للوطن والدولة والقانون. والغريب أن الذين يتكلمون على بناء الدولة الحديثة هم رموز الكينونة الطائفية ناهيك عن أنهم كانوا شركاء أساسيين خلال الحقبة السابقة التي يسمونها اليوم حقبة «الوصاية السورية ونظام الأمن القمعي المشترك» (!!) وشركاء في ما رافقه من فساد وهدر أموال الدولة، لست في حاجة إلى سرده الآن. وبالتالي الدعوة لبناء الدولة الحديثة تفقد الكثير من صدقيتها، فهي شبيهة بدعوة جورج بوش إلى الديموقراطية التي أطلعنا على نتائجها في العراق!
المقصود من الحديث عن بناء الدولة عند هؤلاء هو السلطة. والأخيرة ليست الدولة بل من نتائجها ومعالمها. فالبنية السياسية اللبنانية الراهنة تتكيف جيداً مع تقاسم السلطة بين أربابها من دون أن تهتم ببناء مؤسسات الدولة، بل العكس هو الصحيح. فالعائلات السياسية في لبنان (الحلف الثلاثي وتجمّع الوسط في أواخر الستينيات من القرن الماضي) بذلت جهداً ملحوظاً عبر التاريخ الحديث في تدمير تلك المؤسسات التي تمّ إنشاؤها في ولاية الرئيس الراحل فؤاد شهاب. والجدير بالذكر أنه تمّ القضاء على تلك المؤسسات تحت شعار مكافحة القمع الذي مارسه ضباط المكتب الثاني على حد زعمهم. ثم أتت الحرب الأهلية التي قضت على ما تبقى من مؤسسات فاعلة. أما الحقبة التالية فكانت حقبة الدولة الموازية أي سلطة الرئيس المغدور به رفيق الحريري ونفوذه وتقاسمه الحصص السياسية والمنافع الاقتصادية مع ركائز الحقبة وتفريغ ما تبقى من المؤسسات من مضمونها. والقوى المشاركة في تقاسم المغانم آنذاك والتي تشكل «الأكثرية» البرلمانية اليوم لم تكن منزعجة من التسوية (اتفاق الطائف) التي سمحت لحزب الله بحمل السلاح وعبء التحرير. واليوم نرى بعض رموز 14 آذار تطالب بتفكيك ما تبقى من النظام الأمني السوري اللبناني المشترك لبناء «الدولة الحديثة» وتحقيق الإصلاح. الخطورة في ما جاء في هذا الطرح هي إعادة تحديد هوية العدو. فـ«زلّة» اللسان لأحد رموزها بأن «إسرائيل ليست الآن العدو» تعبير عما تبيّته تلك الرموز. ويمكن القول بأن قوى 14 آذار تشكل دولة ضمن الدولة على حساب الدولة تماشياً مع إرث الحقبة السابقة. أما المقولة بأن حزب الله هو دولة ضمن دولة كما تشيع الإدارة الأميركية، فهي افتراء سافر. فحزب الله ليس دولة ضمن دولة بل قوة تدعم الدولة عندما لا تستطيع الأخيرة القيام بواجبها. بينما قوى 14 آذار تتحكم بالدولة لمصالحها الخاصة لا لخدمة الوطن. هذا ما أقرّه الرئيس إميل لحود في أكثر من مناسبة ومن هذه الزاوية نفهم شراسة الهجوم على شخصه من قبل رموز 14 آذار ومحاولات عزله من قبل الإدارتين الأميركية والفرنسية. فليس هناك من دليل على تجاوز حزب الله للدولة اللبنانية. أما الكلام على «التفرّد» بقرار الحرب فهو باطل ما دامت إسرائيل تنتهك يومياً السيادة اللبنانية من دون أن تردعها قوى حفظ الأمن الدولية «صديقة» قوى 14 آذار. وردّ حزب الله على تلك الخروق في السابق وخلال الحرب هو للدفاع عن النفس وردع إسرائيل. الجميع يذكر كيف حاولت إسرائيل بدعم من الإدارة الراهنة في الولاية الأولى لبوش التحكّم بمياه نهر الوزّاني وأن الدولة الرسمية لم تقدم على شيء. فحزب الله هو الذي حسم القضية لمصلحة لبنان من دون انتقاص من صلاحية الدولة. ويمكن القول إن لبنان لم ينعم بالسيادة ولا بالرخاء الاقتصادي المتمثل في نجاح المواسم السياحية إلا بوجود حزب الله! فالقرارات الدولية لمصلحة لبنان كقرار 425 لم تنفذ تلقائياً بل قسرياً بسبب ضربات حزب الله ــ أي بمعنى آخر أعاد حزب الله الصدقية لقرارات الشرعية الدولية. فأين صحة الادعاء بأن حزب الله دولة ضمن دولة؟
الطرف الوحيد الذي يتكلّم بجدية عن بناء الدولة وإن لم يشر بوضوح إلى خطة بنائها هو التياّر الوطني الحر بقيادة العماد ميشال عون الذي يطالب بشدة بمكافحة الفساد. ومن الطبيعي أن تعارضه أطياف عديدة من «البيوت السياسية» وخاصة أن العماد ميشال عون ليس من تلك «البيوت»! ولكن هل من الممكن بناء دولة حديثة ما دام لبنان دولة حاجز؟ والمقصود من دولة الحاجز هو الدولة الموجودة في منطقة تشهد صراعاً وتجاذباً جيوستراتيجياً بين دول وقوى إقليمية ودولية. وتتميز تلك الدولة بضعفها وعدم استقرارها وشرذمة بنيتها الاجتماعية ما يجعلها فريسة للتدخلات الخارجية. والواقع اللبناني الطائفي المذهبي يساهم في إضعاف الدولة، إذ كانت عبر التاريخ لكل طائفة «مرجعية» سياسية خارجية شجّعت تفشّي ثقافة القناصل المذكورة أعلاه. وبالتالي النظام الطائفي يفرض «التوافق» بين الطوائف لتمكين الدولة وتفعيلها فيجعل سيادة تلك الدولة مشروطة بذلك التوافق الذي يهتز كلما شعرت طائفة بأنها «مغبونة» أو «محرومة» أو «محبطة» أو «خائفة» ــ تلك الشعارات التي حكمت الخطاب السياسي اللبناني منذ الاستقلال حتى الآن!
الخروج من دولة الحاجز يتطلب تغييرات جذرية في الثقافة السياسية الطائفية التي يعيث فيها الفساد. ذلك يعني أنه لا بد من تجاوز دولة الطوائف وإحلال دولة حقيقية ذات سيادة فعلية غير مرتبطة بـ«التوافق» المعهود وثقافة القناصل. يجب إعادة الطوائف إلى دورها الحقيقي كمجموعات دينية فقط وليست كقاعدة النظام العام كما أقرّها المندوب السامي الفرنسي عام 1936 بقرار إداري.
(حلقة ثانية وأخيرة غداً)
*كاتب عربي لبناني مقيم في الولايات المتحدة