بيسان طي
قالت رايس أول من أمس بعض ما لديها، قالت كلاماً بدا كأننا سمعنا صداه يتردد في لبنان قبل أن تنطق به.
زفّت الوزيرة الأميركية لأهل الأرض الخبر السعيد ومفاده بأن انقساماً شيعياً في لبنان بدأت تباشيره تلوح في الأفق، قالت إن وزراء حركة أمل انفصلوا في تصويتٍ عن زملائهم من حزب الله، مضحك هذا التشبيه لو لم نتذكر “رسائل الغزل” بالرئيس نبيه بري التي أطلقها أقطاب 14 شباط، ومنهم قائد القوات اللبنانية سمير جعجع. إن تذكرنا هذه الرسائل لا يضحكنا تحليل رايس الذي نعتقد بأنه “عشوائي” لأن هذه العشوائية إنما تبدو وكأن لها جذوراً ضاربة في الخطاب الأكثري اللبناني.
رايس قالت “وجدنا حلاً جدياً بالنسبة إلى المطارات والمرافئ والخطوط البحرية من خلال المساعدة التقنية التي وفرها الألمان”. وقالت إن “الحدود مع سوريا هي الأصعب” وتقصد بالطبع أن تهريب الأسلحة إلى حزب الله يتم عبر هذه الحدود. كلام رايس غير الواضح وضّحه النائب وليد جنبلاط وقال بصراحة تامة بأن أسلحة تهرّب إلى حزب الله عبر هذه الحدود. واستند جعجع إلى هذا الكلام ليطلق التهديد والوعيد ويستقوي بحلفائه المستندين أصلاً إلى حلفاء لا يخفون أهدافهم. تخوّفت رايس (للمرة المئة؟) من تنامي النفوذ الإيراني ومما اعتبرته حلفاً سورياً ايرانياً يجد امتداداً له في لبنان من خلال حزب الله وسلاحه، فردد أقطاب 14 شباط على مسامعنا (للمرة الألف) أنه لا لزوم لسلاح الحزب وأن هذا السلاح ينفّذ سياسة ايرانية - سورية، كلام ذكره وليد جنبلاط بلغته الاستفزازية الخبيثة، وقاله جعجع بأسلوبه الانتحاري الأحمق، رفع إصبعه ولوّح به وراح يتوعّد.
ليست المرة الأولى التي يتناغم فيها كلام “الاستقلاليين الجدد” في لبنان مع كلام كوندوليزا رايس، بل إن كل كلامهم منذ تذكّروا شعار “الدولة” هو من نسيج كلامها. لكن جعجع الذي لا يزال يحتل موقعاً ثانوياً في التركيبة الأكثرية إذ ينبري للمواجهة مستخدماً اللغة الأعنف، إنما يذكّر بمخاوف يطلقها سياسيون لبنانيون يقولون بأنه سيكون رأس الفتنة والطريق إليها، وهو مطلق شرارة الحرب.
كلام جعجع ليس مجرد “جعجعة بلا فائدة” كما يقال في اللهجة اللبنانية الدارجة إنما هو جعجعة لها وظيفة محددة. أيعقل أن يعرف أمير الحرب اللبنانية معنى السيادة والحرية والاستقلال. أيعقل أن يكون ضد المحتل أو صاحب الوصاية وتاريخه حافل بالتعامل مع المحتل الاسرائيلي وصاحب الوصاية السوري؟ هل قلبه فعلاً على المسيحيين وهو متهم بقتل مسيحيين وبأخذ شريحة كبيرة منهم رهائن لسياسته وقراراته الاعتباطية في المناطق التي وقعت تحت سيطرته. نسي جعجع ماضيه، اعتبر أن مجرد الاعتذار يكفي لينسى اللبنانيون أفعاله، اعتذر ولم يعتزل ففي “عهدته” جرائم جديدة يأخذ اللبنانيين إليها. لأنه نصّب نفسه (وهي غير نصب كما قرأها النائب سعد الحريري) ناطقاً باسم المسيحيين، يعمل على استجداء الغرب وقواته إلينا بحجة خطر حزب الله عليهم كما يدّعي، ولأنه خبير في الحروب الأهلية فلا مانع من أن يضع سنوات خبرته الطويلة في خدمة هدفه الجديد أي القضاء على المقاومة لبناء لبنانه الجديد (أيكون فيدرالية كما أراد خلال الحرب وبعدها؟)، هذا ما يردده سياسيون ومحللون، وتأتي رايس لتؤكد توقعاتهم فتقول بعبارات صريحة ماذا تريد حكومتها من لبنان ودول المنطقة، وينفي جعجع وزملاؤه أنهم ينفّذون سياستها ولكنهم يقولون ويحاولون أن يفعلوا ما تأمر به في تصريحات علنية. إنه كلام الحق الذي يُراد منه الباطل. وقف جعجع الأحد الماضي يطلق التهديدات ويتوعّد، يحرّك إصبعه بعصبية ويركز نظره نحو “الحشود” الآتية إليه. بدا لوهلة كالحشرة تقارع عملاقاً، وهي، إن لم يستفحل بها الغباء، تدرك أنه سيدهسها بسهولة، ولكنها تريده أن يفعل ذلك علّها تجر عليه الويلات والمصائب من كل حدب وصوب.