شهدت مصر سجالات إعلامية متفرّقة في الأشهر الأخيرة ظهر في خضمّها مفهوم المركزية الأفريقية مؤشراً إلى هجمة هوياتية على مصر، بدءاً من أزمة لوحات إحدى محطات مترو القاهرة الجديدة المسروقة من تصميمات فنان روسي، والتي اكتسبت شخصياتها لوناً أكثر دكانة من المصريين القدماء بشكل عام، وأثار بشكل غير مباشر قضية الجذور الزنجية للحضارة المصرية القديمة، تلاها جدل مصاحب لإلغاء حفل للفنان الأفروأميركي كيفن هارت على خلفية تبنيه لأفكار المركزية الأفريقية، ثم الضجة التي صاحبت عرض وثائقي عن كليوباترا السابعة بتجسيد شخصية أفريقية لدورها. وبعيداً عن هذا الصخب الإعلامي لم تخرج سوى محاولات خجولة ومحدودة للغاية لمناقشة أفكار المركزية الأفريقية، وسط شعور عام بأنها ظاهرة عابرة؛ كما وقعت بعض المقاربات «الأكاديمية» والآثارية في فخ «العنصرية» ضد أنصار المركزية الأفريقية ودعاتها. ومع تواضع مستوى الأكاديميا في مصر فيما يخص المسألة الأفريقية في العقود الأخيرة، وما يلاحظ من تبعية الأولى لتوجهات صنع القرار وتجاهل دورها المفترض كأداة تنوير ووعي وإثارة للجدل، فقد خرجت أصوات عدة «غير متخصصة» لتناقش المسألة بحجج لونية وشواهد متفرقة لا يربط بينها رابط تاريخي أو سياقي دقيق، كان من آخرها مقابلة مع أستاذ التاريخ المعروف في الولايات المتحدة وبريطانيا خالد فهمي، حاول فيها تقديم مناقشة معقولة للمسألة وإن أقرّ خلالها بعدم تخصّصه بالأساس فيها.
التاريخ في خدمة الإيديولوجيا
عبّر البروفيسور فهمي، في لقاء افتراضي استغرق نحو ساعتين وبُث في 3 حزيران، عن تعاطفه التام، كموقف سياسي مبدئي، مع الأفروأميركيين في ظل معاناتهم من العنصرية والظلم التاريخي، ووضع ظاهرة المركزية الأفريقية في إطار الولع الغربي الكبير بالحضارة المصرية، وقارنه بالوعي اليهودي والإسلامي بالحضارة المصرية القديمة، في ملاحظة يمكن انطلاقاً منها تفكيك مجمل رؤيته لاعتبارات التباين السياقي الكبير في هذه الأمثلة، أشار هو نفسه إلى قدر منه مثل الهجرات العربية إلى مصر قبل الإسلام بقرون. كما طرح فهمي مسألة هامة؛ وقوع التصور المضاد للمركزية الأفريقية تحت وطأة نظرية المؤامرة، والعجز عن تقديم معرفة مضادة والاكتفاء بتحرك الدولة المؤسساتي الذي لم يحقق مواجهة ناجعة للأزمة (في تفسير سليم إلى حد كبير). ورأى أن الموقف المصري نابع من «جهل» (أو عدم معرفة كما سعى للتدارك) بالحقبة التي ظهرت فيها كليوباترا السابعة ومدى صحة هويتها المصرية. وقارن بغرابة شديدة النظرة المصرية تجاه دعاة المركزية الأفريقية بنظرة الأوروبيين والغربيين للعرب بوصفهم «ذوي بشرة بنية» في المحصّلة بغضّ النظر عن أي تقدّم علمي أو ثقافي (من منظور العرق الأبيض). وحاول إيجاز الهوية المصرية في أنها تقوم على التلاقح التاريخي الممتدّ مع مناطق الجوار بحكم موقعها الجغرافي، وأن الخيار الهوياتي نفسه يعبّر عن خلافات سياسية لا يمكن حسمها في نهاية الأمر، وأن الكلام عن الهوية خطر من زاوية الاختزال.
واختزل نقاشاً بشكل لافت في المسألة اللونية كفواصل للهوية، أو «العنصرية»، وصعود نبرة عنصرية بين المصريين تتبعها منذ أحداث كانون الأول/ديسمبر 2005 ضد عدد من اللاجئين السودانيين، وتوصل مستضيفه إلى أن الهوية في أصلها «خيال جمعي»، قبل أن يلاحظ بوعي أكبر اختزال تاريخ أفريقيا في تاريخ الاستعمار وتوجه الأفروأميركيين لدراسة تاريخهم ما قبل الاستعمار (ومن بينه الحضارة المصرية القديمة)، ولم يبد ممانعة في تشارك الأفارقة في التاريخ المصري (مع الوقوع في فخ تعميم «الأفارقة»، رغم تداركه اللاحق بتنوع أقاليم أفريقيا وحضاراتها). وأفرد فهمي ملاحظات منوّعة لمسلسل «نتفليكس» واستعمار الأسرة البطلمية لمصر لمدة ثلاثة قرون، وأنها أسرة لا تستدعي الاحتفاء مصرياً وأفريقياً باعتبارها دخيلة على مصر نفسها، وأن موضوع المركزية ليس خلافاً أكاديمياً ولكنه خلاف سياسي (في إشارة إلى استخدام أصوات مصرية بارزة كلمة «زنجي» لوصف دعاة الحركة).
ورغم بعض الإشارات الدقيقة التي تتّسق مع مركب أفكار فهمي ودراساته لتاريخ مصر في القرن التاسع عشر (ومقارنته المثيرة هنا بين حكم محمد علي والأسرة البطلمية) فإن طرحه لمسألة المركزية الأفريقية جافى تماماً المنطق التاريخي بتركيزه على عصر كليوباترا السابعة (حكمت مصر 51-30 ق.م)، وتعامله بتفهم كامل لتوجه دعاة هذا التيار (ربما في محصّلة تفيد تبنيه رؤاهم) وحصره في «الرغبة النبيلة» في الانتماء إلى الحضارة المصرية (وليس نسبتها إلى أجدادهم الأفارقة ولا سيما في غرب أفريقيا؛ ما يثير بدوره علامات استفهام حول الأسس التاريخية وغلبة الأدلجة المسبقة التي تقوم عليها هذه الأفكار). وربما التقى فهمي -عن قصد أم دونه- مع أفكار المركزية الأفريقية من جهة التعميم والقراءة الانتقائية العمدية لتعزيز رؤى مسبقة ولخدمة توجهات سياسية معروفة من «نظم الحكم».

جذور المركزية الأفريقية: في ركاب المشروع الاستعماري
خرج تناول فهمي للمركزية الأفريقية بشكل واضح عن التزام سياق تاريخي دقيق، ومن ذلك مرور ملاحظة هامة في هذا اللقاء بأن المركزية الأفريقية لم تستهدف مصر أولاً وبالأساس في بداياتها، دون توضيح هذه البدايات من الأصل (والتي تعود حسب رؤية موليفي كيتي أسانتي إلى منتصف القرن التاسع عشر، الذي تخصّص في دراسته فهمي)، وتجاهلاً لحقيقة حضور مصر بالفعل في الإرهاصات الأولى للتيار كما اتضح -على سبيل المثال- في مؤلّف متوسط الحجم لإدوارد ويلموت بلايدن The Negro in Ancient History (1869) نشرته دورية كنسية شهيرة حينذاك وأبرز فيه إسهام «الزنوج» الحضاري في مصر باعتبارهم من أبناء حام وفق الرواية التوراتية، وهي رواية قدّم مثلها مارتن ديلاني (خمسينيات القرن التاسع عشر) في خضم انخراطه في جهود حركة الهجرة السوداء من الولايات المتحدة إلى أفريقيا وفي محاولة لإقناع أقرانه الأفارقة بوجود تاريخ تليد لقارتهم، وبتشجيع لافت من القائمين على «جمعية الاستعمار الأميركية»، ليعود شيخ أنتا ديوب بعد نحو قرن من هذه الإرهاصات ويؤكد حسب دراساته فرضيات أن الملوك الفراعنة، ومن أشهرهم رمسيس الثاني، كانوا زنوجاً، ثم يضيف موليفي أسانتي منذ سبعينيات القرن الماضي تأكيداته أن تحليل المركزية الأفريقية، على طرف النقيض من المركزية الأوروبية، يعيد ترسيخ محورية الحضارة «الكيميتية» (المصرية) القديمة والبناء الثقافي لوادي النيل كنقاط مرجعية لوجهة نظر أفريقية على نحو يشبه كثيراً ما تمثّله اليونان وروما كنقاط مرجعية للعالم الأوروبي.
بينما ترجع دراسات أخرى أفكار المركزية الأفريقية إلى مطلع القرن التاسع عشر نفسه، وأنها ظهرت بشكل واضح وصريح في افتتاحية Freedom’s Journal (1827) التي توصف بأنها أول جريدة للسود في الولايات المتحدة ووضعت من البداية فكرة الارتباط بين الأفارقة والمصريين القدماء دون أدنى غموض.
وتكشف هذه الإشارات عن سطحية الادعاء بأن المركزية الأفريقية تستجدي الانتماء إلى الحضارة المصرية القديمة؛ بل إنها تتجاوز ذلك بكثير إلى مقولات أن هذه الحضارة زنجية تماماً (دوّن بلايدن خلال زيارته الشهيرة لمصر على مدخل الهرم الأكبر كلمة ليبيريا مؤرّخة بيوم زيارته 11 تموز 1866) قبل وفود هجرات سامية كثيفة إلى مصر في العصور اللاحقة. مع ملاحظة إضافية أخرى وهي أن أفكار بلايدن وديلاني وغيرهما من رواد الحركة -وفق أسانتي- كانت مستقاة ومطوّرة من أفكار سابقة لرحّالة وعلماء آثار أوروبيين (وفرنسيين على وجه الخصوص) عن مصر وتاريخها؛ ما يحيل إلى مفارقة وجود جذور أوروبية أساسية لأفكار المركزية الأفريقية، لكن لا يتسع المقام هنا لنقدها.

المركزية الأفريقية : ورقة «الحاجز اللوني»
تبنّى فهمي رؤية «متسامحة» للغاية إزاء المسألة اللونية ودافع عن دعاة المركزية الأفريقية دفاعاً قائماً على فكرة المقارنة، وأن «العربي»، على سبيل المثال، سيواجه نفس النظرة العنصرية في المجتمع الأبيض باعتباره شخصاً بني اللون، ومن ثم دعا لضرورة الاعتبار من هذا المثل. لكن النقاش بشأن مكوّنات تيار المركزية الأفريقية فكرياً لا يستقيم بمثل هذه الرؤية «الرومانسية»، كما أنه لا يكتسب بذلك وجاهة تاريخية، ذلك أن نقطة انطلاق التيار تقوم على أساس ما سمّاه ديلاني ثم بلايدن ووليام دوبويس في نهاية القرن التاسع عشر بالحاجز اللوني colour line وظل جزءاً لا يتجزأ، بل وأساساً رئيساً، لهوية المركزية الأفريقية ووعيها (Adeleke, Tunde, The Case against Afrocentrism, 2009)، وأن التيار طوّر فكرة هذا الحاجز كمحدد للتفرقة بين الأعراق إلى محدد رئيس لتفكيك مقولات المركزية الأوروبية التي تنكر أي تاريخ أو ثقافة أفريقية/ سوداء وإنتاج معرفة بديلة على أساس اللون.
رغم بعض الإشارات الدقيقة التي تتّسق مع مركب أفكار خالد فهمي ودراساته لتاريخ مصر في القرن التاسع عشر فإنّ طرحه لمسألة المركزية الأفريقية جافى تماماً المنطق التاريخي بتركيزه على عصر كليوباترا السابعة


صحيح أن بعض التعليقات العنصرية التي خرجت في خضمّ الحراك الإعلامي، الذي يتجدد من وقت لآخر ويتسم بالعشوائية الواضحة، لوصف دعاة المركزية بـ«الزنوج»، تبدو عدوانية بدلالتها العنصرية راهناً، لكن يجب أن تظل هذه التعليقات في حدودها، دون أن توفر بالضرورة سبباً -قسرياً- لتبرير مواقف المركزية الأفريقية، التي تدور بالفعل، منذ بدايتها، حول فكرة اللون/العرق، أو الدعوة للتعاطف الكامل معها تفادياً لاضطهادها عنصرياً.
بأي حال، فإنّ الرؤية السالفة تتجاهل وجود تفرقة داخل الحركة ومركزها في الولايات المتحدة بين نظرة «صهيونية» للعودة إلى أفريقيا وهويتها، وتيار آخر رأى منذ القرن التاسع عشر ضرورة الانقطاع عن أفريقيا وإقامة الهوية الأميركية السوداء على أسس تجارب الرق والحياة في الولايات المتحدة، ما يكشف من جانب عن وجوب معاملة تيار المركزية الأفريقية بجدية أكبر وعدم حصر المسألة اللونية في ملاحظات انطباعية مدفوعة بمواقف سياسية مسبقة. عوضاً عن ملاحظة هامة، فإن أفكار التيار اللونية/العرقية بخصوص التاريخ والثقافة والهوية ومستقبل الجماعة السوداء قد أثارت انتقادات واسعة من ساسة وأكاديميين ونشطاء وفنانين وغيرهم من الشخصيات السوداء الذين رفضوا بجلاء التبسيط المخل للمركزية الأفريقية وقيامها على أسس لونية، وهي انتقادات يمكن أن تفكك رؤية فهمي بشكل تام.

المركزية الأفريقية والمثال الصهيوني: خطر حقيقي؟
يمثّل «التعاطف» مع المركزية الأفريقية، دون مبالغة، تشابهاً كبيراً مع مبدأ «العطف على أماني اليهود» تعويضاً «لما عانوه في الشتات» (وتجاهلاً لما سيترتب على هذا التعاطف من سلب حقوق من سيسدد هذا التعويض: مصر وفلسطين في المقارنة هنا)؛ فقد قامت أفكار الحركة منذ بدايتها على إقناع الأفروأميركيين في الولايات المتحدة بالعودة إلى أفريقيا من بوابتي ليبيريا وسيراليون (كوحدتين سياسيتين تستقطبان الأفارقة المحررين أو الفارين من عمليات الاسترقاق) وإطلاق حركة استعمار واستيطان كبيرة تمتد من هاتين الدولتين إلى بقية دول غرب أفريقيا، وعبر تكوين نخبة سوداء مسلّحة بالمعرفة والتجربة الغربية ومدعومة في المراحل التالية مع نهاية القرن التاسع عشر بديناميات الاستعمار الأوروبي على الأرض، ومساهمة في المحصّلة في تيسير عملية الاستعمار. وقد عمل إدوارد ويلموت بلايدن، أبرز المفكرين الأفارقة في القرن التاسع عشر (تـ 1912)، خلال عمله السياسي في ليبيريا (تقلد وزارة الخارجية لمدة عام واحد 1866) على تحقيق فكرة إقامة «إمبراطورية زنجية» تضم السكان المحليين «والمحمديين» (بإدارة مسيحية) في إقليم غرب أفريقيا (وإن تحققت الفكرة في قيام «غرب أفريقيا الفرنسية»)، وانخرط في سبيل ذلك في عدد من ديناميات الهيمنة الغربية القائمة حينذاك لتمدين أفريقيا مثل جمعية الاستعمار الأميركية والهيئات التبشيرية (زار مصر وفلسطين وسوريا في عام 1866، والتحق بالكلية السورية الإنجيلية في بيروت لفترة وجيزة لتعميق ما تعلّمه من اللغة العربية وقدّم كتاباً استشراقياً بامتياز وصف فيه رحلته تلك: From West Africa to Palestine- 1873) وتبلورت رؤاه «الصهيونية» في كتيب بارز بعنوان The Jewish Qestion-1898، حلّله بدقة بالغة مايكل ج. إيشيرو (Edward W. Blyden, «The Jewish Question» and the Diaspora Theory and Practice, 2010) من جهة ربط رؤية بلايدن للمسألة اليهودية بتيار عودة الأفارقة من الولايات المتحدة إلى «القارة الأم» لإدارة شؤونها و«استعمارها»، وفي تجاهل كامل لسكانها وموروثاتهم المتنوعة، والجنوح إلى تقديم رواية تاريخية للقارة مختلفة عن «السائد» لكنها ظلت مرهونة بمنطق وأدوات «المركزية الأوروبية» (الدينية) للمفارقة البالغة هنا.
وواصل أنصار المركزية الأفريقية هذا التوجه الاستعماري، الصهيوني الطابع، كما يتضح في أفكار وتجارب على الأرض ربما تبلورت أكثر في أنشطة ماركوس غارفي (1887-1940) عبر تكوينه شركة Black Star Line التي تكفّلت بنقل أعداد كبيرة من الأفارقة من الولايات المتحدة إلى «أفريقيا»، وقد تجسّد في تجربته الهامة المثال اليهودي بشكل كامل، ويمكن كشف عمقها بوصفه بـ«موسى الأسود». كما انخرط عراب المركزية الأفريقية موليفي أسانتي في مقاربة «الصراع العربي الإسرائيلي» والسياسات الأميركية الداخلية والخارجية (ولا سيما في ما يتعلق بأفريقيا) بنفس روح الآباء المؤسّسين للحركة.
لكن الملاحظة الهامة هنا، والتي أشار إليها معاصرون للحركة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن الماضي، هي جنوح روادها إلى توظيف أفكار «الجذور الزنجية للحضارة المصرية» لتشجيع الأفارقة على العودة للقارة، وفي ظل وجود تيار رافض لهذه الأفكار رأى التمسك فحسب بالهوية الأميركية السوداء كمقابل لأفكار المركزية الأفريقية، وهو جدل غائب تماماً عن النقاشات الحالية مصرياً وعربياً.

خلاصة: الميديا والهويات المعولمة والأزمة المعرفية
سهّلت حالة الركود العلمي الكبيرة في «الدراسات الأفريقية» التي تعاني منها منذ عقود دولة بحجم مصر، واختزال أغلب المقاربات البحثية في تنميطات جاهزة وسهلة وسطحية، عوضاً عن غياب واضح لروح المبادرة، من تراجع الاستجابات المطلوبة لمواجهة وتفنيد موجات متلاحقة من أفكار المركزية الأفريقية، وما تمثله في واقع الأمر من تهديدات حقيقية لثقافة مصر وهويتها ومكانتها التاريخية. وتكرّر هذا المشهد بشكل ما بعد بث هيئة الإذاعة البريطانية سلسلة حلقات من إعداد ورواية العالم الأفريقي البارز علي مزروعي (The Africans: A Triple Heritage-1986)، قبل أن يكون أكثر وضوحاً عقب بث الهيئة نفسها عملاً وثائقياً لهنري لويس غيتس بعنوان: Wonders of the African World (1999)، وأثارت سجالاً قاده مزروعي نفسه حيث وصف أفكار غيتس إجمالاً بـ«الاستشراق الأسود»، ثم مسلسل مصغر آخر لغيتس حول الحضارات الأفريقية الكبيرة (2017) استهلّه في أولى حلقاته الست بعنوان «الأصول» Origins واختتمه في آخرها بـ«صدام الحضارات» كمقابل لفكرة مزروعي الشهيرة عن تراث أفريقيا الثلاثي (ولمسه بوضوح «مسألة الأصول الزنجية للحضارة المصرية»). لكن اللافت في هذه الأمثلة وما تلاها غياب شبه تام للمقاربات العربية والمصرية (ربما باستثناء مجهود فردي دؤوب للبروفيسور حمدي عبد الرحمن وعدد ضئيل للغاية من الباحثين)، واستجابات لحظية لا يمكن التأسيس عليها لتقديم مشروع علمي متماسك لمحاورة هذه الأفكار أو مواجهتها.
في المحصّلة، بدت ملاحظات فهمي هامة من جهة إثارة الجدل، ومن جهة تماسك بنائها وفق منطقه ومشروعه العلمي الذي يحظى بتقدير واسع في الغرب في المقام الأول ويغاير –إيجابياً في واقع الأمر- السائد في مصر بشكل واضح. لكن هذه الملاحظات «الإعلامية» لم تسبر أغوار المسألة على نحو كان مفترضاً ولا سيما أن الأخيرة وليدة القرن التاسع عشر (وربما القرن 18 حسب سرديات أخرى). كما وظّف فهمي ملاحظاته لصالح انتقاد النظام المصري على حساب الدقة الأكاديمية، وإن عبرت على نحو غير مباشر عن حالة الركود في الأكاديميا المصرية وتصدر شخصيات «إعلامية» نقاشات هذا الجدل والإسهام في دفعه نحو استقطابات مزيدة، في ظل تآكل معرفي واضح وعدم رغبة بالأساس في طرح مسائل جدلية بعد سنوات من تغيير الدور إلى تبريري وتكييفي وتابع، وليس ناقداً أو ثورياً أو مستشرفاً لآفاق جديدة حسب الأعراف العلمية الراسخة.

* باحث مصري متخصّص
في الشؤون الأفريقية