بالعودة إلى تعبير «تقويض سلطة الدولة»، فقد جرّدنا خلفيّات مطلقيه، وهم من اليمين الانعزاليّ وأيتام «14 آذار» وليبراليّين و«مؤنجَزين» وحلفاء الولايات المتّحدة، ما بدوره يجرّد نيّات هؤلاء. فلو كان همّهم حقّاً أن يكون للدولة «سلطة»، لماذا أمعنوا ويمعنون إذاً في إضعافها وتفكيكها وصولاً إلى الدعوة إلى تقسيمها وفرض «الوصاية الدوليّة»؟ ألا تقيّد الخصخصة والسياسات النيوليبراليّة سلطة الدولة؟ ماذا عن «سوليدير» والمصارف والهندسات المالية والتعدّيات على الشاطئ و«ليبان بوست» و«نادي الغولف» والوكالات الحصريّة ومتعهّدي الأشغال وكارتيلات النفط والخبز والغذاء والدواء والترابة والكهرباء وغيرها؟ ألا يقوّض هؤلاء سلطة الدولة، وغالبيّتهم الساحقة من المتخوّفين على «تقويض سلطة الدولة»؟ ماذا عن تدمير النقابات العمّاليّة والهيئات الطالبيّة وخرقها من الأحزاب والإمساك برقابها؟ ماذا عن التهميش والتدمير الممنهج للقطاع العام وخدماته ومؤسّساته من مستشفيات جامعيّة والمدارس الرسميّة و«الجامعة اللبنانية» وحتّى «تلفزيون لبنان» لمصلحة المستشفيات والجامعات والمدارس والقنوات الخاصّة المملوكة من سياسيّين ومتموّلين ونافذين؟ ماذا عن بعض كبار رجال الدين الذين يخالفون القوانين من دون حسيب أو رقيب، ويستغلّون عدم وجود قانون موحّد للأحوال الشخصيّة؟ ماذا عن الهدر والعجز في الموازنة التي تخصّص أموال الشعب خدمةً للدين وتهبها لزوجات سياسيّين لكَي يُقمن «مهرجانات» باذخة؟ ماذا عن «المؤسّسات غير الحكوميّة» التي تنتزع حقّ تقديم خدمات هي من صلب مهامّ الدولة، وتنصّب نفسها بديلاً من الدولة بالقوّة (المثال الأبرز كان تعاملها مع المساعدات بعد انفجار مرفأ بيروت)؟ ألا يقوّض كلّ ذلك سلطة الدولة؟
لو كان همّهم حقّاً أن يكون للدولة «سلطة»، لماذا أمعنوا ويمعنون إذاً في إضعافها وتفكيكها وصولاً إلى الدعوة إلى تقسيمها وفرض «الوصاية الدوليّة»؟
ثمّ ماذا عن وصاية «صندوق النقد» ودور المؤسّسات الدوليّة وبعض السفراء الذين يتصرّفون كوزراء لا كديبلوماسيّين، وماذا عن الولايات المتّحدة التي تحتلّ قاعدة جوّيّة في حامات، وتبني قاعدة استخبارات إقليميّة في عوكر، وتراقب كلّ رقم يزيد أو ينقص في مصرف لبنان والمصارف، وتضع يدها على الجيش فتمنحه الفتات وتمنع أيّ دولة غيرها، ولو كانت حليفتها فرنسا، من مساعدته، في وقت تغدق فيه على الصهاينة المليارات؟ النقطة الأخيرة بالتحديد هي سبب وجود المقاومة. فعندما اجتاحت «إسرائيل» لبنان مرّات متكرّرة قبل 1982، كانت سلطة الدولة مقيّدة أساساً، فلم يتحمّل أحد فيها مسؤوليّة الدفاع عن الشعب إلى أن أتت المقاومة لتملأ الفراغ. وهي لم تأتِ من عدم، بل من حالة شعبيّة لا تزال مستمرّة حتّى اليوم تسبغ عليها الشرعيّة وتمنحها الثقة في تولّيها العمل المقاوم. المشكلة، كما كتبنا سابقاً، هي الهوَس بالنتائج، فبدلاً من علاج الأسباب، غالباً ما يكون الاتّجاه نحو معالجة النتيجة؛ بدلاً من معالجة معضلة عدم قدرة الدولة على الدفاع عن مواطنيها، يراد معالجة وجود سلاح بديل مقاوم.
المفارقة أنّ الـ«NGOs» تستخدم، زوراً، حجّة «غياب الدولة» لتبرير احتكارها لبعض خدمات الدولة، فيما تنزع عن المقاومة هذه الحجّة، وتلقي المسؤوليّة على الأخيرة لأنّها «تجرّأت» على ردع «إسرائيل»! ثمّ يأتيك الليبراليّون و«المؤنجَزون» ليكلّموك بكلّ وقاحة عن «تقويض سلطة الدولة»، متماهين بذلك مع خطاب اليمين الذي يدّعون معارضته، ومع خطاب كيان العدوّ (الذي يدعون إلى «الحياد» حياله). لا بل يتجرّأون على الدعوة إلى الخصخصة وتخفيض إنفاق الدولة على مواطنيها وإلغاء الضرائب على الشركات الخاصّة وغيرها من ويلات نيوليبراليّة وتاتشريّة وكينزيّة.
في كلّ الأحوال، ما سبق يُظهر خلفيّات كلّ الذين يعتمدون الخطاب المذكور ونيّاتهم، ما يعني بالتالي نفاقهم واستخدامهم الديماغوجية والسفسطة لشدّ عصب قواعدهم ليس أكثر. لن يتوانوا عن اتّهام المقاومة بتقويض سلطة الدولة، ولن يغيّروا في معتقداتهم المعارِضة لمبدأ الدولة من أساسه، وما التوافق على جهاد أزعور مرشّحاً رئاسيّاً أخيراً إلّا أحدث حلقات مسلسل أميركيّ طويل في تقويض سلطة الدولة.
* صحافي