نسارع إلى القول: نحن مع كل/وأي اتفاق بين القوى الإقليمية الرئيسة في منطقتنا، عدا بالطبع التطبيع مع إسرائيل الذي لن يؤدي، كما يروّج الآن بعض إخوتنا في الخليج، إلى السلام والعدل والتنمية وإلى نظام إقليمي جديد مستقر، بل حتماً إلى المزيد من اللااستقرار والحروب الطاحنة الجديدة. لماذا الترحيب بكل/ وأي اتفاق بين أطراف الحضارة المشرقية المتوسطية الإسلامية-المسيحية، خاصة منها المثلث الذهبي التاريخي، العرب والإيرانيون والأتراك، إضافة إلى الكرد وباقي مكوّنات الإقليم؟ بسبب ما أسفرت عنه حروب وصراعات العقود الأخيرة من دمار هائل، بيئي- إيكولوجي، واقتصادي- اجتماعي، وسياسي- ثقافي، وربما الأهم: التشويه الكامل للهوية الحضارية لمنطقتنا التي أنتجت كل الأديان التوحيدية (من أخناتون إلى النبي محمد) وجل الحضارات البشرية، والتي بلورت للمرة الأولى في التاريخ البشري مفهوم الضمير والقيم العليا والأخلاق.
قدّر الخبراء الدوليون كلفة هذه الصراعات بما يراوح بين 20 و30 تريليون دولار، أي ما كان يكفي لتحويل إقليمنا إلى واحدة من أهم القوى الاقتصادية والسياسية في العالم، هذا علاوة على عشرات ملايين القتلى والجرحى والمشردين (والعد ما زال مستمراً)، والدمار البيئي الشامل الذي نزل بالمنطقة والذي تقاطع مع كارثة تغيّر المناخ العالمي (الذي كان أحد الأسباب الرئيسة لانتفاضات عام 2011).

لماذا جرى ما جرى؟
«هذه منطقة يُمزّقها الصراع المذهبي بين تقاليد واجتهادات متنافسة في الدين نفسه. لكن الصراع يجري أيضاً بين المعتدلين والمتطرفين، وتُغذيه القوى الإقليمية المجاورة (والقوى الدولية) التي تسعى إلى تعزيز مصالحها الخاصة وزيادة نفوذها. النزاعات تحدث بين دول المنطقة وفي كل دولة، بحيث أصبح من الصعب التمييز بين الحروب الأهلية وبين الحروب بالواسطة، وبين الصراعات الدولية والإقليمية. ولذا فهو أيضاً صراع ديني يختلط بشدة بالتنافسات الجيو- سياسية. إنّ الخسائر في الأرواح هائلة وتكاد تبيد نصف سكان القارة، وكذلك الأضرار مخيفة على الصعد البيئية والاقتصادية والاجتماعية. الفظائع الإنسانية مروّعة، والملايين باتوا بلا مأوى» - هذا كان وصفاً ليس لمنطقة المشرق المتوسطي في القرن الحادي والعشرين، بل لأوروبا في القرن السابع عشر، في ما اتُّفق على تسميته «حرب الثلاثين عاماً». لكن المحللين الغربيين يُجمعون الآن على أن ماضي أوروبا الكئيب هذا في القرن السابع عشر، بات حاضر المشرق المتوسطي الذي يُعاين الآن حرب ثلاثين سنة (أو ربما مائة سنة) مدمّرة مُماثلة.
الحرب الأوروبية، كما هو معروف، بدأت عام 1618 حين حاول فيرديناند الثاني ملك بوهيميا، الذي أَصبح لاحقاً رأس الإمبرطورية الرومانية المقدسة، فرض العقيدة الكاثوليكية المُطلقة على مناطق حكمه، فتمرّد عليه النبلاء البروتستانت في كل من بوهيميا والنمسا. كان الإصلاح الديني قد بدأ في ألمانيا عام 1517 مع مارتن لوثر، فعمد العديد من أمراء الإمبراطورية (التي كانت لها هيكلية شبه إقطاعية) إلى دعم القضية البروتستانتية. وبعدها سرعان ما انتشرت الحرب في كل القارة، من بحر البلطيق إلى البحر المتوسط، لتشمل كل القوى الكبرى في أوروبا تقريباً.
حرب الثلاثين عاماً الأوروبية انتهت بسلسلة من المعاهدات التي وُقّعت في عام 1648 وعُرفت بسلام وستفاليا، الذي أقام نظاماً سياسياً- دولياً جديداً في أوروبا في شكل دول ذات سيادة متعايشة بعضها مع بعض على أساس السيادة، واحترام وحدة الأراضي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. هذا السلام لم يكرّس حرية الانتماء الديني ولا حرية المعتقد، بل منع فقط كل دولة أو فئة من فرض دينها على الآخرين، وأسَّس لبروز سيادة الدولة- الأمة.
صحيح أن سلام وستفاليا خُرِقَ مراراً، لكن جرى الاحتفاظ بمبادئه التي قام على أساسها النظام العالمي حتى القرن الحادي والعشرين.
مقارنة حرب الثلاثين عاماً الأوروبية مع حروب المشرق الراهنة، جاءت في تموز 2014 من ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية في مقال بعنوان «حرب الثلاثين عاماً»، شدّد فيه على أن الشرق الأوسط سيشهد مصيراً مماثلاً لمصير أوروبا، «ما لم يبرز إلى الوجود نظام إقليمي جديد». قال: «من الآن وحتى مستقبل منظور، وإلى أن يبرز نظام إقليمي محلي جديد أو يحل الإنهاك بين الأطراف المتصارعة، فإن الشرق الأوسط لن يكون مشكلة تحتاج إلى حل، بل وضعاً يجب إدارته».
هنري كيسنجر أيضاً طرح المقاربة نفسها. ففي خطاب له عام 2013 أمام كلية فورد قال: «ما يحدث الآن في الشرق الأوسط، شبيه بما حدث في حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، حين واصلت مختلف الفصائل المسيحية الفتك بعضها ببعض، إلى أن قررت أخيراً أن عليها أن تتعايش، ولكن في وحدات منفصلة».
أوجه الشبه بين حربي أوروبا والمشرق تبدو عديدة بالفعل، فهل يكون المخرج الوستفالي هناك هو المخرج هنا أيضاً؟

خطوة إلى الأمام
سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل، لكن فلنعد الآن إلى الاتفاق السعودي- الإيراني المرحّب به لنتساءل: هل هو بداية الخروج من نفق الخروج من ظلام وظلامات حروب الثلاثين سنة، أم أنه مجرد فجر خادع آخر؟
لولا دخول الصين على الخط، لسارعنا إلى الرد بأنه ربما هو فجر خادع بالفعل. فهذه لم تكن المرة الأولى التي يبرز فيها شكل من الوفاق بين المملكة الوهابية وبين جمهورية ولاية الفقيه، والذي كان يخلي السبيل لاحقاً إلى انفجارات أكثر عنفاً. ففي حقبة التسعينيات، حاول الملكان فهد ثم عبدالله ممارسة سياسة خارجية مستقلة، فعمدا إلى تحسين العلاقات مع إيران، خاصة بعد غزو العراق للكويت، وحلّا العديد من المشاكل الحدودية مع اليمن، وقام الرئيس الإيراني محمد خاتمي بزيارة السعودية عام 1998 ووقّع هناك على اتفاقات تعاون شاملة في مجالات الاقتصاد والثقافة والرياضة وأمن الخليج وتطوير مقاربة جيو-استراتيجية مشتركة لقضايا المنطقة.
وفي نيسان 2001، وقّعت السعودية وإيران اتفاقية أمن مشتركة، وفي عام 2007، حضر الرئيس أحمدي نجاد (الذي كان يوصف في الرياض وواشنطن بـ«الأصولي المتطرف») الاجتماع السنوي لمجلس التعاون الخليجي، وهي الهيئة التي أُنشئت أساساً عام 1980 لاحتواء إيران، وأبرم المزيد من الاتفاقات بين البلدين.
لكن، وكما ذكرنا، كانت تلي أجواء الوفاق هذه صراعات عاتية كان يشعلها فتيل إيديولوجي مرة وحرائق استراتيجية مرات. ولا عجب. فالدولتان تتصارعان بعنف إيديولوجياً على زعامة العالم الإسلامي، وتعتبران منطقة الخليج (وأيضاً المنطقة العربية) حديقة خلفية تاريخية وجيوسياسية لكل منهما، وتنتميان إلى معسكرين دوليين متجابهين (والآن متناحرين في أوروبا الشرقية).
الأمر الوحيد الذي يجعل «الوفاق الجديد» بين الدولتين جدياً هو، كما أسلفنا، احتضان الصين له، بما تملكه من نفوذ كبير على إيران التي تعتمد عليها كلياً تقريباً للنفاذ من شبكة العقوبات الاقتصادية الأميركية، ومن علاقات مستقرة ومُربحة مع السعودية. لا بل أكثر: اعتبر العديد من المحللين الغربيين أن هذا الاتفاق هو بمثابة أول انتصار دبلوماسي دولي كبير للصين كقوة عالمية سياسياً وليس فقط اقتصادياً، ما سيجعلها حريصة على مواصلة رعاية هذا الوفاق وتغذيته.
كان لافتاً للغاية أن يتضمن «بيان بيجينغ» تبنّياً كاملاً لمبادئ وستفاليا: من احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية وتطبيق الاتفاقية الأمنية لعام 2001 بينهما واتفاقية التعاون لعام 1998. هذا في حين كانت الصين، من جانبها، تضفي بوضوح الطابع السياسي والاستراتيجي على الاتفاق حين أعلنت وزارة الخارجية الصينية أنه «يؤكد أن شعوب العالم ترفض تكتيكات الهيمنة الاستعمارية وإثارة التناقضات ونثر بذور الانقسامات بين الدول. ونحن نحث الأسرة الدولية على مساعدة بلدان الشرق الأوسط على تسوية خلافاتها».
بيان مجلجل حقاً، لا بل هو تاريخي. لكن، هل ستبتلع الولايات المتحدة ببساطة ما أسماه المحلل الاستراتيجي الأميركي روبرت ساتلوف «اليوم الأسود لأميركا»؟ لا بل أكثر: هل يمتلك الاتفاق حقاً حظوظ نجاح؟
أجل. لكنها حظوظ محفوفة بالكثير من المخاطر. فالسعودية تحتاج إليه بشدة ليس فقط لإنهاء حربها المهلكة في اليمن ووقف الهجمات العسكرية الكارثية على أراضيها ومنشآتها النفطية، بل أيضاً لإنجاح رؤية 2030 للتحوّل إلى قوة عالمية اقتصادية- تكنولوجية (مقتدية نموذج دبي) التي هي برأيها ضمانتها الوحيدة لتحقيق الاستقرار السياسي- الاجتماعي الداخلي. وإيران بدورها تحتاج بشدة إلى نوافذ اقتصادية جديدة للخروج من إسار العقوبات الأميركية.
لكن هذا شيء، وتحويل بيان المبادئ العامة في بيجينغ إلى برنامج عمل تنفيذي شيء آخر. وربما يكون اليمن هو الساحة الأولى والرئيس لاختبار قدرة هذا الاتفاق للبقاء على قيد الحياة، وكذلك قدرة السعودية على تجاوز عقبة العقوبات الأميركية.
هنا ستدخل الولايات المتحدة وإسرائيل، الرافضتان لهذا التطور على الخط. فالأولى لن تقبل أن تقتحم الصين منطقة نفطية- استراتيجية تشكّل قلب قارة أوراسيا التي يملك من يسيطر عليها القدرة للسيطرة على كل العالم (وفق تعبير ماكيندر)، فيما هي تعمل جاهدة لمحاصرة بيجينغ في شرق آسيا ومنطقة المحيطين الهادئ والهندي. والثانية ستعتبر الاتفاق تهديداً جدّياً لكل مشروعها الخاص بالتطبيع وتشكيل «حلف الأطلسي الخليجي- الإسرائيلي» ضد إيران. وكلا الطرفين سيعملان قصارى جهدهما لزرع الألغام في طريق هذا الاتفاق، بما في ذلك خلق بؤر تفجيرات أمنية وربما عسكرية جديدة أو حتى القيام باغتيالات والمزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة.
بكلمات أوضح: نجاح تطبيق الاتفاق الإيراني- السعودي لن يعتمد فقط على حسن النوايا بين الطرفين (إذا توافرت) ولا على الثقل الصيني في تسهيل ولادة هذا النجاح، بل سيكون على المنطقة أيضاً أن تنتظر ردود الفعل الأميركية على أنواعها. وهنا يجب أن نضع في الاعتبار أنه سيكون من الصعب للغاية على إدارة بايدن الديموقراطية تبديد المخاوف السعودية العميقة منها، سواء بعد انحياز الديموقراطيين الأميركيين إلى إسلام الإخوان على حساب تحالف أميركا التاريخي مع الإسلام الوهابي منذ عام 1945 (اتفاق الرئيس روزفلت والملك عبد العزيز على متن الباخرة كوينز في قناة السويس)، وتوجهها لإبرام التسويات مع إيران (بدل «قطع رأس الأفعى» كما طالب الملك عبدالله في إحدى المراحل)، وتفضيلها (في عهد أوباما) الإسلام «العثماني الجديد» التركي. وهذا التفضيل ربما يتكرر ثانية الآن بعد فوز إردوغان، كما تخشى الرياض.
لكل هذه الأسباب مجتمعة تبدو حظوظ نجاح الاتفاق محفوفة بالمخاطر، خاصة أنها ترتبط بشكل مباشر في الصراع الأهم في القرن الحادي والعشرين: تحديد طبيعة النظام الدولي الجديد بعد بدء غروب شمس السيطرة الغربية في العالم للمرة الأولى منذ 500 عام.

سؤال تاريخي
الآن، وبعد قول كل شيء عن احتمالات الاتفاق السعودي- الإيراني ومآلاته، نأتي إلى سؤال «تاريخي»، إذا جاز التعبير: كيف يمكن حقاً لهذه المنطقة الحضارية الأهم في العالم أن تتخلّص من التدخلات الغربية التي دمّرتها وعاثت فيها فساداً طيلة نيف و200 سنة، وأن تعيد بناء وحدتها الجيو-ثقافية والجيو-استراتيجية؟
الاتفاقات الثنائية، كما ألمحنا، مطلوبة ومرغوب بها، لكنها لن تكون كافية. لا بل هي غير كافية على الإطلاق. فالاستراتيجية الأوروبية، ثم الأميركية، استندت دوماً إلى قاعدة ثابتة تقول إنه إذا برزت قوة إقليمية في المشرق المتوسطي تطالب بالاستقلال وإعادة توحيد المنطقة، يجب تحريك القوتين الإقليميتين في المثلث الذهبي التاريخي ضدها: إيران وتركيا ضد مصر الناصرية وقبلها مصر محمد علي؛ تركيا ومصر ضد إيران الخمينية، وتركيا وربما مصر ضد التقارب السعودي- الإيراني، كما نخشى الآن، على رغم كل الأجواء الإقليمية الإيجابية السائدة.
الحل الجذري في المنطقة هو الوفاق الجماعي بين أطراف المثلث الذهبي التاريخي، مضافاً إليهم الكرد، واتفاقهم على أسس نظام إقليمي جديد يستند في آن إلى الهوية الحضارية- الثقافية للمنطقة وإلى المصالح الاقتصادية والوطنية لكل منهم وفقاً لروح وستفاليا كخطوة أولى، والتخلي عن الأحلام الإمبراطورية الفردية**.
قد يبدو للبعض أن هذا المخرج مجرد حلم ليلة صيف، في ضوء التاريخ الحديث العاصف بين أطراف المثلث، خاصة مع بروز القوميات الشوفينية في كل منها غداة الحرب العالمية الأولى. لكن التغيّرات الهائلة التي تهز أركان النظام الدولي الغربي من جذوره، وصعود الحضارات الآسيوية الكبرى مجدداً إلى قمرة القيادة العالمية، وبروز النزعة الإقليمية كقاعدة لازبة للنظام العالمي بدل الدولة- الأمة، تشرع كل الأبواب والنوافذ أمام انضمام الحضارة المشرقية المتوسطية إلى هذا التحوّل التاريخي الضخم.
قفل مثل هذه العودة متوافر الآن لدى قادة المثلث الذهبي، لكنه يحتاج إلى مفتاح إرادة سياسية تتشوّق لها بشدة أمم المشرق وكل مكوّناته الوطنية والإثنية والدينية.
■ ■ ■

الاتفاق السعودي-الإيراني: أهلاً. لكن روح الحضارة المشرقية المتوسطية تطالب بأكثر من ذلك بكثير. تطالب بالتخلّص من الأنانيات المدمّرة والقصيرة النظر والنزعات الإمبرطورية والقومية المتطرفة. تطالب بالتكامل الحضاري- الثقافي- الاقتصادي - الإيكولوجي المشترك بدل الانتحار المشترك والدمار الشامل. هذه الروح تصرخ الآن من قلب مآسيها في وجه نخب المنطقة لتقول لهم جملة يتيمة:
هنا وردة الحلول، أيها الإخوة، فلترقصوا هنا.

* مدير «منتدى التكامل الإقليمي»
** أصدر «منتدى التكامل الإقليمي» كتابين يدعوان إلى وقف الحروب المدمرة وإعادة بناء الوحدة الجيوثقافية والجيوسياسية في المنطقة هما: «تكامل أم انتحار»، و«من نحن: القيم المشرقية المتوسطية في مواجهة العولمة التكنو-رأسمالية».