في إحدى جلسات النقاش في لقاء أكاديمي، أدلت أستاذة، لا أشكّ بمقدراتها العلميّة، بملاحظة تقول بأنّ العنصريّة هي من طبيعة الإنسان وليست وليدة التربية، وأسندت ملاحظتها إلى فكرة أساس بأنّ الإنسان، أينما كان، يخشى المُختلِف ويرتاح للشبيه. لا شكّ أنّ الملاحظة مهمّة وصحيحة، ولكنّ الخطأ يكمن في الاستنتاج بأنّ ذلك يعني أنّ البشر عنصريّون بالفطرة، أي أنّ العنصريّة هي جزء من طبيعة الإنسان. يمكن فهم الخشية من المُختلِف أو الحذر منه بالعودة إلى الزمن الذي كان الإنسان فيه يحيا دون حماية دولة (رجال شرطة وجيش وغير ذلك) حيث كان لديه أقلّ من جزء من الثانية ليقرّر أمام شخص غريب يراه لأوّل مرّة إن كان ذاك الشخص يشكّل خطراً على حياته أم لا؛ وبناء عليه يمكن فهم تطوّر الإنسان ليرتاح إلى الشبيه، ويرتاب من المُختلف على أنّه تطوّر حدث من زاوية الحاجة الأساس إلى تصنيف سريع للآخر على أساس مجموعة بسيطة من الصفات كالشكل، واللون، ونوع الملابس، التي يمكن تقييمها بجزء من الثانية فقط، والسرعة هنا ضروريّة لأنّ الفرق في نتيجة التقييم (إمكانيّة الصديق أو العدوّ) يعني الفرق بين الاستمرار في الحياة أو الموت. الخشية من المُختلف أو «الغريب» لها إذاً أهمّية في مسارنا التطوّريّ كونها عنصر استمرار في الحياة، وتدلّ العلوم اليوم على أنّه مزروع في اللوزة الدماغية أو اللوزة العصبية (amygdala). الحذر أو الخشية من الغريب، والارتياح إلى الشبيه لا يعدو كونه آليّة نفسيّة يمكنها أن تساعدنا على الاستمرار في الحياة، في حال كان التقييم ينتهي إلى تحديد خطر على الحياة؛ فإنّ التحفيز السريع بواسطة الأدرينالين يدفعنا لنقوم بأحد أمرين معروفين: الهرب من مصدر الخطر أو القتال، حسب الظرف.
هذا كلّه، لا علاقة له بالعنصريّة، الخشية من الآخر المُختلف لا يمكن أن نسمّيها عنصريّة، وإنّما يمكن تسميتها بخشية الغريب المختلف (xenophobia)، ليس بالمعنى السياسيّ الاجتماعيّ الذي تتّخذه الكلمة اليوم والذي يعني الدعوة إلى استهداف الأجانب، والتهجّم عليهم، والتنكيل بهم، واتّخاذهم كبش محرقة لكلّ فشل اجتماعيّ وسياسيّ واقتصاديّ. ليس هذا ما نقصده بالخشية من الغريب، وإنّما نقصد الحذر الفطريّ من الآخر المُختلف تيقّظاً وحماية للحياة. ما نقوله إنّ هذا الحذر ليس هو العنصريّة.
العنصريّة نظام خلقه الفكر الأوروبيّ منذ بضع مئات من السنين، وقام على تصنيف البشر إلى مجموعات سُمِّيَت عناصر (races). قام هذا النظام على فكرة تعتبر أنّ الأوروبيّين يمتلكون ميّزات خاصّة تجعلهم أعلى ذكاءً وأخلاقاً من غير الأوروبيّين، وردّوا أسباب ذلك إلى كونهم من «عنصر» أبيض. العنصريّة كانت نتيجة فكر قرّر بأنّ الأوروبيّ «الأبيض» أعلى من بقيّة الناس؛ والأبيض هو حصراً الأوروبيّ مهما كان لون جلد الإنسان (بعض العرب يظنّ أنّه أبيض بحسب لون جلده، ولا يخطر له أنّه ليس كذلك في التعريف الأوروبيّ للصفة). على أساس هذا التمييز المُختَلَق في الأخلاق والذكاء، بنى الأوروبّيون نظرتهم المحتقِرة إلى ما هو غير أوروبيّ، وتصرّفاتهم المجحفة بحقّ الآخرين المختلِفين، بنوا نظاماً كاملاً من الاستغلال لكلّ ما هو غير أوروبّي، نظاماً حلّل استعباد الآخرين وسرقة أراضيهم واستغلالهم وقتلهم وإبادتهم إن لزم الأمر، كونهم «أدنى» وكون الأوروبيّين يحاولون أن ينقلوهم إلى مستوى «الحضارة» التي هي حصراً أوروبيّة. العنصريّة هي نظام تصنيف لمجموعة بشريّة على أنّها «أعلى» قيمةً في الإنسانيّة من مجموعات أخرى، هو نظام وليس مجرّد شعور شخصيّ، نظام له جيشه، وأدوات إعلامه، وسفراؤه، وتكنولوجيّته.
الخشية من الآخر الغريب شعور ذاتيّ أوتوماتيكيّ محفور في الدماغ بينما العنصريّة هي فكر وقرار إراديّ بأنّ الآخرين لا يساوون الجماعة الذاتيّة في الإنسانيّة

يكمن أذى العنصريّة أساساً في كونها تؤسّس نظاماً متكاملاً لسيطرة مجموعة على مجموعة أخرى واستغلالها؛ ويمكن التمييز بين عنصريّة فرديّة تقوم على اعتقاد فرديّ بقيمة أدنى للآخر من المجموعات الخارجيّة، وعنصريّة مؤسّساتيّة تقوم على إعطاء المؤسّسات أولويّة لمجموعة على حساب مجموعة أخرى (مثلاً، إصدار المؤسّسة القضائيّة أحكاماً أقسى بحقّ أعضاء مجموعة بشكل مستمرّ)، ويمكنها أن تكون عنصريّة ثقافيّة تقوم على اعتبار أنّ ثقافة مجموعة أخرى هي أدنى من تلك التي للمجموعة الذاتية (فنّها، عاداتها).
إذاً، أساس العنصريّة هو فكرة الأعلى والأدنى في الإنسانيّة، بينما لا يقوم الحذر من الغريب وخشيته سوى على غريزة البقاء. الحذر من الغريب هو خطوة أولى بعدها قد يقرّر الإنسان أنّ الآخر لا خطر منه، وبالتالي لا ضرورة للهرب أو القتال، أو أنّه بالفعل يشكّل خطراً، وبالتالي من الضروريّ اتّخاذ القرار بالهرب أو القتال. الحفاظ على الحياة الذاتيّة هو الهدف من خشية المُختلِف، بينما هدم حياة الآخر هو الهدف من العنصريّة. الخشية من الآخر الغريب شعور ذاتيّ أوتوماتيكيّ محفور في الدماغ، بينما العنصريّة هي فكر وقرار إراديّ بأنّ الآخرين لا يساوون الجماعة الذاتيّة في الإنسانيّة. الحذر من المٌختلِف يولد مع الإنسان، أمّا العنصريّة ففكر يستمرّ بالتربية والنظام والمؤسّسات. شتّان بين الأمرين.
لا، العنصريّة ليست مسجّلة في طبيعتنا البشريّة، هي وليدة تفكير إنسانيّ يمكن ويجب تغييره ومواجهته. حتّى الحذر من الآخر المُختلف المسجّل في جيناتنا ليس قدراً، وإنّما يمكنه أن يتأثّر بالظروف المحيطة، كما يدلّنا علم الجينات نفسه، أي أنّ الميول الجينيّة تتأثّر بالتربية والدعاية والنظام التربويّ وغير ذلك. صحيح أنّ الحذر الفطريّ من الآخر المختلِف لم يعد له مبرّر حضاريّ لأنّنا الآن نعيش في دول تحمينا فيها آليّات مختلفة، ولكنّه لا يزال مسجّلاً فينا، ويمكن تحفيزه سلباً بواسطة وسائل الدعاية ليتحوّل إلى اعتقاد سلبيّ، وتصرّف سلبيّ تجاه الآخرين المختلفين، أي إلى إجحاف بحقّهم (prejudice)، أو يمكن تجاوزه بالتربية على التعاون والقبول بالتنوّع والاختلاف.

* كاتب وأستاذ جامعي