تشبه رقعة الصراع في السودان اليوم طاولة البيلياردو، حيث يمكن لكل طرف إقليمي أو دولي أن يحقق في ضربة واحدة عدة كرات لصالحه وعدة خسائر في وجه خصم أو أكثر، كما أنه من الممكن له في الضربة ذاتها أن يخسر بعض النقاط أو يضحّي بها لأجل أخرى. ما يزيد المشهد ضبابية قصر الذاكرة السياسية في تفسير الصراع، والحقيقة أن مآسي السودان قد تبدو نتيجة رجال الحكم مثل البرهان وحميدتي والبشير، إلا أن هناك سياقاً أكثر اتساعاً وعمقاً وأكثر قدماً من كل هؤلاء لزعزعة استقرار السودان صنعتهُ واشنطن. هذا السياق هو أفضل تجارب واشنطن في الفوضى الخلّاقة التي سعت لنشرها في منطقتنا؛ لم يكن انطلاق «الربيع العربي» غداة انفصال جنوب السودان مجرد مصادفة عبثية، كما لم يكن الحراك السوداني في نهايته مصادفة عبثية أخرى. سلسلة المقالات هذه هي محاولة إحاطة تاريخية بدور واشنطن وحلفائها في إيصال السودان ومحيطه إلى هذا الدرك الأسفل من الموت.

«أمي لقد قتلت رجلاً للتوّ» غنّى فريدي ميركوري (فاروق بولسارا) ومعه الجماهير العريضة على منصة مدرج ويمبلي قبل 37 عاماً في مشهد حضره المليارات على البث المباشر العابر للأطلسي، يكاد يكون هذا أكثر مقاطع الغناء الحي شهرة في تاريخ الموسيقى الغربية وأكثرها رمزية. في خلفية المشهد، كانت هناك بقعة سمراء يشوبها غيتار لا يذكرها أحد اليوم (أفريقيا)، إلا أن الحفل للمفارقة كان قد أقيم على شرفها، أو بالأحرى على شرف إنقاذها، كان المنظّمون يعدون وتيرة سقوط ضحايا المجاعات في القارة السمراء، وبطريقة ما كانت الأجساد البيضاء تتراقص على إيقاع تساقط الأجساد السمراء بسذاجة العصر، حيث لا جانيَ ولا مجنيَّ عليه ولا مسؤولية سياسية عن عذابات ومآسي الجنوب. هكذا يمكن اختزال روح العصر (Zeitgeist) القادم لانتصار الرأسمالية، وأبطاله من متطوعين ومنظمات إنسانية، وضحايا سمر البشرة، وتدخلات عسكرية بدعوة هذه المنظمات، تجارة سلاح وحركات متمردة وحروب عبثية مستدامة، ومخيمات اللجوء على مد البصر ترفد الصراعات بجنود من الأطفال، وتجارة مساعدات فاحشة الربح، وصناديق تحوط كالطيور الجارحة تترصد سقوط جثة دولة متحللة جديدة لتنهش اقتصادها حتى النخاع. المفارقة أن الصادق الوحيد بين كل المجاميع، كان فاروق الذي أعلن بصراحة أنه لم يكن هناك لإنقاذ أي أحد.
واشنطن 2007، وقفات احتجاجية صغيرة الحجم أمام مراكز صنع القرار الأميركي والسفارة السودانية، تضم مسؤولين أميركيين ومشاهير هوليوود وأعياناً للجالية اليهودية، وطبعاً هناك وجوه سودانية بين الحين والآخر، تجابه هذه الوقفات بقوات الأمن (U.S. Secret Service) ويتم اعتقال المتظاهرين، وتوثّق عدسات الكاميرا هذه الحوادث بالتفصيل والمحتجون يُكبلون ويُقتادون إلى عربات الاعتقال، وإذا دقّقت في الصور ستلمح ابتسامات كأنها تكتم ضحكات مجلجلة، ولكن ما المضحك هنا؟
للإجابة علينا البدء بثمانينيات القرن الماضي، حينها بدأ الغرب يتلمّس تراجع النفوذ السوفياتي في القارة السمراء، وبذلك تلاشت الصبغة الإيديولوجية للتدخلات الأميركية التي برّر بها الغرب لنفسه قمع حركات التحرر ونهب شعوب الجنوب تحت غطاء مكافحة الشيوعية. مع «نهاية التاريخ» بدأت حروب من نمط آخر بالظهور كانت أشد دموية وعنفاً، وكان من الضروري تغطية عورة التدخلات الاستعمارية المتصارعة في ما بينها تحت شمس «الليبرالية المنتصرة» بغطاء التدخلات الإنسانية، وهكذا صعد نجم نوع جديد من الأبطال: ناشطو «المنظّمات غير الحكومية»، وبالنسبة إلى أميركا كان روجر وينتر رجل المرحلة في أفريقيا.
كانت أوغندا وأفريقيا الوسطى نقطة انطلاق للعدوان نفسه باتجاه جنوب السودان وغربه


هذا القادم من إدارة كارتر حطّ في أفريقيا كمسؤول في اللجنة الأميركية للاجئين (USCR) جالباً معه طوفاناً من الدم. بدأ مسيرته باستقطاب عدد من الشباب الأفريقي الذي تدرّب في معسكرات داخل أميركا، من هؤلاء كان موسيفيني الذي سيصبح رئيس أوغندا بانقلاب دموي، كان لا بد له من ميليشيا تكوّنت من لاجئي التوتسي (كانوا أوغنديي الجنسية ومن العائلات المتنفّذة إجمالاً) أمّا المسؤول الاستخباري لها والذي تكبّد عناء أفظع جرائمها فهو بول كاغامي، وهذا سيصبح رئيس رواندا، الأمر الذي تطلّب مجزرة أخرى - تلك التي قالوا لنا بأن الهوتو عام 1994 انطلقوا في هرج مسعور على مدى مئة يوم لحصد رؤوس 800 ألف من التوتسي بالمناجل «الماشيتي» وللمزيد من سخرية القدر فقد كانت هذه الأخيرة مؤمّنة بقرض من البنك الدولي. تأخر العالم للتدخل وإيقاف المجزرة، وعدم التدخل هذا هو حكاية بذاتها سنعود إليها. كانت هذه المجزرة مهمة استراتيجياً إلى الحد الذي أُدين تخاذل بطرس غالي لانحيازه الفرنكوفوني فيها، ونسيت له خدماته الجليلة للاستعمار بلمح البصر.
مأساة رواندا للأسف تتعاظم إذا ما عرفنا أن العالم أدان المذبوحين، بينما بكى القتلة وهلّل لتسلّمهم السلطة (عام 2008 صدر تقرير بالحقيقة من قبل الأمم المتحدة)، وأن روجر وينتر أدار المجزرة وأن كاغامي (إلى جانب أمراء حرب أفارقة آخرين) كان يدعوه بالزعيم «Boss» بينما لقّبه ضحاياه بالشيطان، وأن المأساة لم تنته هنا، بل ذهب كاغامي ليكمل مذابحه في الكونغو حيث فرّ الناجون من الهوتو، وذلك تحت ذريعة أن المسلحين كانوا قد اختبأوا بينه. وهكذا اجتاح الكونغو (زائير) وتمّ قلب نظام الحكم وتنصيب زعيم آخر يرضى عنه وينتر «مؤقّتاً». وكالجراد عاث جيش كاغامي في الأرض إبادةً ولم يميز بين كونغولي ورواندي لاجئاً كان أو مسلحاً. لليوم لا تزال الكونغو غارقة في الصراعات الميليشيوية، والتقديرات عن ضحايا هذه الحروب المستمرة في هذا البلد وحدَه حتى عام 2011 رَاوحت بين 6 و 10 ملايين.
شكّلت رواندا، وبعدها أوغندا، قاعدة انطلاق لما يسميه الصحافي والمصوّر والشاهد كيث سنو، باستراتيجية الحروب المنخفضة الوتيرة تجاه الكونغو. كانت أوغندا وأفريقيا الوسطى نقطة انطلاق للعدوان نفسه باتجاه جنوب السودان وغربه. في هذا السياق التقى روجر وينتر مع جون غارنغ، زعيم الحركة الانفصالية في جنوب السودان، وجنّده وأرسله للتدريب في أميركا، ولاحقاً سيجنح الرجل نحو السلام مع الخرطوم وبأعجوبة سيُقتل في تحطّم مروحية أعاره إياها موسيفيني. كان غارنغ قد اتفق مع الخرطوم على حل سلمي يضمن وحدة السودان واستُقبل في العاصمة استقبال الأبطال بحضور الملايين من السودانيين، وإذ به يُقتل ويُروّج بأن الخرطوم (المستفيدة الكبرى من بقائه حياً) قد اغتالته. بينما تظهر وثائق «ويكيليكس» أن الأميركيين بحثوا عن قائد جديد من بين قادة الميليشيات لخلافته والمعيار الأهم في البحث هو من يمكنه قيادة الجنوبيين للإجماع على خيار الانفصال. وانفصل الجنوب عام 2011 عشية «الربيع العربي» ولم يشهد يوماً من السلام منذ ذلك الحين، بالرغم من إغداق الأميركيين والإسرائيليين له بالمساعدات، لا يزال مئات آلاف النازحين يقيمون في الشمال هرباً من الموت.
دُمّر إقليم بأكمله وشُنّت حروب ونُفّذت انقلابات دموية في كل من الكونغو-زائير ورواندا وأوغندا والسودان، وامتدّت ألسنة النار إلى كل من التشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوروندي، لم تستهدف هذه الحروب الأنظمة والحكومات فقط، بل كانت حروب إبادة وتطهير عرقي قادتها الميليشيات برئاسة أمراء الحرب، ومنها الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان، والجبهة الوطنية الرواندية، والاتحاد الديموقراطي لتحرير الكونغو، وحركة التحرر القومي في أوغندا، وعدة حركات متمرّدة في دارفور، كل هذا أنجزه روجر وينتر وتلامذته من أمراء الحرب.
سيبحث المقال التالي... كيف استفادت واشنطن من هؤلاء لإدارة الاقتصاد الجيوسياسي للمآسي في المنطقة.

* كاتبة عربية