«إذاً فالسؤال الحقيقي، السؤال الأخلاقي هو التالي: هل سنستخدم القوة لإنقاذ الأفارقة في دارفور كما فعلنا لإنقاذ الأوروبيين في كوسوفو؟» - سوزان رايس«الإبادة الجماعية هي ورقة الطرنيب. في اللحظة التي تنخرط فيها أمة بإبادة جماعية هناك فهم ضمني بأنها تخلّت عن سيادتها… هذا يغير كل الدينامية… السبب وراء دفع أشخاص مثلي منذ أربع سنوات بالقول إن هذه إبادة جماعية هو لخلق هذا المناخ بالضبط حتى يكون مستحيلاً للناس أن يجادلوا ومن الصعب لهم أن يجادلوا بأن لدى الخرطوم بشكل ما شرعية» - جو بايدن.
جلسة الاستماع هذه، المقامة في الحادي عشر من نيسان 2011 من قبل الكونغرس حول الأوضاع في دارفور، كبسولة لفهم الابتزاز الذي تعرّض له السودان؛ لدينا هنا مجلس شيوخ ديموقراطي عدواني يدفع باتجاه شنّ حرب أممية أو أطلسية أو منفردة ضد السودان، وأمامه مجموعة من الشهود أولهم اندرو ناتسيوس، وكان وقتها المبعوث الخاص من قبل الرئيس بوش إلى السودان، وأوضح الرجل حقيقة الوضع حسبما رآه في السودان. وبحسب كلمته الافتتاحية، أوضح أن وتيرة العنف منخفضة في الإقليم، وأن الحكومة السودانية متعاونة وملتزمة بالخطوط الحمر الأميركية، كما أوضح أن الإبادة الجماعية الحقيقية تحصل الآن في التشاد، وأن جماعات الثوار تقوم بمختلف أنواع الارتكابات، من القتل إلى الإغارات والاغتصاب وسرقة المساعدات الإنسانية وحتى مهاجمة المنظمات الدولية. كما أوضح أن تصوير الصراع على أنه بين قبائل العرب والأفارقة هو تصوير خاطئ وأنه من المضلّل أن تُصنف أطراف النزاع على أنها طرف عربي متجنٍّ وطرف أفريقي مجنيّ عليه، بل إن الضحايا في دارفور هم القبائل «العربية».
خلال الجلسة الممتدة لساعات، تعرّض الرجل لأنواع الضغوط كافة لتغيير أقواله، بدا ناتسيوس كأنه متهم لا شاهد. لا يمكن لأي نص مقتطف أن ينقل نبرة التهديد الضمني التي تعرّض لها الرجل، وكان السيناتوران بوب مينينديز وجو بايدن هما الأكثر إلحاحاً؛ الأول حاصر الرجل حتى أقر بأن الوضع الجاري في دارفور هو إبادة جماعية (الشاهدة التالية كانت سوزان رايس، وهي قالت في انتقادٍ لتلكؤ ناتسيوس، لقد تطلب الأمر ساعتين من الضغط لكي يعترف بأن ما يحدث الآن هو إبادة جماعية). بينما انصبّ اهتمام جو بايدن على ضرورة التوقف عن الحديث حول جرائم الثوار الذين تدعمهم واشنطن، فذلك لا يفيد.
كانت اللجنة تدفع باتجاه 3 مشاريع: العقوبات (بالنسبة إلى مينينديز تحديداً من الضروري فرض المزيد من العقوبات -بغضّ النظر عن الوقائع على الأرض- لأنه يرى أنه يتعامل مع أطفال -يقصد الحكومة السودانية- وانبرى الرجل يوصف الوضع بكل ما للغة استعمار القرن التاسع عشر من فوقية واستعلاء). المشروع الثاني، تحريك محكمة الجنايات الدولية ضد السودان (لكسب نقاط قوة في التفاوض مع الخرطوم كما عبّر مينينديز وتراجع بعد أن نبّهه ناتسيوس أن المحاسبة لارتكاب جرائم ضد الإنسانية لا يجب أن تكون ورقة ضغط ومفاوضات). والمشروع الثالث، كان إدخال أعداد أكبر من قوات الأمم المتحدة وتوطينها للسيطرة على الوضع في المنطقة. مشروع إضافي كان بعيد المنال ولكن ذلك لم يمنع بايدن ورايس من الترويج له، وهو التدخل العسكري عن طريق حلف الأطلسي أو حتى بشكل منفرد.
عند تتبّع الأحداث يظهر تحمّس الجمهوريين لشن الحرب على السودان في حكم الديموقراطيين، وحالما يتسلّمون الحكم، حتى تنقلب الآية، وقد يبدو مفهوماً تماماً لماذا أرادت أميركا شن الحرب على السودان، ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: لماذا لم تشن أميركا الحرب على السودان؟
للإجابة علينا البدء من حركات التمرد في دارفور التي بدأت من جنوب السودان، هناك التقت قياداتها بروجر وينتر، وهناك بدأت علاقاتها الصهيونية، وكان الأميركيون يلاعبون الحكومة السودانية لعبة السلم والأفعى، عند كل مفترق طرق من المفاوضات والتنازلات. ومقابل كل سلم من الإغراءات وضع الأميركيون أوكاراً من الأفاعي. وكلما تنازل السودان لحصد المكاسب، مثل رفع اسم البلد من قائمة الدول الراعية للإرهاب، أو ضمان عوائد ترانزيت النفط المتركّز في جنوب السودان، كان أمراء الحرب يشعلون الحرائق في مناطق أخرى مثل كوردفان ومناطق مختلفة من دارفور على هوى ضابط الإيقاع الأميركي. هكذا اشتعلت جبهة دارفور بشكل كامل في الوقت الذي كان اتفاق السلام الشامل في الجنوب ينضج ويغري الشمال بحصد المكاسب، وبالطريقة ذاتها عندما أرسل الاتحاد الأفريقي بعثة لتهدئة الأوضاع في دارفور ونجح في التوصل إلى حل سياسي بين الحكومة والمتمردين قُطع التمويل الغربي عن البعثة العسكرية وأصبح آلاف الجنود في إقليم غريب قاحل، ولإكمال الكارثة بلا هدف سياسي، إذ تشظّت الحركات المتمردة بشكل مفاجئ وغيّرت مطالبها إلى مطالب تعجيزية يستحيل لحكومة السودان القبول بها، الأمر الذي يجعل من التوصل إلى السلام ضرباً من المحال كما يعترف مسؤولون أميركيون، ما برّر ضغط أميركا لإدخال قوات الأمم المتحدة وفرض البند السابع على السودان.
كان روجر وينتر في قلب خلية إدارة الصراع في السودان بالتنسيق مع اللوبي الصهيوني، ومعه عصابة كبرى ممتدة في مختلف المؤسسات الأميركية تشمل سوزان رايس في الأمن القومي، وأعضاء من مجلس الشيوخ، وشبكة من المنظمات غير الحكومية العاملة في السودان تعود خيوطها جميعاً لجون براندرغاست، تلميذ وينتر، والذي وظّفته رايس في مجلس الأمن القومي بعد أن أكّد لها سوء نواياه تجاه السودان. وهكذا قادت هذه الخلية مجموعة الحروب المنخفضة الوتيرة على مدى عقود ضد السودان، أشعلت جبهة كلما أطفأت السودان إحداها بتنازلات مذلّة طمعاً بمكاسب من سراب.
مجدّداً، لم يهتم أحد بأن القتلة هم من تريد أميركا إنقاذهم أو أن أميركا نفسها كانت مسؤولة عن قتل ملايين العراقيين بينما تريد إنقاذ السودانيين، وذلك لأن عدّاد ضحايا الصراع في دارفور كان يعمل على شكل بورصة تصعد وتنزل بحسب المصالح الأميركية في الضغط على الحكومة السودانية. بطل هذه البورصة كان البروفيسور اريك ريفز، وهو جزء من حملة «أنقذوا دارفور» التي نشأت من رحم اللوبي الصهيوني في أميركا، وكرّست ميزانيات بعشرات الملايين لبث بروباغاندا البورصة هذه دون أن ترسل قرشاً واحداً لدافور. فتحالف «أنقذوا دارفور» لم يكن تحالفاً من أجل السلام بل كان تحالفاً من أجل الحرب. وما بدأه نجوم الغناء في الثمانينيات سيكمله نجوم هوليوود خلال حقبة الحرب على الإرهاب، بتكريس سردية الرجل الأبيض الآتي لإنقاذ السمر من شر أنفسهم، بالاعتماد على عنصرية مزدوجة؛ عنصرية الراوي وعنصرية المتلقّي، لإغفال مسؤولية الرجل الأبيض عن إدارة شلالات الدم.
[سيناقش الجزء التالي من السلسلة علاقة تحالف «أنقذوا دارفور» بالسياسة العامة للصهيونية في أفريقيا والسودان تحديداً للناحية الخطابية ولناحية المصالح الجيوستراتيجية الصهيونية في السودان]

* كاتبة عربية