السؤال الكبير الذي سرعان ما يفرض نفسه حين الحديث عن بقاء الثورة التكنولوجية الرابعة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، تحت سيطرة الواحد في المئة من أعضاء «الطبقة الفائقة» الرأسمالية، هو: هل بإمكان شعوب الأرض ونخبها الأخلاقية والمتنوّرة مجابهة هذه الديكتاتورية المادية - الآلية الأعتى في كل التاريخ البشري؟

ونجيب هنا بسرعة: نعم تستطيع، وللأسباب الآتية:
أولاً: إن جنسنا البشري يمتلك طاقة خطيرة اسمها الخيال. إنه ذلك الجهاز الذي حفّزنا طوال التاريخ على خلق كل التطورات والتطويرات العلمية والتكنولوجية والفلسفية. ثمة إمكانات لا حدّ لها للخيال. إنه بمثابة «قوة عظمى» يمكن لكل بشري الاستفادة منها. لماذا؟ لأن كل حل لمشكلة ما يبدأ بقدرٍ من الخيال. وبالعكس: العديد من المشاكل تظهر بسبب الفشل في التخيّل بأنه يمكن حلّها، ما يؤدي إلى الانغلاق أو الاحتباس الإدراكي COGNITIVE LOCKDOWN. كل المشاكل الضخمة التي يعانيها البشر الآن سببها عجزهم عن تخيّل الحلول. الخيال يتضمّن الخلق والانفتاح على وسائل أخرى للتفكير، بشرط أن يترافق ذلك مع خطوات تنفيذية، لأنّ رؤية أو خيالاً من دون تنفيذ هي مجرد هلوسات. لا بل أكثر: ألبرت أينشتاين نفسه أعلن، بتعبير حاسم، أن «الخيال أهم من المعرفة. فالمعرفة محدودة لكن الخيال يحيط بالعالم».
حتى عتاة النظام المادي الرأسمالي يحاولون استخدام الخيال لحل مشاكلهم. فقد شكّل مديرو 91 مصرفاً مركزياً في العالم ما سمّوه «شبكة تخضير النظام المالي» NETWORK FOR GREENING THE FINANCIAL SYSTEM، وظيفتها «تخيّل» الحلول البيئية للأزمات المالية والاقتصادية.
وظيفة الخيال لدى الجنس البشري هي المغامرة في أرض مجهولة، وهذا ما يفتقده تماماً الذكاء الاصطناعي.
ثانياً: السبب الثاني لقدرتنا على المجابهة، بعد الخيال، هو الحب. أجل الحب. فهو قيمة تبادلية أزلية، لكنه احتاج طوال التاريخ البشري إلى مساندة القوة العملية لتفكيك المؤسسات الفاسدة التي تروّج لعكسه، أي للكراهية والحروب، ولبناء مجتمع إنساني جديد يقوم على الفرح والحب والبهجة والبساطة. الحب يعني أيضاً بناء شبكات التعاطف وخطط التعاون، ولذلك فهو ليس معطىً روحانياً وحسب، بل هو أيضاً عمل سياسيّ حيويّ. وفي خضم الأزمات المرعبة التي تجتاح جنسنا البشري، أشدّ ما يحتاج إليه هذا الجنس الآن هو استعادة المعنى السياسي والمادي للحب. من دون الحب البشر، لا شيء: حاضر ميت ومستقبل حي، والهوة سحيقة بينهما لا يردمها سوى الحب.
ثالثاً: هذا الخيال وذلك الحب يمكّناننا الآن من تطوير حلمنا الكبير الجديد، وهو أن نضع التكنولوجيا في خدمة الإيكولوجيا (العميقة منها على وجه الخصوص)، كي ننقذ الحياة على الأرض من انقراض سادس مُحقق. بديلنا أن يكون الذكاء العام، الذي يُنتج الآن ثورة المعلومات، في مصلحة كل البشرية، فيوزّع نتاج الآلات على جميع البشر حسب حاجتهم، ويستخدم الأدوات التكنولوجية الجديدة ليس فقط لحل مشكلة الفقر والفاقة والأمراض والانفجارات الديموغرافية في العالم الثالث، بل أيضاً لتنمية مواهب مئات ملايين الأطفال بدل أن يكون هذا التطوير قصراً على ما يقلّ عن 0،1 في المئة في العالم من أطفال السوبر أغنياء.
ما نتحدّث عنه هنا ليس طوباويات مُحلّقة، بل هو يستند إلى حقيقة توقّف الرأسمالية عن كونها قوة تقدّمية من مصلحتها تطوير الابتكارات والعلوم، وتحوّلها إلى عقبة كأداء في وجه التقدّم، لأن نظامها يقوم على الندرة وليس الوفرة، وهي ندرة بدأت تتبخّر في الهواء بفعل ظهور الذكاء الاصطناعي الذي يعمل بلا كلل أو تعب، وأيضاً لأن ما يُخترع اليوم بكلفة باهظة يصبح سريعاً غداً سلعة عامة شبه مجانية متوافرة للجميع.
ثم: إذا رفعنا أيضاً قبضة حفنة الرأسماليين عن قطاع الطاقة، ستستطيع الطاقة الخضراء التقدّم في شكل قفزات كبرى لم يتوقعها الخبراء، وهي ستُحقق وقف انبعاثات غازات الحبيسة التي تريدها اتفاقية باريس للمناخ.
الحلول العلمية موجودة للكوارث العالمية كافة، البيئية والاجتماعية والديموغرافية، وهي عملياً لا تكلّف سوى قدر ضئيل للغاية من الثروة البشرية العامة (1 % من الناتج الإجمالي العالمي). لكن الطبقة الفائقة الرأسمالية ترفض بشبه إجماع الموافقة على دفع أيّ ضرائب لتحقيق هذه الأهداف، وتطالب الحكومات بتوفير هذا التمويل. ومن أين ستأتي الحكومات بهذه الأرصدة؟ ليس بالطبع من الشركات، بل من مواطني العالم.
الأغلبية الأخلاقية في العالم ليست بالتأكيد ضد التكنولوجيا، بل ضد من يستخدمها لأغراض أنانية وخاصة ومدمّرة للبيئة والكائنات الأخرى. وفي هذا السياق، هي تريد بناء مجتمع لا أناني. تريد إسقاط التسلّط الأرعن للإنسان على البيئة والطبيعة. تريد هوية حضارية كونية عالمية جديدة تُقوّض إلى غير رجعة الهويات الخرافية القاتلة الأصولية المتطرفة والقومية والأنانية الرأسمالية. تريد الخروج من كل هذه الجهنمات التي يعيشها البشر الآن.
وهذه ستكون المرحلة الثانية من تطور الوعي البشري، وستعني إطلاق طاقات مئات ملايين البشر بدل طاقات ألف ملياردير رأسمالي ونسلهم. ستعني ضخ المعنى لوجود الإنسان. ستعني انتقال الوعي بمساعدة التكنولوجيا إلى العوالم والأبعاد التي تقع وراء عالم الحس. ستعني نهاية التاريخ الماكيافيلي التناحري وبداية التاريخ الأخلاقي الروحاني، حيث التناقض الجديد هو بين محدودية العقل ولامحدودية الخيال؛ بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، كما كان يقول غرامشي.

ممّ تتشكل هذه الأغلبية الأخلاقية؟
من الكثير من الحركات العالمية، أهمّها حركة العولمة البديلة التي نجحت للمرة الأولى في تحويل تيارات الاعتراض على السياسات النيوليبرالية إلى «شارع سياسي منتفض». وهناك تيار «التاريخ الكبير: فكّر كونياً، تصرّف عالمياً» الذي يدعو إلى الانطلاق من الكوني إلى المحلي، ويشدّد على أن نقل هذه الرؤية إلى عامة الناس يحتاج إلى سردية ورؤية تستطيع مواجهة الأيديولوجيات القومية والأصولية. رؤية تحمل الشعار: «الأرض بيت مشترك للبشر في الكون».
وهناك حركة «التطور الواعي» CONSCIOUS EVOLUTION التي يقول أنصارها إن وعياً جديداً بدأ يبرز في جيلنا لأن البشرية حصلت، في آن، على قوى قادرة على تدمير عالمنا، وعلى إعادة خلقه لبناء مستقبل هائل. هدف هذه الحركة هو تعلّم كيف يكون البشر مسؤولين عن التوجيه الأخلاقي للتطور بعدما وصلوا إلى مفترق طرق حاسم.
إلى تيار التطور الواعي، هناك حركة «الإيكو اشتراكية»، التي تدمج بين الماركسية والسياسات البيئوية الخضراء. وهناك الحركات البيئية على أنواعها التي تتصدّر الآن صفوف المجابهة مع العولمة التكنو - رأسمالية.
ولا يجب أن ننسى هنا تياراً مهماً ونافذاً، وخاصة في الولايات المتحدة، هو «عائلة الأرض»، تدعو إلى: قوة الشراكة، والخلق، والتطور المشترك، والثقة المتبادلة، والاهتمام، والتوزيع العادل للثروة، وحقوق المرأة، والاعتماد على الذات والتبادل الحر المشترك. ويرفض هذا التيار بقوة مفهوم الإمبراطورية في الاجتماع البشري، ويحذّر من أنه من دون نظام عالمي حضاري وديموقراطي جديد، سيحتاج البشر إلى كوكبين أرضيين جديدين، وأن ثلاثة أرباع البشرية سيعانون في عام 2025 من الجفاف.
باختصار، الحلم الإنساني الجديد يمتلك قوى حقيقية على الأرض، لكنها مبعثرة الآن. بيد أن توحّدها في لحظة ما مقبلة يبدو بالفعل حصيلة حتمية، بسبب التحديات الكبرى التي تواجه الآن معنى الحياة والوجود، وضرورة إسقاط التسلّط الأعمى والمدمّر للإنسان على أمّنا الطبيعة، وبناء الهوية الحضارية الكوزموبوليتية والكونية الجديدة التي ترمي معها الوعي الماكيافيلي والبربري إلى ما بعد رفوف التاريخ ومعه الهويات القاتلة القومية والأصولية منها والأنا الرأسمالية (الإيغو) المدمّرة.
مثل هذه الهوية الكونية هي الآن بطاقة خروج الجنس البشري من مروحة الجهنمات الهائلة التي يعيش، وبطاقة دخوله إلى المرحلة الثانية من تطور الوعي وإطلاق طاقات ملايين البشر، بدل حفنة ضئيلة للغاية من أولاد السوبر أغنياء.
وهذه الهوية هي الإجابة المباشرة عن السؤال الذي طرحناه في البداية: هل تستطيع شعوب الأرض مجابهة ديكتاتورية الـ 1 في المئة؟ إجابة تقول: حتماً تستطيع... لكن شريطة التوحّد والتضامن والتكامل أولاً.

* مدير منتدى التكامل الإقليمي

[النصّ ملخّص لكلمة ألقاها الكاتب في المؤتمر الذي عقد في بيروت في 15 تموز الماضي بدعوة من منتدى التكامل الإقليمي وناقش تحدّي الذكاء الاصطناعي وتأثيراته على المنطقة]