كلّ إنسان يحبّ هذا العالم لا بدّ أن يشعر بالمسؤوليّة تجاه مصير الناس والبيئة، والمسؤوليّة تفترض معرفة ليتمكّن الإنسان من تلمّس الأفضل. من هنا، لا ينفع الحماس الأرعن ولا الخوف المكبِّل في مسألة التعامل مع الابتكارات العلميّة، فكلا الموقفين يعكسان استسلام الإنسان أمام التكنولوجيا والشركات المنتجة لها، وبالتالي هزيمتنا وانصياعنا لمفاعيل تلك التكنولوجيا السلبيّة، أو خسارتنا لمفاعيلها الإيجابيّة. ويعتمد الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الرقميّة عامّة، على البيانات (داتا) التي تعمل الخوارزميّات على تحليلها، واستعمال نتائج التحليل لاتّخاذ قرارات (عرض منتج للبيع، دعاية سياسيّة...)، لكنّ عمليّة حصول الشركات على البيانات منّا نحن المستعملين لمنتجاتها تقوم بعمليّة استعماريّة تشبه في طرقها وإيديولوجيتها إلى حدّ كبير الاستعمار التقليديّ، وسنشرح في هذه المقالة باقتضاب الخطوط العريضة للاستعمار الرقميّ.

عندما كان الإسبان المستعمرون السفّاحون الذين احتلّوا أراضي الملايين من السكّان الأصليّين في القارة الأميركيّة وقتلوهم، يريدون احتلال أراضي السكّان الأصليّين والبدء بعمليّة إخضاعهم واستغلال أراضيهم، كانوا يتلون عليهم شروط استعمارهم باللغة الإسبانيّة غير المفهومة لدى الشعوب الأصليّة، وتلك الشروط تتلخّص بـ«حقّ» الإسبان في إخضاع السكّان الأصليّين للسلطة الإسبانيّة واستغلال خيرات أراضيهم (وبالطبع تبشيرهم بالمسيحيّة). هذا الخضوع للسكّان الأصليّين أمام شروط المستعمِر غير المفهومة هو تماماً ما نعيشه اليوم كمستهلكين للتكنولوجيا الرقميّة. هو حالنا أمام البرامج الإلكترونيّة ومنصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ، إذ نوافق جميعنا على «أحكام وشروط» البرامج تلك المكتوبة بلغة تقنيّة قانونيّة غير مفهومة لنا. نقول «نعم» موافقين على شروط غير مفهومة صاغرين أمام شركات التكنولوجيا العملاقة وخضوعنا لسلطتها، كما كان السكّان الأصليّون صاغرين أمام مستعمِرٍ أكثر تقدّماً في التكنولوجيا الحربيّة. وبينما كان رفض السكّان الأصليّين لشروط المستعمِر يعني محوهم عن وجه الأرض، فإنّ رفضنا لشروط وأحكام شركات التكنولوجيا يعني اليوم «مَحْوَنا» عن المنصّات الرقميّة (فايسبوك، إنستغرام، تيك توك...). وبينما كان جنود المستعمِر يحتكرون أسباب القوّة في الاستعمار التقليديّ، فإنّ أسباب القوّة اليوم تكمن في المنصّات الرقميّة (والتركّز الاقتصاديّ).
في الاستعمار التقليديّ كانت مساحة ومدى الاستعمار يكمنان في الأرض المحتلَّة، أمّا مساحة الاستعمار الرقميّ فهي كلّ المساحات الجغرافية حول العالم المتّصلة بالإنترنت. لكنّ الأمر الأكثر فداحة اليوم هو أنّ الاستعمار الرقميّ اليوم يتسرّب إلى الحياة الاجتماعية فيقبض على تفاصيلها عبر المنصّات الرقميّة (منصّات التواصل الاجتماعيّ، هواتف ذكيّة، ساعات ذكيّة...)، بينما كان الاستعمار التقليديّ يكتفي باحتلال الأرض والتحكّم بحياة العمل وتبقى رقابته وسلطته خارج معظم نواحي الحياة الاجتماعيّة.
كذلك يتلاقى الاستعمار التقليديّ والاستعمار الرقميّ في نظرتيهما المشتركة الاختزاليّة إلى الحياة البشريّة، فكلاهما يختزل الإنسان الحيّ ببعد كمّي مجرّد يتمثّل في أرقام وأعداد: في الماضي كان الاستعمار يختزل الإنسان بعدد يمثّل العبيد أو العمّال أو وزن الإنتاج، بينما اليوم هو يختزله بموقعه الجغرافيّ، ماذا يكتب، ماذا يشتري، كم خطوة يمشي، أيّ أماكن يزور، ما هو عمره، ما هو مدخوله. هذه النظرة الاختزاليّة إلى الحياة البشريّة، هذا الاختزال لحياة الإنسان في مجموعة من البيانات أمرٌ مشترك لكلّ من الاستعمار الرقميّ والتقليدي. هكذا، تتضاءل قيمة الإنسان كحياة، لتنمو قيمته كمصدر للربح، ككمّية. عوض العنف الجسديّ في الاستعمار التقليديّ، فإنّ الاستعمار الرقميّ قادر اليوم، بواسطة الذكاء الاصطناعيّ، على المراقبة الأدقّ والتحكّم الأكثر فعّاليّة في توجّهات الإنسان وخياراته من خلال عنف الإيحاء الدعائيّ الذي يحاصر الإنسان على المنصّات الرقميّة، ويضعضع قدرته على الحكم والتفكير النقديّ.
هناك أيضاً شبه إضافيّ بين الاستعمارَين، فالاستعمار التقليديّ ينظر إلى الثروات الطبيعيّة على أنّها مواد خام «موجودة هناك» وتنتظر أن تُستَخرَج، أي تنتظر المستعمِر القادر على استخراجها من أرض المُستَعمَر وتصنيعها لبيعها كبضائع للمُستَعمَر. الأمر شبيه بالنسبة إلى الاستعمار الرقميّ حيث تعمل الشركات على ترقيم الإنسان المُستَعمَر، أي تحويل حياته الاجتماعيّة إلى بيانات وأرقام وتخزينها، ثمّ تقوم باستخراج تلك الأرقام لدفعها إلى خوارزميات تقوم بدورها بإنتاج معرفة عن المُستَعمَر تُستخدَم بدورها لبيعه بضائع أو خدمات الاستعمار التقليديّ. عبارة «البيانات هي النفط الجديد»، التي غدت شهيرة في مجال الداتا، تَشي بنظرة الشركات الاستعماريّة تجاه بياناتنا، فهي تُعاملها كأنّها مواد خام «موجودة هناك» لا يعرف كيف يستخدمها المُستَعمَرون وتحتاج إلى شركات التكنولوجيا لتعمل على استخراجها واستخدامها في صناعة بضائع. والشركات تريد أن تقنعنا أنّها هي مَن تملك الحقّ في بياناتنا/المواد الخام، بينما الصحيح هو أنّ بياناتنا هي مُلكنا.
أدوات الإنتاج اليوم في آلة الاستعمار الرقميّ هي، أولاً، أجهزة إدخال وإخراج البيانات من منصات رقمية (لـ مايكروسوفت، أو غوغل، أو ميتا)، وأجهزة رقميّة (هواتف ذكيّة، أجهزة استشعار) وأنظمة رقميّة. بالإضافة إلى تلك أجهزة الإدخال وإخراج البيانات، فإنّ أدوات الإنتاج تحتوي على أجهزة تخزين البيانات، وأجهزة معالجة البيانات.
لكن خلف كلّ استعمار تكمن إيديولوجيا. في الاستعمار التقليدي كانت الإيديولوجيا هي مهمّة «تحضير» السكّان الأصليّين أي نقلهم إلى «الحضارة»، اليوم إيديولوجيا الاستعمار الرقميّ تقوم على فكرة «تحديث» حياة السكّان الأصليّين حول العالم، ونقلهم إلى التكنولوجيا الرقميّة من «ثورة» رقميّة إلى «ثورة» رقميّة أخرى.
الإيديولوجيّتان تقولان الأمر نفسه: هناك مواد خام «موجودة هناك» (مواد طبيعيّة أو بيانات)، وهذه المواد الخام لا قيمة فعليّة لها، بل تحتاج إلى المستعمِر وتكنولوجيّته لكي تتحوّل إلى قيمة؛ وبينما كان يتمّ الاستيلاء على الموارد الطبيعية مجّاناً في البداية ثمّ بسعر منخفض حاليّاً، اليوم هناك استيلاء على البيانات مجاناً. والإيديولوجيّتان تعتمدان على يد عاملة تعمل لقاء أجر زهيد: في الاستعمار التقليديّ عبيد يعملون مجاناً ثمّ عمّال ذوو أجر زهيد. أمّا في الاستعمار الرقميّ فهناك عمل لكلّ إنسان لكي يساهم في جمع البيانات الرقميّة حول نفسه، هذه العمالة الضروريّة للشركات خفيّة وهي تتوارى تحت عنوان «المشاركة»: مشاركتنا لبياناتنا مع الشركات.
أخيراً، فإنّ النموذج الإيديولوجيّ في الاستعمار التقليديّ يقول إنّ الشركات الخاصة هي الكيانات «الطبيعية» لتحويل المواد الخام إلى بضائع «يستفيد» منها المستعمَر، بينما تقول إيديولوجيا الاستعمار الرقميّ إنّ الشركات الخاصة هي الكيانات «الطبيعية» لتخزين البيانات وخصخصتها، وإنّ ذلك سيفيد المستعمَر في النهاية. النتيجة أنّه يتم اليوم وضع المجتمع بأكمله، والحياة الاجتماعية في خصوصيتها، تحت تصرّف الربح.
* كاتب وأستاذ جامعي