«شيءٌ يُكَمِّلُ شيئاًكما يتنامى الكَسادُ
على عُملَةٍ تالِفة
بالدبابيسِ والصَّمغِ
هذي الدُّمى الوطنيةُ واقِفَةٌ
قَرِّبوا النارَ منها
لا تُخدَعوا إنها تتغيّر
لا يتغيّرُ منها سوى الأغلِفة»

[مظفر النواب]

«إرادة القوة» عنوان كتاب للفيلسوف الألماني نيتشه، كتبه في الفترة بين 1884 - 1888 وظهر في عام 1895. عرض نيتشه في هذا الكتاب طروحاته في شتى الميادين والمجالات الفكرية، وتتبّع التاريخ والفلسفة ودعا إلى إحداث انقلاب حقيقي في القيم، ملاحظاً أن إرادة القوة هي التي تسيِّر الإنسان والعالم، وأن الأخلاق الحقيقية، بعكس الأخلاق التقليدية التي هي استمرار لبعض الثقافات، يجب أن تدافع عن حق الأقوياء والأصحاء من الكائنات ضد جماهير العبيد والمعتوهين والضعفاء، الذين يدفعون بالحياة إلى العدم. وقد كانت هذه الطروحات العنيفة والغريبة، لدى بعض المتضررين، أساس شهرة الكتاب، وفي أُسس التفسيرات الكثيرة والمختلفة التي دارت حول موضوعاته، والتي حاولت تحريف مضمون كتاب إرادة القوة تحت أسماء ومُسمّيات واتهامات، لا تخدم سوى أصحاب رأس المال الحاكم، وأنظمته الرأسمالية التي أوصلت هذا العالم إلى مدار النقطة - صفر!
هذا دون أن يغيب عن بالنا أن منهج «الإرادية» هو المنهج الذي يؤكّد على الإرادة وعلى أهمية الخيارات الفردية والجماعية والإرادة الشعبية في اتخاذ قرار (العامل الذاتي) للفرد والمجتمع، الذي يقلّل من أثر وتداعيات العوامل الخارجية أو ما يسمّى «العامل الموضوعي». كما أن الإرادية نقيض الحتمية التي تعتبر أن للعوامل الفوقية والخارجية الدور الأساسي في التصرف الإنساني وتستبعد الإرادة كعامل سببي في التجربة الفردية الاجتماعية والتجربة الجماهيرية-الاجتماعية-الجماعية نحو التغيير والتطور المستمر. وتعتبر النظرة «الذرائعية» للمعرفة كظاهرة تخضع للعمل، وكذلك نظرتها إلى المفاهيم كأدوات لتلبية الرغبات الإنسانية، نظرة إرادية لا يستطيع أن يقف في وجهها أحد. دون أن يغيب عن بال كل مواطن في بلدنا أهمية إرادته الفردية والجماعية في قيامة الإرادة الشعبية وقيامة ما بعد القيامة. الإرادة الشعبية الواعية، غير المرتهنة، غير المرتزقة، أقوى أسلحة التغيير.
«الإرادة الشعبية» مصطلح سياسي يشير إلى مجموع الخيارات التي يعبّر عنها المواطنون عن طريق الانتخابات أو الاستفتاءات أو التظاهرات أو العصيان المدني أو الثورة الشعبية. وهو، بمعناه الأشمل، يشير إلى كل رغبة لدى المواطنين يعبّر عنها، أو يجسّدها شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص (هيئة تمثيلية) على سبيل المثال، أو حزب سياسي يمثّل طموحات الجماهير الوطنية. نعم، الثورة على الإرث الاستعماري وما تركه من تأثيراتٍ على البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأنه المسؤول الأول عن تشكّل أنظمة حكم قمعية واستبدادية قابلة للتحكّم بها. نعم، الثورة على الإرث الطويل من الاقتتال والنزاعات الأهلية التي تستنزف البلدان ومواردها. ويُنتج ذلك كله نخباً حاكمة فاسدة ومتسلّطة، تبذل الغالي والنفيس لضمان البقاء في السلطة أكثر فترة ممكنة، وتدمير أي مؤسّسات حقيقية، وخنق جميع الحريات وإغراق الشعوب في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
فضلاً عن أن «الإرادة العامة» مفهوم ديموقراطي يرتبط بنظرية «العقد الاجتماعي» التي صاغها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، ويشير إلى إرادة المجتمع السياسي التي تقف بوجه حكم الطبقة أو السلطة أو الزعيم المطلق الذي لا ينتهي في بلد مثل لبنان، والتي تصبح معه الطائفة والطائفية حكماً إلهياً مطلقاً. وقد عارض الحكم المطلق تاريخياً عددٌ كبير من المفكّرين، أهمّهم لوك وروسو اللذان قالا بأن سلطات الحاكم أو الطبقة الحاكمة إنما تنبثق من ذلك الحيّز من الحريات والامتيازات المتنازل عنها طوعاً من قبل المحكومين ولهم الحق في سحب هذا التنازل إذا تجاوز الحاكم صلاحياته. وهكذا فإن السيادة الحقيقية هي للشعب عبر «الإرادة العامة» ولا يحق لأحد التنازل عن هذه السيادة لصالح الحاكم أو الطبقة الحاكمة. في الفلسفة السياسية، الإرادة العامة تعني إرادة الشعب ككل. العبارة التي وردت في المادة السادسة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي تألّف في عام 1789 خلال الثورة الفرنسية.
أوضح إنغلز أن «حرية الإرادة لا تعني شيئاً إلا المقدرة على اتخاذ القرارات بمعرفة الذات». الإرادة هي تصميم واعٍ على أداء فعل معين، ويستلزم هدفاً ووسائل لتحقيق هذا الهدف، بالإضافة إلى العمل الإرادي، وليد قرار ذهني سابق. كما أن الطابع الإرادي لفعل ما، يظهر بوضوح شديد حينما يتعيّن على شخص أن يتغلب على عقبات معينة، خارجية أو داخلية، ليحقق هدفه. وتكمن المرحلة الأولى لفعل إرادي في وضع الهدف واستيعابه، ويتبع هذا قرار الفعل واختيار أنجح وسائل الفعل. ولا يمكن وصف فعل بأنه فعل إرادة إلا إذا كان تنفيذاً لقرار ذاتي، وقوة الإرادة ليست منحة من الطبيعة، فالمهارة والمقدرة في اختيار هدف ما، واتخاذ قرارات سليمة وتنفيذها. إرادة القوة عنوان الصراع من أجل أن ينمو الوجود حتى يصير إرادة الإنسان الحر، وهذه الإرادة هي الدافع الحقيقي إلى التغيير والتطور.
ما زلت حتى هذه اللحظة من حياتي على قناعة واعتقاد لا يتزحزح أو ينتابه الشك والشكوكية، أنّ ما يُسمّى النخب (الجديدة أو الحديثة) في مجتمعات الاستبداد والنزاع، ليس سوى نخب «اصطناعية»، أو مجرد أدوات «جديدة» ووسائل «حديثة». أدوات ووسائل «افتراضية» تعمل من خلال «شبكات متقاطعة»، أو كلمات متقاطعة و«أجندات مشبوهة» من أجل «إعادة رسم خرائط المنطقة» بما يخدم «استراتيجية النيوليبرالية» الغربية، أو النيو-كولونيالية في المئة سنة الجديدة القادمة. النخب التي تأتي في مرحلة معيّنة مثل الطوفان تارةً بصفة «الربيع»، وتارةً أخرى بصفة «الخريف»، وطوراً بحجة «الثورة»، وطوراً آخر بحجة «المقاومة»، وحيناً بشعارات «التحرير»، وحيناً آخر بأعلام «الوحدة»، ومرّة باسم «التغيير»، ومرّة أخرى «كلّن يعني كلّن»، وفجأة، بدون سابق إخطار، «فصّ ملح وذاب»!

* كاتب لبناني