ننشر في هذا النص تقديم كتاب «تجربة لبنان التنموية»، للأكاديمي والباحث ألبير داغر، والصادر في بيروت عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، 2023:
يمكن تجميع المادة المكوّنة للكتاب أو فصوله تحت ثلاثة عناوين: الحقبة العثمانية وحقبة الاستقلال حتى 1975 وحقبة ما بعد 1990. وقد عُني الكتاب بالتعريف بالأدبيات التي كُتبت عن لبنان في حقل الاقتصاد. واستخدم أدبيات نظرية لتفسير التجربة اللبنانية والحكم عليها وإظهار ما كان ينقصها لكي تنجح كتجربة تنموية. ولعل أقصر طريقة لعرض محتوى الكتاب هو ذكر مساهمة كل من الباحثين الذين تمت الاستعانة بهم.

1. وبالنسبة للتجربة العثمانية، فقد أظهرت مساهمة إيمانويل فالرشتاين مع دسدلي وكاسابا كيف قبِلت السلطنة العثمانية بأن تتحوّل خلال القرن التاسع عشر إلى اقتصاد تابع في النظام الدولي ينتج سلعاً زراعية للأسواق الغربية.
ولم يكن ممكناً قول شيء ذي جدوى حول التاسع عشر لو لم ننطلق من الإمبريالية كمفهوم لتبيان علاقة النظام الدولي ببلداننا ونخبها. وكانت الكتابات الأفضل والأكثر تأثيراً هي التي قدّمها رونالد روبنسون ورسمت صورة العلاقة بين دول المركز وبين النخب السياسية في البلدان المستعمَرة.
والنوع الثالث من الأدبيات التي أتاحت فهم التجربة العثمانية هي القراءة لطبيعة الإدارة العامة في كل من اليابان والسلطنة العثمانية. في الحالة الأول أنشأت اليابان إدارة عامة «فيبرية» قائمة على الاستحقاق حصراً، في حين كانت القاعدة في الإدارة العامة العثمانية خلق مواقع إدارية لتوزيع تنفيعات فحسب.
والنوع الرابع من الأدبيات هو الكتابات التي ركزت على إعادة تكوين الوقائع حول التجربة. وأهمها نصوص كارن باركي وإنجن اكارلي على وجه الخصوص. بالإضافة طبعاً إلى نصوص روجر أوين وكارولين غيتس، وأخرى أكثر حداثة كمساهمة ستيفانيا إكيا.
والنوع الأخير من الأدبيات هي تلك النظرية التي قدمها تيار المؤسساتية المقارنة ممثلاً على وجه الخصوص بـ بيتر إيفانز. وقد قدّم هذا التيار إضافة هائلة لفهم دور الدولة التاريخي في التنمية. واعتبر أن شروط نجاح التنمية بوصفها «تحويلاً صناعياً» هي أولاً استقلالية الإدارة العامة. والدولة العثمانية لم تكن مستقلة لأنها كانت تحت رحمة أعيان الأقاليم. والشرط الثاني هو مقدرتها الإدارية، وهي كانت منعدمة في السلطنة العثمانية لأن بناء الإدارة العامة كان يخضع فيها لمنطق توزيع التنفيعات وليس بناء الاقتصاد المنتج. والشرط الثالث هو شكل انخراطها في النظام الدولي، وهو انخراط كان من موقع تابع ويقطع الطريق على إمكان إشراع تنمية بوصفها «تصنيعاً متأخراً».

2. في الجزء الثاني من الكتاب المخصّص لحقبة الاستقلال حتى 1975، هناك أولاً مسح للأدبيات التي تناولت تجربة لبنان. وفيه استعادة لكتابات كل من كتبوا عن الحقبة، واستعادة في الوقت عينه للنقاش الفكري حول الاقتصاد. وأظهر هذا الأخير غياباً للنقاش التنموي بالفعل لأنه لم يكن في أوساط المثقفين اللبنانيين مختصون يدلون بدلوهم في هذا الموضوع.
وكان حضور ثلاثة باحثين هم روجر أوين وكارولين غايتس وإيرين غندزير طاغياً في استعراض التجربة من الاستقلال إلى أواخر الخمسينيات. ولعرض تجربة الستينيات أو الحقبة الشهابية، جرى استخدام اسهامين على وجه الخصوص، هما كتاب ألبير داغر لعام 1995 ومساهمة سليم نصر لعام 1978. ووفّر المرجعان كماً من الوقائع أظهرت، في ما يتجاوز الإنفاق الشهابي على تطوير البنى التحتية للمواصلات وكهربة الريف وتوفير مياه الشفة، كيف تسبّب انعدام وجود تصوّر لدى الدولة لكيفية تنمية الزراعة والريف بإفراغ الريف من أهله خلال عقد واحد من الزمن. وقد ذهب هؤلاء إلى المهاجر. ولعل الأمر الذي أراد الكتاب التعبير عنه أكثر من غيره، هو أن تجربة لبنان التنموية منذ الخمسينيات حصلت ضد الريف. أو أن الريف وأهله كانوا ضحيتها الأولى والرئيسية.
ويسهم استعراض مواقف من كتبوا من الاقتصاديين حول تجربة لبنان في تأكيد المنحى المعادي بشدّة للريف في التجربة اللبنانية، ومن بين هؤلاء على وجه الخصوص ميشال شيحا.
والفصول المخصصة لهذه الحقبة تناولت أيضاً ما كان يمكن فعله لكي لا يكون الريف هو الضحية. وذلك تحت عنوان «السياسات الزراعية تحت إشراف الدولة». وجرى الاستناد إلى جهد ها-جون شانغ الشيق لتوضيح هذا الأمر.

3. أما تجربة ما بعد 1990، فقد استعادت حرفياً عنصرين من تجربة لبنان قبل 1975. أولهما انحصار الاستثمار الحكومي في خدمات بعينها هي المواصلات (مطار بيروت الدولي والأوتوستراد الساحلي) والإتصالات (التلفون) والكهرباء، كما كان الأمر في مطلع الاستقلال. وثانيهما هو الأولوية المعطاة لضمان مصالح «أصحاب الريوع المالية» أي القطاع المصرفي. وهو الوحيد الذي ازدهر وسط الكساد العام والمتمادي الذي كان وراءه الإمتناع عن بناء اقتصاد منتج.
والكاتب مدين لـ كينز ومدين خصوصاً للتيار ما-بعد الكينزي في استخدام مفهوم «رأسمالية أصحاب الريوع المالية» أو «الرأسمالية الريعية» (capitalisme de rentiers) لتوصيف تجربة لبنان.
وكان لا بد من استخدام بضعة مفاهيم رائجة لتعريف حقبة ما بعد 1990. أولها مفهوم «المقاربة الودية تجاه قوى السوق» الذي بلوره البنك الدولي واعتمدته حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري للتعريف بالسياسات المأخوذ بها. وهو يعني باختصار امتناع الدولة عن دعم الصناعة بإجراءات تتناولها مباشرة، وبما يتجاوز الاستثمار في البنى التحتية والتعليم والصحة.
والمفهوم الآخر المعتمد هو «مؤشر سعر الصرف الفعلي الحقيقي». وهو شيء آخر مختلف تماماً عن سعر الصرف الإسمي، أي سعر الدولار بالليرة. وهذا الأخير كان مثبّتاً، في حين كان الأول يرتفع على امتداد الحقبة رافعاً كلفة الإنتاج في القطاعات المنتجة وجاعلاً الاستثمار فيها غير ممكن.
لكن تجربة ما بعد 1990 أضافت عنصرين إضافيين مقارنة مع تجربة ما قبل 1975. أولهما تحرير التبادل التجاري مع الخارج الذي حققته حكومة الرئيس الحريري الرابعة عام 2000. وهو تحرير كان من شأنه الإجهاز على القطاع الصناعي أو ما بقي قائماً منه بعد 1990.
والعنصر الآخر هو وضع السياسيين يدهم على الإدارة العامة وإفراغها بالكامل من مقدرتها الإدارية. وهي لم تعد سوى ميداناً لـ «الممارسات الإجرامية» ممثّلة بالفساد السياسي والإداري.
وكان لا بد من إنهاء العرض حول تجربة لبنان التنموية بعرض حول الأزمة المالية الراهنة التي تقتلع لبنان من جذوره. وهنا كان التركيز على تطور مكوّنات ميزان المدفوعات وتحوّل الفائض فيه على مدى عقدين بعد 1990 إلى عجز خلال العقد الأخير. وأعطى ذلك مبررات للمؤسسات الخارجية، أي «الصندوق» و«وكالات التصنيف» للتعبير عن مواقف أسهمت في هروب الودائع واندلاع الأزمة.
ووفّر استخدام مساهمة غابرييل بالما الهامة حول سوء استخدام التدفقات المالية الخارجية كسبب للأزمات المالية قراءة مقارنة، تمّ اعتمادها لقراءة الأزمة المالية في لبنان.