كان الانفصال بين الأنظمة القمعيّة والناس في المنطقة العربيّة جليّاً منذ عشرات السنين، ولا يختلف هذا الوضع بين الأنظمة المطبّعة وتلك الممانعة، إذ لا يمكنك أن تشير إلى رضى الناس عن نظام وحاكم إلّا إن كانوا أحراراً بتغييرهما ولم يفعلوا. وجود كيان استعماريّ معاصر يتوسّع وحيّ كإسرائيل في أيّ منطقة في العالم هو تهديد لسلام وحياة سكّان تلك المنطقة وثرواتهم، ولا يشكّ في ذلك إلّا مَن كان قابعاً في جهلٍ أو فاقداً للعقل، أو مستسلماً في دونيّة تجاه المستعمِر، أو مؤجّراً نفسه لمن يستأجر. فلسطين ليست قضيّة الفلسطينيّين وحدهم، بل هي قضيّة شعوبنا المهدّدة من الاستعمار الصهيونيّ المزروع والمحميّ من المستعمر الأميركيّ والأوروبيّ، ومن لم يعرف ذلك يهدّد بنفسه مستقبل شعبه؛ ومَن يظنّ أنّ البحبوحة ستفيض في ساحات التطبيع، عليه أن يتأمّل مليّاً في زواريب الفقر وكوابيس الأزمات الاقتصاديّة في مصر والفقر في الأردن وغيرهما، فالمنطقة العربيّة هي المنطقة الوحيدة في العالم، حيث الفقر ازداد منذ عام 2010 (إحصائيّات برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ، أيلول 2023)؛ أمّا حصريّة بحبوحة الدول الخليجيّة المطبّعة فتأتي من بواطن الأرض وليس من التطبيع.
الشعوب العربيّة، كما تدلّ الإحصائيّات الرصينة، بغالبيّتها العظمى تكره التطبيع وتلفظ الكيان الاستعماريّ الصهيونيّ لأنّ حسّها الإنسانيّ حيّ، مهما بطش البطّاشون، ورشا الراشون، وسجن السجّانون. كما لم يتسرّب التطبيع إلى المدى الشعبيّ في مصر، لم تدعه الشعوب العربيّة يتسرّب إلى ضميرها؛ فقد يغصب الحاكم الناس للتهليل له، ولا يستطيع أن يغصب الضمير الشعبيّ للقبول بالتطبيع. لهذا فإنّ المجموعات الصغيرة التي تقود حركات المقاطعة في البلاد العربيّة لا تعتمد على نفسها وذكائها فقط، بل تعتمد أساساً على هذا الضمير الشعبيّ، تعتمد على الرفض الفطريّ للظلم الذي يشعر به كلُّ إنسان لم يتخدّر حسّه؛ فهناك شيء في الإنسان يلفظ الظلم ولا يمكنه أن يتآلف معه. يعتمد الملتزمون بحركات المقاطعة على أنّ الحسّ الإنسانيّ للغالبيّة العظمى من البشر يميّز بين الحقّ والظلم ويلفظ الأخير؛ لذلك يعرفون أنّهم لا يحتاجون كالأنظمة إلى مليارات لأنّ كلّ ما يفعلونه هو إيقاظ الناس إلى قلوبهم، لا إقناعهم بعكس ما يشعرون به. قوة المقاومين بالمقاطعة تكمن في الحقّ الصاعد من أعماق النفس منذ الولادة، وفي أنّ معظم الناس مهما كانت تعرّجات حياتهم ومستوى أخطائهم وخطاياهم يرفضون الظلم ويحتجّون عليه، إن لم يكن بالفم وبالكتابة فبقرارة النفس والضمير. لهذا يفضّل المستعمرون أنظمةَ القمع لأنّ الإقناع ليس همّهم وإنما يهتمّون بقيادة البلاد نحو حتفها واستغلال ثرواتها، وهذا ممكن فقط في ظلّ أنظمة قمعيّة يمكن للمستعمرّ أن يحكّم بثلّة من حكّامها الخاضعين.
الأنظمة تتبدّل، والحكّام الخونة يموتون وعادة ما تذكرهم شعوبهم بالبصاق واللعنات، ولا يموت حسّ رفض الظلم، ينبغي فقط ألّا تموت مجموعات المقاطعة مهما مرّت بصعاب، فسطح الإعلام المطبّع لا يعكس عمق طموح الشعوب ولا آمالها، والإحصاءات التي تلفظ التطبيع تشهد.
حين يطبّل المطبّلون للتطبيع القادم سنكون مجتمعين لإفشال مخطّطاتهم، نحن الذين نحمي شعورنا الإنسانيّ من الوحشيّتين، تلك السافرة وتلك المقنّعة، للحكّام والمستعمرين. سنكون مجتمعين نحن الذين نحمي أنفسنا من حزننا على فلسطين، ونوقد من الحزن حطب الغضب لكي نعمل بلا كلل من أجل كرامة الفلسطينيّين وكرامتنا على هذه الأرض. لذلك يعمل معنا كلّ مَن يؤمن أنّ كرامة كلّ إنسان لا يمكنها أن تعني يوماً سحق كرامة آخر. سنكون مجتمعين مع رغبة قلوبنا بالحرّية والحقّ، نحن الذين تُهاجم كرامتُنا كلّ يوم ويريد لنا المستعمر أن نكون خارج التاريخ، نحن الذين نخطّ لتاريخنا الطويل مساراً في هذا التاريخ، عبر فلسطين، كلّ فلسطين. فطريق كلّ بلد عربيّ تمرّ من فلسطين، وطريق كلّ إنسان عربيّ إلى ذاته تمرّ من فلسطين. هذا التاريخ تاريخنا، وهو لنا.

* كاتب وأستاذ جامعي