منذ أيام وأنا أحاول الكتابة عن المستشفى المعمداني، ولم أتمكّن من ذلك. حدثت المجزرة منذ أيام، وشعوري بها أنها تحدث الآن، والآن أشاهد المؤتمر الصحافي لوزارة الصحة بين الجثث.أخبرت صديقة عن هذا الشعور، وكانت إجابتها أن كل ما حدث ويحدث كبير، فأجبتها، لكن الموت المكثّف أشد وطأة، فقدنا 471 شهيداً معاً. وعن بعد أيضاً، غزة نفسها تكثيف لفلسطين على مرّ أكثر من 75 عاماً. هذا التكثيف الهائل للتاريخ حين يكون في جغرافيا صغيرة على الخريطة، يضع المرء أمام تساؤلات ليس من السهل نطقها أو كتابتها، بعضها جارح ويدخل في الجروح المأزومة منذ وقت طويل.
(ليلى حمزة)

اليوم تعيد غزة فلسطين إلى الواجهة، وتجدّد وعي الجماهير في العالم العربي، ووعي الأحرار في العالم، وتقوم بفرز عظيم، بين من يقف مع الحق ومن يقف مع الباطل، حتى وإن ادّعى الرمادية، أو القول بأنه مع الحق مضيفاً «لكن». هذه الجغرافيا التي دأبت إسرائيل على تلطيخها بالدماء، تدفع المرء للتأمل في حاله، في مدى فعله وفاعليته، وفي مدى أهليته لأن يكون جزءاً من مشروع فلسطين الكلي.
غزة هي تكثيف، لأن فلسطين الكاملة داخل الجغرافيا وخارجها، موضوع لم يعد أولوية لدى كثيرين، ولم تعد دول عدة معنية بالقضية مكترثة به، وتتعامل معه باستخفاف هائل. يصاب المتابع أحياناً بالدهشة، حين يتذكّر مواقف بعض تلك الدول، لكن ومع حدث غزة - فلسطين، عاد الجميع لينظر إلى نفسه بانتباه، وليكتشف كم الوهم الذي عاشه وبنى عليه أفكاره وسياساته ورؤاه، وليتأكد أن فلسطين ليس بإمكان أحد زحزحتها عن الصدارة في الانتباه والبناء والتعامل، وليس بإمكان أي حكومة أو نظام أو منظمة أو أكاديمي أو كاتب أو صحافي أو أي أحد، التعامل معها على أنها قضية منتهية أو شارفت على الانتهاء. ما تفعله هذه القضية لمن يفهم ويقرأ جيداً، أنها تقلب الطاولة على الجميع، وتخربط أوراق واحتمالات ومخططات الجميع، وترفع رايتها عالياً لمن يرى، ومن عماه الوهم، تتركه وراء ظهرها كأنه لم يكن، وهذا ما حصل ويحصل وسيحصل.
لماذا كل هذا، لأن هذه الفلسطين التي تقوم عنها غزة هذه المرة، جرحت، وبُترت منها الأعضاء، وظلت تنجب نفسها من جديد، بهية قوية عالية لا علو فوقها والكل تحتها. نُكبت وتهجّر شعبها «أشلاء» فعاد، طُرد من بلدان عدة ليكون «أشلاء» من جديد، وعاد، اجتمعت عليه وعليها بعض العرب وبعض العجم، وسُوّي جمعهم مراراً وما أحسّوا بالأمان، ولا استقروا ولا استكانوا، ولا عاشت إسرائيل رخاء تدّعيه لنفسها ولشعبها، وها نحن الآن نرى.
صحيح أن اليوم ليس كما كان من قبل، وما حدث في 7 تشرين الأول، هو الأول من نوعه وقوته ونتائجه الأولية، وليست ممكنةً معرفة نتائجه النهائية، فالميدان هو الذي يحدد، لكن على الأقل، نرى عرباً لم «يطيعوا رومهم» ولم «يبيعوا روحهم» على الأقل بفعل «المعجزة الفلسطينية» التي نادى الشاعر محمود درويش يوماً بها: «وحّدنا بمعجزة فلسطينية». ما حدث في ذلك اليوم الذي سيبقى في ذاكرة الجميع، أربك الجميع، أفشل وأربك مخططات عدة منها التطبيع، وقد يكون دفنها، حسب الأكاديمي الفلسطيني رشيد الخالدي، وأظهر للشعوب العربية، وهي الأهم، أن الذي يسرب إليهم منذ سنين عن هذه الدولة المحتلة، ليس أكثر من وهم كبير، توهّمته حكوماتهم. ونتيجة هذا الوهم أيضاً نراها اليوم، ونرى أن شعوباً طبّعت حكوماتها خرجت إلى شوارع مدنها، وهتفت باسم واحد، فلسطين.
فلسطين هذه، هي غزة المكثّفة بشهدائها الذين تجاوز عددهم هذه المرة أكثر من 4000، وهي الضفة بشهدائها الـ 81 حتى مساء أمس، وهي الأراضي المحتلة سنة 48 التي لم تتمكن ماكينة إسرائيل من أسرلة سكانها، وهي الفلسطينيون في الخارج الذين ينجبون الأطفال بكامل فلسطينيتهم، وهي كل عربي وحر في العالم يقف مع جهة واحدة بيضاء ناصعة، هي فلسطين.
يحدث هذا كله أمام عدو، ربما يعرف فلسطين والفلسطينيين جيداً، لكنه وإن عرف ما فعله بهم، فهو لم يعترف، وطالما أنه لم يعترف بجريمته، فلن يعرف على الإطلاق ما الذي سيفعله هذا الشعب به، ولن يعرف ما الذي ستفعله فلسطين بالعالم وبه.
* كاتب فلسطيني