البَعض عرَّف الانتصار بـ«تحقيق الهدف»، وبناءً على هذه النظرية، يكون الانتصار في معركة «طوفان الأقصى» هو تحقيق الأهداف المعلنة وغير المعلنة. هذه الحرب التي أطلقت عليها إسرائيل مسمّى «السيوف الحديدية»، وكسّرت خلالها كل قواعد المجابهة والمفاهيم العسكرية، بصبّ جام حقدها وبطشها وجبروتها على البيئة الحاضنة للمقاومين الفلسطينيين في غزة، منفذة جرائم حرب غير مسبوقة، أوغلت وتوغل في الدم الفلسطيني من نساء وأطفال وكبار سنّ ومدنيين بعشرات الآلاف بين شهيد وجريح، فضلاً عن الدمار الممنهج والشامل والواسع والعنيف والمكثف لكل مظاهر الحياة والبقاء في قطاع غزة، حاولت بها ترميم شظايا صورتها التي هشّمتها بشكل كبير «الضربة الأولى» يوم 7 تشرين الأول.في المقابل، هناك صمود أسطوري يكاد يكون غير مسبوق بين الشعوب والأمم، فأهل غزة، رغم شلال الدم الهادر، وحرق الأرض من تحتهم، والسماء من فوقهم، يقدّمون أسطورة في الثبات والتمسّك بالأرض، والصبر المنقطع النظير، حتى بعد مرور أكثر من عشرين يوماً.
لقد وضع وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت ثلاثة أهداف لهذه الحرب، أو ثلاث مراحل لها: الأولى، القصف الجوي العنيف وغير المسبوق على قاعدة «التدمير السجادي» أو سياسة الأرض المحروقة. الهدف منها هو تفتيت وتدمير البيئة الحاضنة للمقاومة بشراً وحجراً، في محاولة يائسة حتى الآن لتهجير شعب غزة ودفعهم للنزوح إلى سيناء، لتنفيذ مخطط قديم جديد، عشّش في رأس حكام إسرائيل، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو. وذلك تمهيداً للمرحلة الثانية، وهي التوغل البري الذي يراد منه تنفيذ هدف الحرب المتمثل بالقضاء على «حماس»، وتقويض حكمها في غزة. أمّا المرحلة الثالثة، فهي إنشاء حكم لمن يتبقى من سكان قطاع غزة وجغرافيتها، طبعاً بترتيبات إسرائيلية جديدة تغلق الحدود كلياً بين القطاع وإسرائيل، بعد اقتطاع جزء من القطاع (يعتقد أنه الجزء الشمالي) ليكون بمثابة عمق لمستوطنات «الغلاف» في شمال القطاع، مع ضمه لإسرائيل بعد تفريغه تماماً من الفلسطينيين.
ثلاثة أسابيع من المعركة ولا يزال الدّوار والارتباك والترنّح في رأس إسرائيل، ولا تزال المقاومة سيّدة الميدان


هذه هي الأهداف، وهذه هي المراحل كما أشار إليها غالانت، وتوقع أن تستغرق ثلاثة أشهر أو أكثر لتحقيقها، بحسب مقتضيات الحرب وتطورها. لكن الواقع والممارسة دائماً ما تكون بعيدة عن النظرية. المهم في هذا الشأن أن تحقيق الانتصار الذي تطمح إليه إسرائيل يتضمن النجاح في تحقيق أهداف المراحل الثلاث. في المقابل، الانتصار بالنسبة إلى المقاومة، وإلى الشعب الفلسطيني بشكل عام، وإلى العرب والمسلمين وكل الأحرار، هو عكس ما تحلم به إسرائيل، ويمكن استعراض تلك الثلاثية من واقع الفعل الفلسطيني المقاوم بموازاة الأهداف الإسرائيلية التي تمّت لغاية الآن، والتي يستعدّ لها على النحو الآتي:
- المرحلة الأولى: النقطة الأولى في هوية الانتصار لهذه المرحلة هي المبادرة، بمعنى البادئ في الحرب أو المعركة، الضربة الاستباقية، هذه النقطة كانت بيد المقاومة، وقد حققت فيها نسبة نجاح بتفوّق أبهر القريب والبعيد، وكشفت سوأة إسرائيل في كل المجالات، ولا يزال صدى هذا التفوق والاقتدار يدوّي في كل الأرجاء، ولا يزال الترنح والاهتزاز يصيب جسم الدولة العميقة للكيان في كل مجالاتها الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية. أمّا ردة الفعل الهوجاء لجيش الاحتلال، وما يفعله لغاية الآن، عجز في ترميم صورته المنهارة أمام شعبه وأصدقائه وحلفائه والعالم. على العكس، تصرفات إسرائيل الوحشية ضد سكان قطاع غزَّة المدنيين أخذت وتأخذ من رصيد التعاطف الدولي الذي كان معها في البداية، حتى في عمق الحكومات والمجتمعات الغربية التي تضامنت معها في بادئ الأمر. من هنا نقول: ثلاثة أسابيع من المعركة، ولا يزال الدوار والارتباك والترنح في رأس إسرائيل، ولا تزال المقاومة سيّدة الميدان، تمسك بناصيتها، ولا يزال رموزها وقادتها وهياكلها العسكرية والإدارية ومقاتلوها متحفّزون للقتال ولا يصلهم الاستهداف، بل إنهم ينفذون غزوات على امتداد خطوط المواجهة، ويرشقون كل المدن والبلدات والتجمعات والأبعاد الإسرائيلية بحزم الصواريخ، في المديات كافة.
- المرحلة الثانية: وهي مرحلة الهجوم البري، الذي يبدو التردد هو سيّد الموقف فيه، والسبب الرئيسي في ذلك هو جهل وضعف المعلومات الاستخبارية في جعبة إسرائيل عن المقاومة وإمكاناتها وقدراتها وخططها الدفاعية. وأظن أن الهجوم البري سيحدث على الأغلب، حتى لو بالتدريج البطيء المتثاقل، من منطلق الخيار المحتوم الذي لا مفرّ منه، وليس من مفهوم البطولة والإقدام. لكنه أيضاً محفوف باحتمال كبير أن تكون ضربة ثانية أشد قسوة من الضربة الأولى على جيشه وحكومته، فتكون النتائج أكثر أثراً ووطأة على إسرائيل وجيشها من الناحية الاستراتيجية، وبالتالي إضافة إخفاق ثانٍ مدوٍّ يضاف إلى الإخفاق الأول الذي لم تتحمله إسرائيل. وفرضاً أن نجح الجيش الإسرائيلي، ولو بنسبة معينة ومن معه من خبراء وكتائب أميركية مختارة في تحقيق جزء من ذلك الهدف، فإنه سيكون قد غرق في أوحال غزة التي لن يقدر على دفع فواتيرها، وسيضطرّ لاحقاً إلى جرّ ذيول الانكسار والخروج منها تحت النار، كما خرج منها سابقاً، وكما خرج من جنوب لبنان، وبذلك يخسر أهداف المرحلة الثانية.
- المرحلة الثالثة: وهي الإتيان بمن سيقود غزة من بعد تقويض حكم «حماس» والقضاء عليها، وأعتقد أن هذه المرحلة فاشلة قبل أن توضع، فهي أقرب إلى الخيال والوهم منها إلى الحقيقة، وهذا الأمر يدركه حتى الراعي الأميركي الحليف الأكبر لإسرائيل؛ فأميركا، رغم تأييدها الجارف لإسرائيل والوقوف معها بكل ما أوتيت من قدرات، قالت: «لا لاحتلال غزة»، فلا يمكن لأي جهة فلسطينية أو عربية، أو حتى دوليّة، أن تأتي على حطام قطاع غزة وتدير شؤون السكان والجغرافيا، لا مؤقتاً، ولا دائماً.
من هنا، ومن خلاصات المراحل الثلاث، نستنتج أن عوامل النصر الإسرائيلي هشة وضعيفة، بينما عوامل الانتصار الفلسطيني قوية وثابتة، وخاصة إذا ما أُضيف إليها إسناد المحور وقواه المترامية التي تعدّ ذخراً لم تستخدم قدراتها في المعركة حتى الآن بالشكل المطلوب.

* كاتب فلسطيني