في كلّ الحروب السابقة التي شنّتها «إسرائيل» ضد حركات المقاومة، سواء في فلسطين أو في لبنان، كان الهدف منها هو القضاء على هذه الحركات بشكل نهائي، فدائماً ما كان يطمح الجيش الإسرائيلي لوضع حدّ نهائي لهذه الحركات، إلا أنه كان يصطدم بتعقيدات وإشكاليات تتجاوز أهدافه وإمكاناته. منذ اللحظات الأولى لعملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر، بدأت الصحف الغربية تصدح عن قصد بسرديات مفادها أن عملية «حماس» بمثابة 11 أيلول بالنسبة إلى الإسرائيليين، والبعض شبّه العملية بالهجوم الذي تعرّضت له قوات الولايات المتحدة الأميركية في ميناء بيرل هاربر من قبل القوات اليابانية في عام 1941، وما أسفر عنه من تداعيات كارثية على اليابان. وآخرون ذهبوا إلى تشبيهها بحرب أكتوبر 1973، عندما غافل الجيش المصري والجيش العربي السوري الجيش الإسرائيلي بهجوم مضاد بهدف استعادة أرض سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية المحتلتين منذ عام 1967.
إنّ تشبيه عملية «طوفان الأقصى» بـ11 أيلول، وبالهجوم على بيرل هاربر، يهدف إلى تشكيل رأي عام عالمي يقبل، بأن «إسرائيل» تتعامل مع منظمة إرهابية يجب اجتثاثها بأيّ ثمن، وأن الردّ سيكون غير متناسب على الإطلاق، حتى لو أدّى ذلك إلى ارتكاب مجازر وحشية يندى لها الجبين. وهذا من شأنه أن يبرّر أعمال «إسرائيل» الوحشية ومموّلتها الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية النافذة مثل ألمانيا وفرنسا.
في الواقع، إنّ العملية التي قامت بها «حماس» لا تشبه إلا نفسها، وخصوصاً إذا تفحّصنا السياق التاريخي بشكل دقيق. يرى روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لشركة «سيغال» في معهد واشنطن، أنّ الهجوم المصري والسوري المشترك على القوات الإسرائيلية الموجودة في سيناء والجولان كان في أراضٍ محتلّة، في حين كان هجوم «حماس» الخفي على «المجتمعات الإسرائيلية» عبر حدود غزة. بالنسبة إلى ساتلوف، إنّ الهجوم السوري المصري على القوات الإسرائيلية في عام 1973 كان هدفه تغيير الوضع الجامد، وذلك سعياً لتحقيق السلام، ويُعدّ انعكاساً لمقولة كلاوزفيتز: «الحرب هي امتداد للسياسة لكن بوسائل أخرى». أمّا في ما يتعلّق بالحرب مع «حماس»، فـ«إنها حرب حتى النهاية، وليست لها علاقة بالسياسة». الغريب أن ساتلوف ينكر أن «حماس» تمثّل أكبر قاعدة شعبية في غزة، وأنها ليست معزولة عن المجتمع، بل هي الحركة الأكثر فعالية على كل المستويات في القطاع.

أهداف «إسرائيل» المعلنة: هل هي قابلة للتطبيق؟
بعد عملية 7 أكتوبر، خرجت الحكومة الإسرائيلية لتقول لمستوطنيها والعالم إنها ستقضي على «حماس» عسكرياً وسياسياً، علماً أن هذا الهدف غير واقعي وغير قابل للتنفيذ، ويعود ذلك لعدة أسباب، أهمها:
أولاً، إن «حماس» والفصائل الأخرى تعبّر عن فكرة المقاومة الفلسطينية المتأصّلة، والفكرة أقوى من أي شيء، فعندما تعلن حكومة نتنياهو أن الجيش الإسرائيلي «سيسحق» أو «سيقضي» على «حماس»، ندرك أن مثل هذه الجمل هي إنشائية محض، ولا يمكن ترجمتها في الميدان.
ثانياً، إنّ قوة «حماس» والفصائل الأخرى تتجلّى في الأسلوب غير المتناظر في القتال، إذ تملك المقاومة الفلسطينية في غزة شبكة أنفاق تمكّنها من الصمود من جهة، ومن شنّ عمليات هجومية خلف خطوط العدو من جهة أخرى،فضلاً عن المُسيّرات والقذائف الصاروخية والأسلحة الخفيفة والمتوسّطة والصواريخ ضد الدروع التي تمتلكها. إنّ حركات التحرّر التي تفتقر إلى الإمكانات المادية والعسكرية سوف تنتصر بفضل مشروعية القضية أولاً، وبالاستماتة للدفاع عن الوجود ثانياً. لذلك سوف يرتدع العدو الإسرائيلي وينكفئ ولو بعد حين.
ثالثاً، حاول الإعلام الغربي والإسرائيلي منذ بداية الحرب، أن يطابق بين أعمال المقاومة الفلسطينية في غزة وأعمال الجماعات الإرهابية بهدف شرعنة الأعمال الحربية الإسرائيلية والدعم الأميركي. لكن سرعان ما بدأنا نشهد تظاهرات تدين «إسرائيل» في غالبية الدول العربية والإسلامية، بل حتى امتدت التظاهرات المندّدة بالعدوان الإسرائيلي إلى عواصم القرار الغربي الذي يؤيد العدوان على غزة. يرى كل من ساتلوف ودينيس روس (المساعد الخاص السابق للرئيس باراك أوباما) أنّ «إسرائيل» خسرت معركة الرأي العام تحت ضغط الاحتجاجات الحاشدة في الشوارع، بل يمكن أن تكون قد خسرت الملايين من غير المعادين للسامية، وهم أشخاص من ذوي النوايا الحسنة الذين رأوا ما حدث في 7 أكتوبر، وشاهدوا ما حدث منذ ذلك الحين، ويعتقدون أن «إسرائيل» تتحمّل قدراً كبيراً من المسؤولية عن ما يحصل في غزة، وأن هناك خللاً بنيوياً في السردية الإسرائيلية.
رابعاً، ترتكز النظرية الأمنية الإسرائيلية على عدة عناصر: الردع، والإنذار، والحسم، وحماية الجبهة الداخلية. إنّ عملية 7 أكتوبر الإستراتيجية، أسقطت هذه النظرية، فلم يكن لدى العدو الإسرائيلي أدنى فكرة عن الهجوم، ولم يستطع أن يردع المقاومة الفلسطينية عن الفعل، ولا حتى أن يحمي الجبهة الداخلية. أمّا مسألة الحسم السريع فمرهونة بالأيام القادمة. إنّ عامل الزمن هنا ليس شيئاً ثانوياً، فكلما طال أمد الحرب واشتدّ وطيسها، ازدادت الضغوط على «المجتمع الإسرائيلي» وعلى حكومة نتنياهو لوقف الحرب.
أخيراً، تكمن قوة المقاومة الفلسطينية أيضاً في انتمائها إلى المحور المتمثّل بإيران وسوريا وحزب الله واليمن والعراق. فمنذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر، بدأنا نشهد هجمات صاروخية يشنّها حزب الله على مواقع إسرائيلية في جنوب لبنان، كما تتعرّض بعض القواعد الأميركية في العراق وسوريا من حين إلى آخر إلى هجمات من قبل المقاومة الإسلامية العراقية. وفي الآونة الأخيرة أطلقت القوات المسلّحة اليمنية عدداً من المُسيّرات والصواريخ الباليستية، مستهدفة العمق الصهيوني، وتعهّدت بأنها ستواصل عملياتها العسكرية حتى يتوقف العدوان الإسرائيلي على غزة. إذا شعر محور المقاومة بأن «حماس» وغيرها من الفصائل تتعرّض لحملة إبادة، فهذا سيحتّم عليه أن يتدخّل، فهذه من الخطوط الحمراء التي لا يُسمح بتجاوزها حتى لو أفضت إلى حرب إقليمية. إن التصعيد التدريجي الذي يعتمده محور المقاومة، هو بمثابة رسالة تحذيرية لـ«إسرائيل» والولايات المتحدة من أن الحرب على غزة يمكن أن تعرّض «إسرائيل» لخطر وجودي.

خاتمة
كثرت التحليلات والتأويلات حول ما ستؤول إليه الأمور في هذه الحرب. بالنسبة إلى المقاومة الفلسطينية،
إن هدفها الأساسي كان ولا يزال هو حماية المسجد الأقصى من التعديات، وإطلاق سراح جميع الأسرى أو على الأقل أغلبهم، ويمكن لهذين الهدفين أن يتحقّقا، وهذا يذكّرنا بالحرب الإسرائيلية على لبنان في عام 2006، إذ خرج حزب الله منتصراً ومحقّقاً هدفه المتمثّل بإطلاق سراح جميع الأسرى اللبنانيين من سجون العدو، مع الفارق هنا، أننا نشهد في الحرب الحالية عملية قتل غير مسبوقة للمدنيين في غزة. أمّا بالنسبة إلى العدو الإسرائيلي، فقد أعلن عبر قادته أن هدفه من هذه الحرب هو تدمير «حماس» عسكرياً وسياسياً، بيد أن هذا الأمر لا يمكن تحقيقه كما أسلفنا سابقاً، إلا أنّ الجيش الإسرائيلي يقوم بعملية برية محدودة الآن، وذلك في محاولة معرفة مصير أسراه، كما يمكن أن ينفّذ في الأيام القادمة عمليات إنزال نوعية في غزة بهدف أسر قادة ومقاتلين من «حماس» لأجل رفع معنويات جيشه ومستوطنيه من جهة، ومن جهة أخرى لتكريس انطباع عند الحلفاء والخصوم والأعداء بأنّ الجيش الإسرائيلي ما زال بخير.
في نهاية المطاف، إنّ إصرار «إسرائيل» على هدفها بتدمير «حماس» حتى النهاية يمكن أن يفضي إلى حرب إقليمية من شأنها أن تعيد النظر في وجود «إسرائيل» في المنطقة، أو يمكن أن تؤول مخرجات العملية البرية الإسرائيلية إلى استدامة الستاتيكو الميداني الحالي المشابه لما حصل في العراق وأفغانستان، فقد نشهد تقدّماً عسكرياً برياً لكن بكلفة باهظة جداً، إذ لا يمكن للرأي العام الإسرائيلي أن يتحمّله. بعبارة أخرى، لا يمكن للجيش الإسرائيلي أن يدخل معركة استنزاف طويلة الأمد.

* باحث لبناني