الحديث ليس حول الحدود الجغرافية التي نراها على الخريطة، هذا القطاع الذي ليست له حدود إلا مع مصر، وكل ما تبقّى، وما اعتادت بعض وسائل الإعلام على دسّه وترويجه، وبعض الإعلام الذي وقع في الفخ، ليس حدوداً على الإطلاق، إنما هو امتداد لأرض فلسطينية-فلسطينية.الحديث هنا حول ما يجعل لقطاع غزة حدوداً خارج القارة الآسيوية، وخصوصاً في القارتين الأميركية والأوروبية، ولم تكن عملية «طوفان الأقصى» التي نفّذتها حركة «حماس» في السابع من تشرين الأول الماضي من خطَّ هذه الحدود، يمكن القول، إنها صارت حدوداً منذ خطّط وتواطأ العالم لاغتصاب فلسطين، أرض بكامل أهلها وتاريخها، وإقامة إسرائيل.
منذ ذلك الحين، وعلى مدى ما يقارب الثمانية عقود، لم ينقطع الدعم والتدخل الغربيان وإن تبدّلا من راعٍ أوّل إلى آخر، لينتقلا من بريطانيا حيث وعد بلفور، إلى الولايات المتحدة الأميركية وليستقرا فيها، فهناك اللوبي الصهيوني الأقوى، والأمر ليس صدفة، فهناك إدارة عجيبة يتقاسمها جنرالات الحروب مع صانعي السلاح وأباطرة النفط، وما يأتي معهم من شركات مال فوق المتغوّلة.
ما الذي تغيّر لنرى الآن هذا التدخّل الغربي المباشر (وهو ليس الأول لكنه قد يكون الأقوى) في حرب على قطاع لا تتعدّى مساحته 365 كيلومتراً مربعاً، ولتفتح الولايات المتحدة جسراً جوياً، ولترسل قطعاً بحريةً وخبراءَ وعتاداً وذخائر إلى «حدودها» مع هذا القطاع، ولتعلن كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا وأستراليا وغيرها مواقف مماثلة وإن كان بأسقف مختلفة وأقل انخفاضاً؟ ما الذي تغيّر لتصمّ بوقاحة عواصم هذه الدول آذانها عن صراخ الغضب لعشرات الآلاف من مواطنيها، الذين ملؤوا الساحات تنديداً بجرائم الإبادة الإسرائيلية التي لم تتوقف بحق الأطفال والنساء والمسنّين في قطاع غزة المحاصر، بموافقة ومشاركة حكومات هذه الدول منذ عام ألفين وستة؟
الأسباب كثيرة، لكن أهمّها من دون شك هو عجز هذا الكيان، بُعدُ جيشِهِ عن تحقيقِ الإنجازات، بَعدَ أن أثبتت المقاومة أن أي حديث له عن الحسم أضحوكة، ضُعفُ الجيش الذي لم يعد كثيرون من عناصره وضباطه الكبار يثقون بقدرته، رغم ما يمتلكه من ترسانة عسكرية متطوّرة جداً كان من المفترض أن تَضمن التفوق براً وبحراً وجواً على الدول العربية غير المجتمعة، وقد ساهمت الحروب السابقة في تعزيز «أسطورة» هذا الجيش، الذي قاتل مرةً وحسم فيما المستوطنون يعيشون حياتهم الطبيعية من غير أن يسمعوا صوت طلقة واحدة. هذا التفوق الذي صدّقه المستوطن وصدّقه جيش الحرب الإسرائيلي ونام على أمجاده، كان من أهدافه أن تصدّقه قيادات الكثير من الدول العربية وتنام على انكساراتها، ليصير التطبيع، من وجهة نظرهم، أمراً طبيعياً، وتحقيق ما يسمى السلام مع الكيان إنجازاً، ولتضاف إلى «كامب ديفيد» و«مدريد» و«أوسلو» و«وادي عربة» أسماء جديدة، تضمن لهذا الكيان إبعاد كل حركات المقاومة والرفض الشعبي العربي والإسلامي عنه، لأن ذلك سيكون مسؤولية حكومات هذه الدول.
منذ «طوفان الأقصى» المميز والصمود البطولي لرجال المقاومة، أيقن المسؤولون في واشنطن ومن معهم في عواصم غربية أخرى، أن هذه المواجهة مختلفة، ليس فقط لأن عملية المقاومة جاءت مختلفة، لكن لأنها فضحت كم أن هذا الجيش وكل استخبارات الكيان عاجزون وهزيلون، في ظل حكومة هجينة ومأزومة، وتأكدوا أنهم إن تركوا مجريات الميدان للمقاومة والإسرائيلي فقط، فستكون النتائج كارثية على الكيان وعليهم، لهذا تدخلوا مباشرة، ليقاتلوا على «حدود» وداخل قطاع غزة، ولأن انكسار كيانهم الربيب عند «حدود» القطاع، سيعني خسارتهم المضاعفة عند حدود أخرى في الإقليم، الذي تواصل بعض دوله رفض وقتال مشاريع الهيمنة الأميركية.
نعم، ساحات المواجهة معقّدة ومترابطة، لكنني لا أريد، ولا أحاول إطلاقاً، الربط أو القول، إن ما يجري في قطاع غزة هو معركة دول كبرى مع أخرى إقليمية، كما نسمع ونرى على بعض الفضائيات، التي جنّدت «خبراء» في الغمز واللمز، «خبراء» عسكريين تفوح منهم روائح الهزائم التي عشّشت في قلوبهم ونفوسهم، ويقومون بواجبهم في محاولة إحباط العزائم على أكمل وجه، وكذلك تجنيد «خبراء» سياسيين وحقوقيين لا يزالون يتحدّثون عن حقوق الشعب الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية في سياق حل الدولتين، وبالطبع كل ذلك تحت عنوان القرارات الدولية، رغم أن أياً من هذه القرارات لم يجد مرة طريقه على أرض الواقع، بسبب الاعتداءات والانتهاكات والسياسات الإسرائيلية الممنهجة والمعتمدة لتفريغ أي قرار من محتواه، والأهم، رغم كل هذه الدماء التي سُفكت ولا تزال تُسفَكُ يومياً.
في الكيان الإسرائيلي هناك ما يُسمى بـ«حرس الحدود»، لكن أيُّ حدود؟ ونحن نرى عناصره في محيط المسجد الأقصى وعند بواباته، أمّا أن يأتي الأميركي وكل من معه ليقاتلوا في قطاع غزة، فهؤلاء جاؤوا ليقاتلوا عند حدودٍ لهم غير التي نقرؤها فوق الخرائط، وما يريح القلب أن من يقاتلهم في القطاع يقاتلهم من أجل القطاع وكل حبّة تراب على امتداد فلسطين الطبيعية، وأن من يدعمونه ويقاتلون معه ليسوا قلة، من المضائق الخانقة حتى الشواطئ الشرقية للمتوسط، وكل هؤلاء، داخل فلسطين وخارجها، يجيدون قراءة الخرائط، والفلسطيني اليوم لا يتخلَّى كما تخلَّى البعض قبله عن مليمتر واحد لخريطة فوق ورق التفاوض.

* صحافي لبناني