إنّ القول الشهير بأن «نرمي إسرائيل في البحر» يتردّد على لسان المنتقدين قبل المؤيّدين، وعلى الرغم من عدم معقوليته في ظل الظروف والترتيبات الحالية إلا أنه يحمل فى طياته حقاً مشروعاً ومنطقياً، لأن إسرائيل منذ نشأتها وهي من تريد أن ترمي الفلسطينيين في البحر وتستولي على أرضهم عبر تطبيقها لنظام استعمار إحلالي مدعوم بإيديولوجيا عنصرية دينية. ونتيجة لذلك، فإنّ المقاومة ذات النزعة الدينية ليست فقط مشروعة بل مطلوبة في ظل الخصائص الثقافية والتاريخية للشعوب العربية والأساليب الأيديولوجية التي يستخدمها الاحتلال. لا مفرّ من الأيديولوجيا؛ حيث إنها تمثّل القالب والمعيار الذي يصنّف الأشياء ويضع لها التعريفات والمعاني المختلفة. فالبشر، على مدار حياتهم، يدخلون في علاقة غير مباشرة مع «الواقع» فينتج عن ذلك التفاعل عالم خاص بهم، ذلك العالم ليس العالم الواقعي، ولكنه عالم يندمج في داخله نوعان من العلاقات، علاقات خيالية وعلاقات حقيقية. وإذا كان الفرد هو الطرف الأول في تلك العلاقات، فالطرف الثاني هو الظروف المادية الحقيقية للوجود، وتلك بدورها تتألف من علاقات الإنتاج والوضع الطبقي وموازين القوة السياسية والقومية...، وتعبّر الأيديولوجيا عن تلك العلاقة بين الفرد و«عالمه».
يقول لويس ألتوسير إنّ الأيديولوجيا هي تمثيل خيالي للعلاقات الخيالية التي يدخل فيها المرء مع ظروف وجوده الواقعية؛ فالأيديولوجيا ليست وهماً، أو وعياً زائفاً سلبياً، أي إن لها دوراً فعالاً بارتباطها بالظروف الحقيقية.
ذلك يؤكد أن كل طرف متصارع في أي مجتمع يصوغ أيديولوجيته الخاصة بشكل يناسب مصالح الطرف في صراعه مع باقي الأطراف؛ فالرأسماليون لهم أيديولوجيتهم كما أن البروليتاريا لها أيديولوجيتها والاثنان يقع أحدُهما في تناقض مع الآخر، الأمر نفسه ينطبق على علاقة المُستعمِر بالمُستعمَر.
إنّ الإبادة الجماعية المستمرة حتى الآن في غزة والدعوة الصريحة لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، أو كما دعا وزير المالية الصهيوني إلى تشتيتهم في دول العالم، كل ذلك ذكّر الكثير من الكُتاب العرب بمصطلح «الاستعمار الاستيطاني الإحلالي» الذي لا يهدف إلى استغلال السكان المحليين في نظام يستحوذ على فائض القيمة والموارد الطبيعية كما حدث فى جنوب أفريقيا والجزائر، إنما يهدف إلى الاستيلاء على أرض السكان الأصليين وتهجيرهم أو إبادتهم. وفي ذلك تشابه الاستعمار الصهيوني ونشوء دولة إسرائيل مع نشوء الولايات المتحدة الأميركية، مع الفارق التاريخي الواضح الذي ليس مجرّد عدة قرون ولكن في أن الاستعمار الصهيوني قد حدث إبان صعود حركات التحرر الوطنى ووعي الشعوب المقهورة بذاتها وحقوقها ومن ضمنها الشعب الفلسطيني وتضامن شعوب العالم الثالث معه وخصوصاً الشعوب العربية التي تؤكد دائماً على وحدة مصيرها مع مصير الشعب الفلسطيني. كل ذلك خلق أرضية قوية للمقاومة يستحيل معها أن يتشابه مصير الفلسطينيين مع مصير الهنود الحمر.
إنّ الطابع الإحلالي للاستعمار الصهيوني هو الإطار العام الذي يعمل في داخله الاحتلال منذ بدايته وإلى الآن، هو الأسلوب الذي يظهر جلياً في اللحظات الفارقة فى تاريخ الاحتلال؛ أولاها بالطبع بداية مجيء العصابات الصهيونية إلى أرض فلسطين وتخطيطها للاستحواذ التدريجي على الأراضي ثم شن حرب لتأسيس دولة الاحتلال على أكبر رقعة من أرض فلسطين. وفي عام 1967 اعتمد الاحتلال أسلوب التهجير في الضفة الغربية ومدن القناة في سيناء والجولان السوري، وعلى مدار السنين وحتى الآن يسعى الاحتلال عبر مستوطنيه في تفتيت رقعة الضفة الغربية بهدف ضمها التدريجي إلى الدولة اليهودية. وهذا ما يحدث اليوم بعد التهديد الحقيقي الذي واجهه الاحتلال فى السابع من أكتوبر، فهو يحاول الآن الضغط على فلسطينيي غزة للهجرة إلى سيناء وإما أن يواجهوا خطر الإبادة الجماعية.
وهذا لا يمنع وجود أُطر أخرى حسب المرحلة التاريخية والأهداف الإستراتيجية التي ينفّذها الاحتلال تجاه الفلسطينيين والعرب؛ فيوجد نظام فصل عنصري داخل كيان الاحتلال حيث يتم استغلال ما يُعرف بـ«عرب إسرائيل» وحرمانهم من الأراضي والفرص المهنية والاجتماعية، وتوجد أيضاً علاقات استعمارية جديدة تعتمد على استغلال الموارد الطبيعية للبلدان العربية المجاورة وإجبارها على الانفتاح أمام السلع الإسرائيلية في عملية تبادل غير متكافئة عبر الاتفاقيات الاقتصادية غير العادلة.
ونتيجة تنوّع أساليب الاحتلال تتنوّع أيضاً الأيديولوجيات المصاحبة له، من الأيديولوجيا النيوليبرالية إلى أيديولوجيات السلام والمهادنة. وهذا يجعلنا نتساءل عن الأيديولوجيا العامة الحاكمة لمسار الاحتلال؛ فبناءً على الطابع الإحلالي، ترفض تلك الأيديولوجيا وجود الآخر من الأساس، فهي لا تدّعي فقط أن الآخر أقل شأناً أو أنه ليست لديه الحقوق نفسها أو أنه أقل ذكاء أو قوة أو جمالاً…، فكل ذلك يبرر وضع الآخر في مكانة تجعل منه مُستغلاً ومسلوبة حقوقه ولكن لا يشترط إبادة الآخر أو إنهاء وجوده، أمّا «الأيديولوجيا الإحلالية» فهي بالضرورة ترفض وجود الآخر لأن وجوده يشكّل تهديداً للكيان الإحلالي.
وأكبر ممثّل لهذه النزعة هو الأيديولوجية العنصرية الدينية التي تتبناها الدولة اليهودية منذ نشأتها وتظهر فى كل ممارساتها الداخلية والخارجية وفي القوانين والتركيبة السكانية والأدبيات الشعبية والأحاديث اليومية والأطماع الاستعمارية حتى في اسم الدولة وعلَمها ونشيدها الوطني.
في الواقع، عندما يقتل الصهاينة الفلسطينيين فهم لا يؤمنون في داخلهم بشكل واع بأنهم يفعلون تلك الأفعال «لأنهم مستعمرون إحلاليون»؛ فهذه فكرة تخص الواقع الموضوعي الملموس، إنما يؤمنون بشيء من قبيل: «إننا ندافع عن أرضنا التي هي من حقنا بناءً على الوعد الإلهي» أو «إننا نتوسع في امتلاك المزيد من الأراضي بناءً على الوعد نفسه» أو «إننا يجب أن نُهجِّر هؤلاء العرب المسلمين الذين يكنّون لنا الكراهية حتى نحمي أنفسنا» أو «إننا شعب الله المختار»… إلى آخره من الأفكار العنصرية الدينية التي ليست مجرد أوهام بل أوهام تحوّل اليهود إلى مستعمرين إحلاليين.
هذا بما يتعلق بجانب الاحتلال وأيديولوجيته، أمّا بالنسبة إلى المقاومة فتتنوع أساليبها بناءً على تنوع أساليب الاحتلال ولكن تظل المقاومة المسلحة ذات التخطيط العسكري هي المقاومة الأهم والأشد تأثيراً وباقي أشكال المقاومة تتكامل معها وتؤيدها وتزيدها قوة وتأثيراً؛ فبناءً على أن الشكل العام للاحتلال هو الشكل الإحلالي الإبادي الساعي دائماً وأبداً إلى التهجير فإن الشكل الوحيد لمقاومته هو الشكل العسكري.
بالنسبة إلى أيديولوجية المقاومة، فإن أي طرف أو جماعة لا تصنع أيديولوجيتها بشكل واع وحر أو تختار من بدائل عديدة، بل إن الأيديولوجيا تتكوّن بشكل مواز وتلقائي مع تكوّن الجماعة، وترجع طبيعة الأيديولوجيا ومحتواها إلى عدة عوامل أهمها أهداف الجماعة وتاريخها الثقافي والاجتماعي والأيديولوجيات التي تتبناها الجماعات المحيطة بها وبالطبع أهداف تلك الجماعات ومدى تأثيرها على الجماعة.
في ضوء ذلك يمكننا فهم لماذا تبنّت الصهيونية العالمية العنصرية اليهودية كواجهة أيديولوجية، ويمكننا أيضاً فهم الطبيعة الأيديولوجية للمقاومة ومكوّنها الديني؛ فكما أن للاستعمار الإحلالي وجهاً عنصرياً دينياً، فليس غريباً أن يكون للمقاومة وجه «تحرري ديني وقومي»، وهذا ليس استقطاباً هوياتياً لأن الجانب الديني للمقاومة لم يثنها عن مهامها التحررية بل زادها التصاقاً بالمهام، فإن نجاح التحرر الوطني يرجع إلى نجاح أي حركة مقاومة فى صياغة أيديولوجيا نابعة من خصائص وطريقة تفكير الجماهير المُقاوِمة وعدم التعالي على الجماهير وفرض أفكار مستوردة عليها بل اكتشاف الطريق «الخاص» للجماهير لكي تتحرر وتكتشف مسار حداثتها الخاص بها.
إنّ ذلك لا ينفي محاولات الإسلام السياسي لإفراغ القضية الفلسطينية من مضمونها التحرري عبر استخدام الدين إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل؛ فمحور المقاومة ومن ضمنه حماس وحزب الله قد خاض فعلاً صراعاً مسلحاً مع التكفيريين (داعش وجبهة النصرة وتنظيم ولاية سيناء) وقد انفصلت حماس عن جماعة الإخوان بشكل رسمي منذ عام 2017، والكثير من الدلائل تؤيد أن المقاومة ذات الوجه الديني ليست لها علاقة بالإسلام السياسي أياً كان شكله.
إنّ المثقفين الليبراليين وبعض اليساريين الذين لا يؤيدون المقاومة بحجة رفضهم لتديين القضية، في الواقع ترجع مشكلتهم إلى جذور أعمق تمتد إلى عدم فهم خصال شعوبهم وطريقة تفكيرها وإحساسها ووقت وكيفية تحركها وثورتها ووقت كمونها ولامبالاتها، ما يزيد من انفصال تلك «النخبة» عن الجماهير ويزيد نفور الجماهير من العمل في منظمات هؤلاء النخبويين.

* كاتب مصري