من الضروري أن لا نعتاد المشهد، ولكن من المفيد أن نخرج قليلاً من الغرق في الآلام الجسيمة والعظيمة التي يتعرّض لها شعبنا في غزة لنعدّد ما حقّقته حتى الآن هذه الحرب، كي لا تضيع هذه الإنجازات تحت الكم الهائل من الحزن المتراكم في نفوسنا. لذا، من الواجب الإضاءة على المكاسب الأولية التي تحقّقت بفضل هذه الدماء والآلام. أولاً، إن السابع من أكتوبر هو صفعة تاريخية لن تستطيع أي قيادة قادمة لدى العدو أن تمحو آثارها، ولن يكون الكيان الصهيوني بعدها «الجنة» التي كانت تُصوّر ليهود الأرض. عندما تنتهي الحرب ستنتهي معها القيادة الحالية في الكيان، وسيكون من الصعب إيجاد قيادة جديدة ذات كفاءة في الكيان لأن الشعبوية ستتسيَّد المشهد. ستتجذّر التناقضات والأزمات، وسيُعبر عنها بشكل أعنف وأوضح، وبالتالي، ستتصاعد الأزمة التي استفاد منها حدث 7 أكتوبر لتستفيد منها أحداث أخرى تُدخل الكيان في حلقة مفرغة من الأفعال وردود الأفعال التي تستنزفه وتفقده دوره الوظيفي وتحوّله من قاعدة للغرب إلى عبء عليه. هذا ليس توقّعاً بل حقيقة ما نراه أمامنا، وبالتالي هذا أُنجز ولكن يحتاج إلى الوقت لينضج.
ثانياً، والذي لا يقل أهمية، هو ما فعلته الحكومات الغربية ومنظّماتها «الإنسانية» وما زالت خلال هذه الحرب، وهو ما أفقدها أي مصداقية أو حتى أي استلطاف كانت تكنّه لها شعوبنا، والأهم أن المفاهيم التي غرستها ولا تزال تحاول غرسها في ذهنية شعوبنا سقطت في أيام. لقد أصبح العداء لهذه الدول هو السمة العامة للأغلبية الساحقة منها (أي الشعوب)، فبعد أن حاول الغرب تدجين هذه الشعوب لعشرات السنين وكثّف هذه المحاولات في السنوات الأخيرة لاستمالتها في معركته في مواجهة صعود روسيا والصين، نرى اليوم هذه الشعوب تقاطع منتجاته وتتجه إلى المنتجات الوطنية أو الصينية والروسية وغيرها، كتعبير بسيط وشخصي عن رفضها له. حتى أطفالنا أصبحوا يعتبرون أن شراء لوحٍ من الشوكولا المصنوع في الغرب هو خيانة لدماء أقرانهم في غزة. هذه الحالة وللأسف ليست مُؤطرة سياسياً في الوقت الحالي، وبالتالي تعبّر عنها حملات المقاطعة بشكل أوفى لأنها فردية. لكن ما يختزن في النفوس من عداء هو أعمق بكثير مما يظهر.
ثالثاً، وهو مرتبط بشكل كبير بالنقطة السابقة. إن شعوب الأرض جميعها تشاهد ما يجري، وتسمع مواقف الحكومات الغربية التي ضربت عرضَ الحائط بكل المفاهيم الإنسانية والحقوقية التي لطالما أتحفتنا بتكرارها، لا بل سارعت لإسقاط صفة البشر عن أهل غزة وأعطت الصهاينة الحق الكامل في الإبادة الحاصلة. وللغرب تاريخٌ ملطّخ بالدماء والآلام مع كل شعوب الأرض، تحديداً في الدول النامية أو «دول العالم الثالث»، لهذا من السهل أن تستذكر هذه الشعوب ما عانته ولا تزال تعانيه وأن تربطه في أذهانها بما نعانيه نحن أيضاً، رغم اختلاف الثقافات والأعراق، فيصبح العدو مشتركاً، فالآلام والمعاناة المشتركة توحّد المصير ولو في الأذهان. إنّ النار تتّقد تحت الرماد والوعي يعاد تشكيله. نعم أيها السادة، غزة تُشكل بأجساد أطفالها وعيّ شعوبٍ تناست في لحظات سكرتها كم هي مقهورة، كما تفضح ادّعاءات حكومات الغرب التي دفعت مليارات الدولارات لتدجين هذه الشعوب بمبادئ لا تخدم سوى عملية نهبها المستمر لها.
رابعاً، إنّ التقدّم النوعي العسكري لحركات المقاومة في منطقتنا، وتحديداً في فلسطين، لم يأت من فراغ، فهو بالطبع لم يكن ليحصل لولا التقدم السياسي لهذه القوى، وبناء علاقات وتشبيكات على المستويين الإقليمي والدولي، استطاعت من خلالها هذه القوى تطوير حركتها نوعياً مستفيدةً من بداية تبدّل موازين القوى العالميّ، ومتقاطعةً معه وبالتالي مؤثّرةً فيه. وحتى لا نُتهم بالمبالغة، لقد ضجّت وسائل الإعلام الأميركية منذ عدة أيام بأن طريقة تعاطي الإدارة الأميركية مع الحرب في غزة هي من أهم ثلاثة محددات لنتيجة الانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة، والأمر لا يختلف كثيراً، ولو بدرجات متفاوتة، في العديد من دول الغرب.
في الخلاصة، الغرب يسير بالبشرية نحو البربرية، وفلسطين هي التكثيف لهذه المعركة، ولكنها ليست معركتها وحدها. إنّ شرائح وقوى اجتماعية كبيرة على مستوى المنطقة والعالم هي حليفة لنا، بمعنى التقاطع، كلٌّ من موقعه، والمطلوب اليوم هو تأطير هذه القوى الاجتماعية بأي شكل من الأشكال بحركة منظّمة لتستطيع أن تشكل وزناً سياسياً وليس فقط رأياً عاماً. إنّ المعركة الحالية هي معركة إنقاذ البشرية من براثن البربرية ومن الإبادات التي ستطاول العديد من البلدان. ومن الصعب في هكذا معارك أن يستطيع أيُّ تنظيم أو تيار أن يحقق إنجازاً في بلده وحده. وإن فَعَلَ كحال غزة فستكون التكلفة عالية وسيكون الصمود معجزة كالتي تتحقق. فالمعركة قاسية والغرب موحّد، لذا من الضروري التنسيق والتشابك في ما بيننا للإنتاج المشترك، وإذا كانت الاشتراكية هي النقيض الطبيعي للنظام العالمي الحالي، فلا بأس بعالم أكثر عدالة يجمع البشر ضمن الحد الأدنى.
أعلم أن ما نعرضه ليس تطبيقه سهلاً، ولكن بناءً على ما أوردناه سابقاً أصبحت هذه المسألة ضرورة لا يتقدّمها شيء، وبالتالي على من لا يزال حياً من قوى أو حتى أفراد في منطقتنا المبادرة في هذا الاتجاه لا غيره، بغضّ النظر عن كل الاختلافات الأيديولوجية، فالأرضية تنضج بسرعة هائلة وتتكثّف عند كل معركة، وكأننا نتقدّم سنوات في أيام قليلة.

* كاتب