ردّاً على مقال نشرته جريدة «الأخبار» بتاريخ 28 تشرين الثاني الماضي للأستاذة صفية أنطون سعادة حول إشكالية الاستفتاء في فلسطين التي طرحتها الجمهورية الإسلامية في إيران، نقدّم القراءة التالية: طرحت إيران في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 على هيئة الأمم المتحدة مقترحاً أطلق عليه اسم «خطة إجراء استفتاء شعبي في الأراضي الفلسطينية»، واعتبرت الأوساط الديبلوماسية الإيرانية حينها أنّ الهدف من هذا المقترح هو إجراء خطة استفتاء شعبي في الأراضي الفلسطينية يؤمّن أرضية تسمح للشعب الفلسطيني بممارسة حقه في تقرير المصير الذي حرم منه منذ قرار تقسيم فلسطين الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948 والذي أسّست له قوى الاستعمار الغربية، ولم تراع فيه حقوق الشعب الفلسطيني، ولا حتى قبوله أو عدم قبوله لهذا القرار. فلسنوات طويلة (سبعة عقود) وقع حرمان الشعب الفلسطيني المضطهد من أبسط حقوقه المشروعة نتيجة السياسات التوسعية المستمرة والممارسات غير القانونية وغير الإنسانية التي يقوم بها الكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين. وقد تم تكثيف هذه الممارسات والانتهاكات الصهيونية الممنهجة بسبب فشل المجتمع الدولي في اتخاذ تدابير عملية جادة لحلّ القضية الفلسطينية، وهي سياسات تنتهك ليس فقط مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، والقواعد العامة للقانون الدولي، ولا سيما القانون الدولي الإنساني وحقوق الانسان، وإنّما أيضاً كل الاتفاقات وعهود السلام التي تم التوقيع عليها مع العدوّ الصهيوني المعروف بنكثه للعهود والمواثيق. واعتبرت إيران أنّ طرحها سبيل واقعيّ لدعم القضية واسترجاع الحقوق المسلوبة ووقف نزف الدم المستمرّ على أرض فلسطين.

رجوع الحق لن يحققه السلام ولا التنازل
كان الإمام السيد علي الخامنئي، في العديد من المناسبات، يذكّر العرب والمسلمين والغرب، والعالم، بأنّ رجوع الحق الفلسطيني لن تحققه الاتفاقيات مع العدو ولا الاستسلام لمشروعه الاستيطاني ولا التنازل عن الأرض مقابل بقعة صغيرة، حيث ثبّت العدو نياته بطرد الفلسطينيين من أرضهم والاستيلاء عليها. واعتبر السيد الخامنئي أنّ التفاوض والوصول إلى صيغة تفاهم مع هذا العدو الغاصب، الذي لا يقيم أيّ وزن للإنسانية، ولا يلتزم بالقوانين الدولية، ولا يذعن لقرارات المنظمات الدولية، هو «سبيل خاطئ» مهما كان شكله أو صيغته. فقد أثبتت «إسرائيل» أنّها لا تلتزم بأيّ توقيع، وهي تدير ظهرها لكل تفاهم تصل إليه مع أيّ جانب، وأقوى دليل على ذلك هو الوضع الحالي لغزة المحاصرة منذ 17 سنة وللضفة الغربية والقدس، فقد جلسوا بأنفسهم إلى طاولة الحوار في أوسلو، ووقّعوا على الاعتراف رسميّاً بسلطة حكم ذاتي فلسطينية، لكنهم لم يلتزموا بما اتفقوا عليه، وما الحروب على غزة وحصار الضفة وتدنيس المسجد الأقصى إلا دليل من كثير على ذلك.
إذاً ليس هذا هو الحل المناسب والسليم للقضية. وفي هذا السياق يشير السيد الخامنئي بالقول: «أؤكّد هنا على أنّني لا أخاطب بهذا الكلام أولئك الذين يحاولون الإبقاء على هذه الغدّة السرطانية بأيّ ثمن، فهؤلاء لا يستسيغون هذا الكلام، ونحن نعلم ذلك.... إنّ إسرائيل ليست إلا كياناً مصطنعاً وغير قانوني وغاصب. فقد اغتصب الصهاينة هذه الأرض من أهلها بالقوة والبغي والحيلة. ولذا فإنّ أي مفاوضات تقوم على أساس الاعتراف بوجود هذا الكيان هي غير مشروعة ولن تصمد طويلاً» (من خطبة في حشود من زائري ضريح الإمام الخميني بتاريخ 4 حزيران 2002).
بعيداً عن السجالات السياسية والتاريخية، طرح السيد الخامنئي حلّاً اعتبره «الحلّ الصحيح الذي سيحقق الطموح الفلسطيني من النهر إلى البحر»، وسيساهم في بناء الدولة الفلسطينية. فمن أجل الوصول إلى تحقيق الطموح الفلسطيني في تحرير الأرض من النهر إلى البحر، اعتبر الخامنئي أنّه لا بد من العمل والنظر إلى الآفاق البعيدة والتقدّم إلى الأمام خطوة خطوة بعزم وتوكل وأمل. فهو «مشروع متقدّم لحل قضية فلسطين ولمداواة هذا الجرح القديم، وهو مشروع واضح ومنطقي ومطابق للعرف السياسي المقبول لدى الرأي العام العالمي».
الاقتراح ليس برمي اليهود في البحر، بل بمنح الشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره،
يشير السيد الخامنئي في هذا السياق بالقول: «إنّنا لا نقترح الحرب الكلاسيكية لجيوش البلدان الإسلامية، ولا رمي اليهود المهاجرين في البحر، ولا تحكيم منظمة الأمم المتحدة وسائر المنظمات الدولية. إننا نقترح إجراء استفتاء للشعب الفلسطيني، الذي من حقه، كأيّ شعب آخر، أن يقرر مصيره ويختار النظام الذي يحكم بلده. وحيث يشارك كل الفلسطينيين الأصليين من مسلمين ومسيحيين ويهود (وليس المهاجرين الأجانب) أينما كانوا، في داخل فلسطين أو في المخيمات أو في أي مكان آخر، في استفتاء عام ومنضبط، ويحددوا النظام المستقبلي لفلسطين. وبعد أن يستقر ذلك النظام والحكومة المنبثقة عنه، سوف يقرر أمر المهاجرين غير الفلسطينيين الذين انتقلوا إلى هذا البلد خلال الأعوام الماضية. هذا مشروع عادل ومنطقي يستوعبه الرأي العام العالمي، وهي صورة صحيحة، ويمكن من خلالها أن يتمتع بدعم الشعوب والحكومات المستقلة. بالطبع، لا نتوقّع أن يرضخ الصهاينة الغاصبون له بسهولة، وهنا يتكون دور الحكومات والشعوب ومنظمات المقاومة في تفعيل هذا المشروع حتى يكتسب معناه».
ويؤكد السيد الخامنئي أنّ «فلسطين للفلسطينيين، والاستمرار في احتلالها ظلم كبير لا يطاق، وخطر أساسي على السلام والأمن الدوليين. كل السبل التي اقترحها وسار فيها الغربيون وأتباعهم لحل القضية الفلسطينية خاطئة وغير ناجحة، وكذلك سيكون الأمر في المستقبل أيضاً. وقد اقترحنا سبيل حلّ عادل وديموقراطي تماماً». ويعتبر السيد الخامنئي أنه «يجب أن يشارك كل الفلسطينيين، من مسلمين ومسيحيين ويهود فلسطينيين، سواء الذين يسكنون حالياً في فلسطين أو الذين شرّدوا إلى بلدان أخرى واحتفظوا بهويتهم الفلسطينية، في استفتاء عام بإشراف دقيق وموثوق، فينتخبون البنية الأساسية لهذا البلد، ويعود كل الفلسطينيين الذين تحمّلوا لسنوات طويلة آلام التشرد إلى بلدهم، ثم يجري تدوين الدستور والانتخابات. وعندها يعمّ السلام» (كلمة في مراسم افتتاح المؤتمر السادس عشر لدول عدم الانحياز 30 آب/أغسطس 2012).
الحلّ يكمن في دور الشعب الفلسطيني الحقيقي لا المهاجرين المغتصبين المحتلّين،
وهو يفسر ذلك بالإشارة إلى أنّ السبيل لحل القضية الفلسطينية لا يمرّ عبر الحلول المفروضة والزائفة. فالحل الوحيد لهذه القضية يكمن في أن يقوم أفراد الشعب الفلسطيني الحقيقيون -لا المهاجرون إلى فلسطين من المغتصبين المحتلين - سواء منهم من يعيش في داخل فلسطين أو من هجرها بتحديد وتعيين النظام الذي يحكم بلدهم بأنفسهم. فإنّ كان الاعتماد على أصوات الشعب عند دعاة الديموقراطية في العالم كلاماً لا تشوبه شائبة، فإنّ الشعب الفلسطيني هو شعب أيضاً، ولا بد من أن يتخذ قراره بنفسه (من خطاب ألقاه في جمع غفير من زائري الإمام الخميني في 4 حزيران 2002).
وبناءً عليه، لا ينبغي أن يطلب من هذا الشعب أن يعترف بهذا الكيان الزائف والمغتصب، صنيعة قوى البغي والظلم. ولو ارتكب أحد في العالم الإسلامي خطأ الاعتراف بهذا الكيان الجائر رسمياً، فمضافاً إلى أنّ هذا العمل سيجلب له الخزي والعار، فإنه قام بما لا جدوى منه أيضاً، ذلك أنّ هذا الكيان ليس مؤهلاً للبقاء. فالصهاينة يخالون أنّهم استطاعوا بسط سلطتهم على فلسطين، وأنّها ستبقى لهم إلى أبد الآبدين، لكن ليس الأمر كما يظنّون. فمصير فلسطين هو أنها ستصبح يوماً ما دولة فلسطين لا محالة. هذا هو هدف نهضة الشعب الفلسطيني، وما واجب الشعوب والبلدان العربية والإسلامية إلا تقليص هذه الفجوة قدر الإمكان، والعمل على التعجيل في بلوغ الشعب الفلسطيني هذه الغاية.

تطبيق المشروع على كل الأرض من دون تجزئة
ويشير السيد الخامنئي إلى أنّ «فلسطين متعلقة بالفلسطينيين، فإذا أسّس أهل أرض فلسطين حكومة في داخلها (أي على كل الأرض الفلسطينية من دون تجزئة) فسيستتبّ السلام. وأنّ على معسكر الاستكبار أنّ يفهم أنّ القضية الفلسطينية لن تحلّ بالاجتماعات والمؤتمرات التي يعقدونها، وبهذه القرارات التي يتخذونها. إنّ جهاد الشعب الفلسطيني لن يتوقف ولا ينبغي أن يتوقف» (من كلمة ألقاها بجمع من المشاركين في المؤتمر الدولي لدعم الانتفاضة الإسلامية للشعب الفلسطيني في 19 تشرين الأول/ أكتوبر 1991). كما يؤكد في السياق نفيه أنّ «القضية الفلسطينية لن تحلّ عبر الانسحابات من بعض الأراضي، وليعلم الصهاينة والأميركيون الذين يلعبون دور السماسرة في هذه العملية، أنّ القضية الفلسطينية لن تحل بهذا الشكل، فالانسحاب من جزء من الأرض ليغلق ملف القضية، هذا لن يحدث. ليس ثمة غير حلّ واحد لهذه القضية، وهو ما أعلنّاه منذ سنوات، أي أن يستطلعوا آراء الفلسطينيين الأصليين، سواء كانوا في الداخل أو سكان المخيمات أو فلسطينيي الشتات في دول العالم، وسواء منهم المسلمين أو المسيحيين أو اليهود، لا فرق بينهم، وأن تستطلع آراؤهم وتتولى أي حكومة يختارونها مقاليد السلطة في فلسطين، هذه هي الديموقراطية» (من خطبة صلاة الجمعة في طهران بتاريخ 19 آب/ أغسطس 2005).
من هنا، ما دامت هذه الحكومة منبثقة من خيار حرّ ومشترك بين كل الطوائف الفلسطينية وتعبّر بالفعل عن أصوات الفلسطينيين أنفسهم، فستحظى بالقبول وستحلّ القضية الفلسطينية.

خيار ديموقراطي للقضاء على الاحتلال
من هذا المنطلق، وطبقاً لهذا الطرح يؤكد السيد الخامنئي مرة أخرى على أنّ خيار الاستفتاء هو خيار ديموقراطي وهو حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره كما بقية شعوب العالم، وهو حق إنساني ويتماشى مع المنطق الدولي الراهن. بالتأكيد إنّ العدو الصهيوني لن يقبل بهذا الحلّ، لذلك على الجميع أن يتحمّل مسؤوليته، حكومات ودولاً عربية وإسلامية، كما الشعوب، وخصوصاً الشعب الفلسطيني، والأوساط الدولية. كل ما في الأمر أنه قرار يحتاج إلى إرادة وعزيمة، وإلى جرأة وشجاعة.
لكن من ينبغي أن يتحلى بالشجاعة في هذا الأمر حقيقة هو الحكومات والدول العربية والإسلامية، وليس الشعوب التي وقفت ولا تزال مع القضية الفلسطينية، وما عملية «طوفان الأقصى» إلا تجديد للعهد بهذه القضية وبالمقاومة الفلسطينية ورجالاتها. على الحكومات العربية والإسلامية أن تراجع نفسها، فخيارات السلام والتفاوض حوله أثبتت فشلها، وأسقطت الحقوق وغيّبت القضية بترهات التطبيع العلني الذي قفز على كل التفاهمات وحتى الخيارات السابقة. بإمكان هذه الحكومات أن تستثمر انتصار المقاومة الفلسطينية في غزة - وهو حتمي ومثبت وإن طالت المعركة - ليس فقط لتحقيق المصلحة للفلسطينيين، وإنما أيضاً لهم ولدولهم وشعوبهم نفسها. فتخطو خطوة إلى الأمام فتكسب دعم شعوبها لها، في ما يتصل بالقضية الفلسطينية، وهذا الأمر بالتأكيد سيربك العدوّ ويسقط مشاريعه الفتنوية. بإمكان الحكومات العربية والإسلامية تحقيق ذلك، لكن ما ينقصها فقط هو الجرأة والعزيمة. أمّا إيران، فقد أعلنت منذ البداية، منذ عهد الإمام الخميني، أنّ هذا الكيان هو غدّة سرطانية يجب أن تستأصل من المنطقة. ومن أجل تحقيق هذا الأمر، هناك صيغة إنسانية بكل معنى الكلمة، وقابلة للتنفيذ، وهو أن يعود الفلسطينيون من المخيمات ومن كل أقطار العالم والشتات ليقرروا بأنفسهم شكل حكومتهم التي يجب أن تنبثق منهم.

الحلّ ليس في رمي اليهود في البحر
الحلّ بالنسبة للسيد الخامنئي ليس في رمي اليهود الغاصبين لأرض فلسطين في البحر، ولا إحراق أرض فلسطين، فهذا أمر غير مقبول، وغير منطقي، وفقاً للأصول الإسلامية، إنّما الأساس أن يأخذ الشعب الفلسطيني حقه، فهذا البلد هو ملك للشعب الفلسطيني، ومصير فلسطين لا ينبغي أن يحدّده غير الفلسطينيين. يقول السيد الخامنئي: «بعض الأطراف عالمياً تكذب وتقول إن إيران تريد رمي اليهود أو الصهاينة في البحر. رمي اليهود في البحر هو كلام قاله بعض العرب سابقاً ولم تقله إيران أبداً، ونحن لن نرمي أحداً في البحر. سكان فلسطين هم من سيتخذون القرار، ما إذا كان (الصهاينة) سيبقون في بلدهم مستقبلاً أو لا؟!» (لقاء مع أعضاء التعبئة بتاريخ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023).

تحقق المشروع رهن انتصار المقاومة
لقد أصبح هذا الطرح ضرورياً اليوم، لحفظ القضية والحق الفلسطيني أولاً، ولاستثمار الانتصار والتضحيات التي قدّمها ولا يزال يقدّمها هذا الشعب بالدماء والتضحيات المستمرة. كما أنه لن تتحقق هذه الآلية الديموقراطية في حرية الاختيار وتقرير المصير بالنسبة إلى الفلسطينيين، إلّا بعد نجاح المقاومة في تحرير الأرض من مغتصبيها. وهو سيكون حتماً نتاج ما سيحققه الفلسطينيون من مكتسبات على الأرض وفي الميدان. إنّ الانتصار في الميدان ودحر العدو الصهيوني وطرده من أرض فلسطين سيمكّن الفلسطينيين ليس فقط من التحرر، وإنّما أيضاً من فرض شروطهم لاسترجاع الحقوق. وستكون هذه الآلية الديموقراطية الفرصة الحقيقية والثابتة لتحقيق إحدى أبرز أولويات الانتصار وهو بناء الدولة الفلسطينية الحرة والمستقلة، وبالتالي زوال الكيان الصهيوني، والذي لا يعني أبداً ارتكاب مذابح ضد اليهود، لكن اعتماداً على المنطق الإنساني الذي يقول بأنّ «إسرائيل يجب أن تزول من الوجود» لأنّه كيان هجين ومزيّف اغتصب الأرض وطرد شعبها، وعليه، الآن أن يعود من حيث أتى، أو أن ينتهي إلى مزابل التاريخ.

*باحثة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية (لبنان)