استخدم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش صلاحياته - التي نادراً ما يمارسها – المنصوص عليها في المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، للمرة الأولى منذ تعيينه أميناً عاماً في عام 2017. ذلك لتحذير مجلس الأمن من كارثة إنسانية وشيكة تتمثّل في انهيار النظام الإنساني في قطاع غزة، نتيجة العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ أكثر من شهرين، والذي أدّى إلى استشهاد وجرح الآلاف، وتدمير البنى التحتية.وكتب غوتيريش بتاريخ 6/12/2023 على موقع «إكس» («تويتر» سابقاً): «أحثّ مجلس الأمن على المساعدة في تجنب وقوع كارثة إنسانية»، موجّهاً نداءً إلى إعلان وقف إطلاق نار إنساني بعدما كرر دعوته لذلك، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ عقود.
وقال في رسالته التي أُرسلت إلى رئيس مجلس الأمن الدولي لهذا الشهر، سفير الإكوادور خوسيه دومينيغيز، إنه «نظراً إلى فداحة الخسائر في الأرواح البشرية في غزة وإسرائيل في غضون فترة وجيزة، فإنه مضطرّ إلى تفعيل المادة 99 من الميثاق، التي تخوّل الأمين العام أن يلفت نظر المجلس إلى ما يهدد الأمن والسلم الدوليين».
وأشار إلى أن المساعدات الإنسانية التي تمر عبر معبر رفح غير كافية، و«نحن ببساطة غير قادرين على الوصول إلى من يحتاج إلى المساعدات داخل غزة». وقال: «قُوّضت قدرات الأمم المتحدة وشركائها في المجال الإنساني بنقص التموين ونقص الوقود وانقطاع الاتصالات وتزايد انعدام الأمن». وحذّر: «نواجه خطراً كبيراً يتمثل في انهيار النظام الإنساني. الوضع يتدهور بسرعة نحو كارثة قد تكون لها تبعات لا رجعة فيها على الفلسطينيين وعلى السلام والأمن في المنطقة». وأضاف: «يتحمّل المجتمع الدولي مسؤولية استخدام نفوذه لمنع تصعيد جديد ووضع حد لهذه الأزمة»، داعياً أعضاء مجلس الأمن إلى «ممارسة الضغط لتجنب حدوث كارثة إنسانية».
وعلّق ستيفان دوغاريك، المتحدث باسم غوتيريش، بأن «الأمين العام يشير إلى إحدى السلطات النادرة التي يمنحه إياها الميثاق»، متحدثاً عن «خطوة ذات دلالة كبيرة» لأنه لم يتم اللجوء إلى المادة 99 «منذ عقود».
ومنتصف نوفمبر، وبعد رفض 4 مشاريع قرارات، خرج مجلس الأمن عن صمته في نهاية المطاف وتبنى قراراً دعا فيه إلى «هُدَن وممرات للمساعدات الإنسانية» في قطاع غزة. فماذا في تحذير الأمين العام؟

المادة 99
جاء في المادة الأولى من الميثاق أنّ من مقاصد الأمم المتحدة: حفظ السلم والأمن الدولي، وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعّالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرّع بالوسائل السلمية، وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي، لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها.
كما يتضمن الميثاق عدداً من الأحكام حول تسوية النزاعات سلمياً، التي تمنح الأمين العام خيار استخدام مساعيه الحميدة للتوسط في التوصل إلى اتفاقات من أجل تقليل التوترات حول العالم، وتؤدي إلى خطوات يمكن أن تساعد في تجنب الحرب (الفصل السادس)، بينما يحدد الميثاق في الفصل السابع منه الخطوات العسكرية التي يتخذها في سبيل تحقيق مقاصده.
والمادة 99 هي من بين خمس مواد في الفصل 15 من الميثاق تحدد مهام الأمين العام ووظائفه الإدارية (الموظف الإداري الأكبر في الأمانة العامة للمنظمة)، لكنها أكثرها أهميةً في سياق السلام والأمن الدوليين. ويشير هذا الفصل إلى دور الأمين العام وكيفية تعيينه من الجمعية العامة بناءً على توصية من مجلس الأمن، أي بالتوافق بين الدول الخمس الكبرى المتمتعة بحق النقض (الفيتو)، وإلا فإنه لا يمكنه تسلّم هذا المنصب.
وكي لا يتصرف الأمين العام على أنه مجرد موظف، فوّضه الميثاق في المادة 99 من هذا الفصل بأن يكون فاعلاً في مسألة الأمن والسلم الدوليين. ونصت المادة 99 على: «للأمين العام أن ينبّه مجلس الأمن إلى أيّ مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين». أي أن الأمين العام، ولو متأخراً، استخدم صلاحياته الدستورية والمحصورة في بند واحد وحيد وهو تنبيه مجلس الأمن في حال تغافله أو عجزه عن القيام بمهماته الموكلة إليه من الميثاق، وأولاها حفظ الأمن والسلم الدوليين.
يُنظر عادةً إلى هذه المادة على أنها سلطة تقديرية، تتطلب من الأمين العام ممارسة الحكمة السياسية ومراعاة مقاصد الأمم المتحدة، وتمكّنه من لعب دور سياسي، عبر طرح النقاش حول العدوان على غزة والضغط من أجل اتخاذ قرارات لوقف الإبادة. وهي تمثّل مسؤوليته في العمل على منع نشوب الصراعات وتجنب التوترات وتحوّلها إلى حروب، من خلال التنبيه والتحذير واستخدام المساعي الحميدة والديبلوماسية الوقائية والإنذار الاستباقي، من خلال المساعدة في استعادة الاستقرار في حالة نشوب النزاع المسلح، ولا سيما أن الأمين العام لاحظ أن مجلس الأمن قد شُلّ نتيجة استخدام الفيتو عدة مرات لوقف إطلاق النار في غزة.
وبموجب ميثاق الأمم المتحدة، تعدّ قرارات مجلس الأمن ملزمةً للدول الأعضاء. وفي حالة عدم التزام أيّ عضو بها، يصدر المجلس قراراً بالمنع أو الإنفاذ ضد الدولة الممتنعة، وتعلّق الجمعية العامة عضويتها وامتيازاتها، وفي حال تكرارها والخروج عن مبادئ الميثاق، يجوز للجمعية العامة إلغاء عضويتها وفقاً لتوصية المجلس، إلا أنّ من الصعب التنبؤ بالطريقة التي سيجري بها تنفيذ هذه المادة.
وقال ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمم المتحدة، إنّ الأمين العام يستخدم بذلك السلطة التي يمنحها له الميثاق، مؤكداً أن تلك المادة تعدّ أقوى أداة يمتلكها الأمين العام في إطار مـيثاق الأمم المتحدة. وذكر أن تفعيل المادة لم يحدث منذ عقود، مشيراً إلى أن الأمم المتحدة تقترب من نقطة «الشلل التام» لعملياتها الإنسانية في قطاع غزة الذي قُتل فيه أكثر من 15 ألف شخص، و130 من العاملين بالأمم المتحدة.
وقد تعرّض غوتيريش لانتقادات واسعة في تعامله البارد مع حرب الإبادة في غزة، وأراد أن يُبعد اللوم عن نفسه في حالة نشوب أزمة سياسية أو إنسانية تهدد الأمن والسلم العالميين، فألقى اللوم على مجلس الأمن لأنه هو من يستطيع أن يوقف الحرب في حال اعتماده قراراً تحت الفصل السابع.
إلا أن الأمين العام لم يسلم من الهجومات العنيفة عليه من «إسرائيل»، عندما تجرّأ وقال إن «غزة أصبحت مقبرةً للأطفال»، فطالبه السفير الإسرائيلي بالاستقالة. ولأنه استخدم صلاحياته حسب المادة 99، شنّ وزير الخارجية الصهيوني إيلي كوهين، عبر منصة «إكس»، حملةً قاسيةً ضده واتهمه بتأييد «حماس»، وطالب باستقالته، وندد بفترة ولايته ووصفها بأنها «|خطر على السلام العالمي». واعتبر أن «طلبه تفعيل المادة 99 والدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة يشكل دعماً لمنظمة حماس الإرهابية وتصديقاً على قتل المسنّين واختطاف الأطفال واغتصاب النساء». وقال: «من يدعم السلام العالمي، عليه أن يدعم تحرير غزة من حماس»، على حدّ تعبيره.
وعلى رغم من أن هذه المادة لا تؤدي إلى إجراء تنفيذي مباشر من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، إلا أنها يمكن أن تعطي مجلس الأمن قوة دفع لإعادة النظر في قرارات وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهذا ما كان مرجوّاً في مشروع القرار الذي تقدمت به دولة الإمارات إلى مجلس الأمن بناءً على رسالة غوتيريش، إلا أنه أُفشل مجدداً بالفيتو الأميركي.
إنّ مجلس الأمن يمكنه الانعقاد عدة مرات لفرض وقف إطلاق النار واتخاذ رزمة من العقوبات القاسية على الكيان الصهيوني في حال رفضه، وهذا يدل على أن الأمين العام استشعر الخطر على المدنيين في غزة، ليس فقط بسبب الغارات الصهيونية والقصف المدفعي على الفلسطينيين، بل بسبب الكارثة الإنسانية جراء انتشار الأمراض، والجوع والعطش، ونقص الدواء، وقصف المستشفيات وعدم القدرة على معالجة الجرحى والمرضى، وتأمين المحروقات لتشغيل سيارات الإسعاف والمستشفيات. وهي تزيد الضغط على مجلس الأمن، وتحمّل «إسرائيل» مسؤولية المجازر والمآسي المقبلة، رغم استخدام أميركا الفيتو والمشاركة في حرب الإبادة، وإذا لم يتحرك مجلس الأمن، فإن استخدام هذه المادة هو لزوم ما لا يلزم!
غير أن ما يثير السؤال هو السبب الذي دفع غوتيريش في هذا التوقيت إلى استخدام المادة 99، على رغم إدراكه بأن الولايات المتحدة لم تصل بعد إلى حد تأييد القرار أو حتى الامتناع عن التصويت لإمراره. وحتى لو وافق مجلس الأمن على قرار وقف إطلاق النار، فإن «إسرائيل» لن تلتزم به، كما لم تلتزم بكل القرارات الدولية المتعلقة بفلسطين، رغم أن قرارات المجلس ملزمة قانوناً، وقد يؤدي انتهاكها إلى فرض عقوبات أخرى.
إضافةً إلى دوافع غوتيريش الإنسانية بعد استشهاد أكثر من 17 ألف فلسطيني، منهم 40 % من الأطفال، ونزوح نحو 80 % من سكان غزة، منهم 1.1 مليون لجأوا إلى ملاجئ «الأونروا»، فإن هناك خشية من أن تكون العواقب مدمرةً على أمن المنطقة بأكملها لأن الصراعات ذات الصلة مشتعلة في الضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق واليمن. كذلك، فإن التهديد الذي تتعرض له سلامة موظفي الأمم المتحدة في غزة لم يسبق له مثيل، وهو أحد الأسباب التي تحدث عنها غوتيريش حين قال: «لقد قُتل بالفعل أكثر من 130 من زملائي، وعديد منهم مع عائلاتهم، وهذه أكبر خسارة في الأرواح في تاريخ منظمتنا».
وتُعدّ هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها غوتيريش صراحةً المادة 99 بصفته أميناً عاماً، على رغم أنه كتب نوعاً مماثلاً من الرسائل بموجب هذه المادة إلى مجلس الأمن عام 2017 في شأن مخاوفه حول الوضع في ميانمار. وعلى رغم أن غوتيريش لم يستشهد بها، إلا أن هيئات الأمم المتحدة فسّرت آنذاك المادة 99 بأنها تشمل حق الأمين العام في إرسال بعثات لتقصّي الحقائق في ميانمار، وإنشاء لجان تحقيق وعرض الوساطة.

استخدام المادة 99 عبر التاريخ
يختلف الباحثون في تحديد المرات التي مارس فيها الأمناء العامون السابقون صلاحياتهم بموجب المادة 99، ويعود ذلك إلى أن اللجوء إلى هذه المادة قد يكون صريحاً أو عبر إثارة قضية في مجلس الأمن من دون ذكر المادة. وقد استخدم الأمناء العامون السابقون للأمم المتحدة هذه المادة عندما استشعروا خطراً داهماً يهدد السلم والأمن الدوليين، واستخدموها صراحةً أو تلميحاً على الشكل الآتي:
- بتاريخ 25 حزيران 1950 وخلال اندلاع الحرب في شبه الجزيرة الكورية، اجتمع مجلس الأمن بناءً على رسالة من الولايات المتحدة تطلب حلاً فورياً، وأكد الأمين العام الأول تريغفي لي (من النروج، عُيّن أميناً عاماً في الفترة من 1946 - 1952) في كلمته أمام الاجتماع أن الوضع خطر ويشكل تهديداً للسلام الدولي، وأن مجلس الأمن في رأيه هو الجهة المختصة بالتعامل مع هذه القضية، وطلب تقرير لجنة الأمم المتحدة في شأن كوريا وإحالته إلى المجلس. وعلى رغم أن تريغفي لي لم يشر في ملاحظاته أمام المجلس بشكل واضح إلى المادة 99، إلا أنه في اجتماع للجمعية العامة بتاريخ 28 أيلول 1950 قال إنه استند في بيانه أمام مجلس الأمن للمرة الأولى إلى المادة 99 من الميثاق.
- بتاريخ 13 تموز 1960، وخلال أزمة الكونغو، أرسل الأمين العام الثاني داغ همرشولد (من السويد، عُيّن في الفترة من 1953 إلى 1961) رسالةً إلى مجلس الأمن لفت فيها انتباه المجلس إلى الحرب في الكونغو بسبب التدخلات الاستعمارية (احتلته بلجيكا)، التي كانت تنوي فصل جزء من البلاد عن الوطن، واعتبرها بحسب رأيه مسألةً قد تهدد حفظ السلام والأمن الدوليين، ولهذا دعا إلى عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن للاستماع إلى تقريره في شأن مطالبة الأمم المتحدة باتخاذ إجراء في ما يتعلق بجمهورية الكونغو. وعندما انعقد المجلس وصدّق على إطلاق مهمة حفظ سلام واسعة في البلد الأفريقي، صرح همرشولد بأنه دعا المجلس بموجب المادة 99 من الميثاق وليس بناءً على طلب من الحكومة الكونغولية. وفي اليوم التالي للإعلان، ذهب همرشولد بنفسه إلى منطقة النزاع فتعرضت طائرته لصاروخ فجّرها وقُتل فيها، وشُكّلت لجنة تحقيق في مقتل همرشولد لا تزال قائمةً حتى اليوم، من دون أن تتوصل إلى حسم مسألة القاتل.
- بتاريخ 21 و22 يوليو 1961، وبناءً على طلب تونس، عقد مجلس الأمن جلستين لمناقشة شكوى الحكومة التونسية من أن فرنسا هاجمت مدينتها بنزرت، وذكر الأمين العام همرشولد في بداية الجلسة الثانية أن التطور الخطر والمهدد الذي طرحه المجلس يشكل خطر حدوث ضرر لا يمكن إصلاحه للسلم والأمن الدوليين، وبالنظر إلى التزامات الأمين العام بموجب المادة 99 من الميثاق، اعتبر أن من واجبه في هذه الظروف توجيه نداء عاجل إلى المجلس في محاولة التوصل إلى حل كامل ونهائي. وبما أن المجلس اجتمع في اليوم السابق بناءً على طلب تونس، بدا أن همرشولد استشهد بالمادة 99 من أجل لفت انتباه المجلس للتحرك وليس إلى الحاجة إلى الاجتماع في شأن هذه المسألة.
- بتاريخ 20 يوليو 1971، وبعدما تفجّر الوضع في باكستان الشرقية (بنغلادش حالياً) في مواجهة الولايات الهندية المجاورة، وصّف الأمين العام الأسبق يوثانت (من ميانمار، عُيّن في الفترة من 1961 إلى 1971) الوضع المتدهور على طول حدود باكستان الشرقية وأماكن أخرى في شبه القارة الهندية، وقدّم تقريراً إلى رئيس مجلس الأمن حول مسألة لم يتم إدراجها في جدول أعمال المجلس. ونظراً إلى قناعته بأن هذا الوضع يشكل تهديداً لصون السلم والأمن الدوليين، أعلم الأمين العام رئيس مجلس الأمن بالجهود التي بذلها حول هذه المشكلة بموجب الشروط العامة للمادة 99.
- بتاريخ 16 يوليو 1974، حينما تفجرت المشكلة القبرصية، دعا الأمين العام كورت فالدهايم (من النمسا، عُيّن في الفترة الممتدة من 1972 إلى 1977) مجلس الأمن إلى الانعقاد في ضوء خطورة هذه المسألة في ما يتعلق بالسلام والأمن الدوليين. لكن الحجة المؤيدة لاعتبار مبادرة فالدهايم بمثابة لجوء إلى المادة 99 تُعدّ ضعيفةً إلى حد ما، بالنظر إلى أن الوضع في قبرص كان مدرجاً بالفعل في البيان الموجز للمجلس، وأن الحكومة القبرصية طلبت أيضاً عقد اجتماع للمجلس، وأن رسالة فالدهايم وبيانه فقط يعكسان بشكل غامض لغة المادة 99.
- بتاريخ 29 آذار 1976، وخلال الحرب الأهلية في لبنان، وفي رسالة غير منشورة إلى رئيس المجلس، أشار الأمين العام فالدهايم إلى سلطته بموجب المادة 99 من الميثاق، ثم طرح وجهة نظره بأنه ما لم يكن هناك وقف لإطلاق النار، فإنّ الحرب الأهلية ستشكّل تهديداً خطيراً للسلم والأمن الدوليين، إلا أن مجلس الأمن لم يقرر في حينه عقد جلسة حول الموضوع. لكن بتاريخ 15 آب 1989 عندما تصاعد القتال في بيروت، كتب الأمين الجديد خافيير بيريز دي كوييار (من البيرو، عُيّن في الفترة من 1982 إلى 1992) إلى رئيس مجلس الأمن في شأن تدهور الوضع في لبنان، وقال إنه يرى أن الأزمة تشكل تهديداً خطراً للسلم والأمن الدوليين، وفي إطار ممارسة مسؤولياته بموجب ميثاق الأمم المتحدة، طلب انعقاد مجلس الأمن على وجه السرعة قائلاً إنه مضطرّ، للمرة الأولى خلال فترة ولايته كأمين عام، إلى تفعيل المادة 99 من الميثاق.
- بتاريخ 25 تشرين الثاني 1979، وخلال أزمة الرهائن الديبلوماسيين الأميركيين في طهران، كتب الأمين العام كورت فالدهايم (من النمسا، عُيّن في الفترة من 1972 إلى 1981) إلى رئيس المجلس أنه يرى أن الأزمة في إيران، تشكل تهديداً خطراً للسلم والأمن الدوليين، وطلب انعقاد مجلس الأمن بشكل عاجل لمحاولة البحث عن حل سلمي يتوافق مع مبادئ العدالة والقانون الدولي. وعقب ذلك، صدّق مجلس الأمن على القرار 457، الذي دعا فيه إيران إلى الإفراج الفوري عن الرهائن المحتجزين في السفارة الأميركية لديها والسماح لهم بمغادرة البلاد.
- بتاريخ 23 أيلول 1980، وخلال الحرب بين إيران والعراق، كتب الأمين العام فالدهايم، رسالةً إلى رئيس المجلس ذكر فيها أنه يشعر بقلق عميق إزاء تصاعد الصراع بين إيران والعراق الذي يشكّل، بحسب رأيه، تهديداً خطراً محتملاً للسلم والأمن الدوليين، مطالباً بأن يجتمع أعضاء مجلس الأمن للتشاور. وبعد الاستجابة لطلبه، قدم تفاصيل عن جهوده الإضافية لتشجيع الطرفين على تسوية خلافاتهما عن طريق التفاوض. بعد ذلك بسبع سنوات، دعا دي كوييار عام 1987 مجلس الأمن إلى التشاور على مستوى وزراء الخارجية، في شأن التحرك لوقف الحرب، وتصرف المجلس بشكل حاسم، وتبنى بالإجماع قراراً يأمر بالتنفيذ الفوري لوقف إطلاق النار الذي دعا إليه سابقاً، ويحدد الخطوات التي يتعيّن على البلدين اتخاذها من أجل إرساء أساس للسلام، لكن بيريز دي كوييار لم يشر صراحةً إلى المادة 99، ولم يردّد لغتها في وصف مبادرته.
- بقية الأمناء العامين للأمم المتحدة، مثل بطرس بطرس غالي، كوفي عنان، وبان كي مون، لم يذكروا رسمياً المادة 99، ولكن كجزء من التفاعلات المتزايدة، الرسمية وغير الرسمية، بين الأمين العام وأعضاء المجلس، أصبح من الشائع أن يلفت هؤلاء الأمناء العامون انتباه المجلس إلى الحالات المدرجة بالفعل في جدول أعماله التي كانت تتدهور، ومطالبة المجلس بالنظر في اتخاذ الإجراء المناسب.

هل من فاعلية للمادة 99 لإيقاف النار في غزة؟
إن مضمون المادة 99 يعطي الأمين العام غوتيريش سلطة إخطار مجلس الأمن بأيّ حالة قد تهدد السلم والأمن الدوليين، لكنها لا تفرض التزامات ملزمة بحدّ ذاتها لوقف إطلاق النار بالنسبة إلى «إسرائيل»، إنما هي مجرد آلية تنبيه لمجلس الأمن.
أمّا ما يُلزم «إسرائيل» بوقف أعمالها العدائية في غزة، فهو اللجوء إلى مواد الفصل السابع من الميثاق، والذي يخوّل مجلس الأمن سلطة التحرك الفوري واتخاذ ما يلزم من تدابير عسكرية لحفظ السلم والأمن الدوليين، بما في ذلك إصدار قرار فوري بفرض وقف لإطلاق النار في قطاع غزة تلتزم به «إسرائيل»، حفاظاً على سمعته ومكانته كضامن للسلم والأمن الدوليين.
إلا أن هذا الأمر يبدو مستبعداً نظراً إلى الدعم الأميركي غير المشروط لـ«إسرائيل»، والاستخدام المتكرر للفيتو ضد أي مشروع قرار يدينها أو يلزمها بوقف أعمالها العدائية، أو يفرض وقفاً لإطلاق النار في غزة، وهو ما يعيق قدرة مجلس الأمن على التصرف بموضوعية، ويهدد استقرار وأمن المجتمع الدولي.
وتشير الدراسات إلى أن أغلب استخدامات المادة 99 لم تحقق السلام الذي تسعى إليه، ذلك لأن تدخّل الأمين العام لا يغيّر غالباً الحسابات السياسية للدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن.
وفي ما يجري حالياً من عدوان وحرب إبادة في غزة، فإن الولايات المتحدة لا تزال تعارض قرار وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، وبالتالي فإن دعوة غوتيريش فقدت قوّتها، لكنها عرّت الإدارة الأميركية وأحرجتها أمام المجتمع الدولي، الذي أيّد بقوة وبسرعة التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار. ويبقى الكلام للميدان الذي تسطّر فيه المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني أسمى صور البطولات والتضحيات والصمود، والذي سيفرض نفسه على أيّ مفاوضات مستقبلية أو مشاريع سياسية تُحضّر لغزة.

* أستاذ جامعي