كمال خلف الطويل، الطبيب العربي في الولايات المتحدة، ابن البيرة الفلسطينية والمولود في بيت لحم، هو باحث ومؤرخ لديه العديد من المقالات حول التاريخ السياسي للمشرق العربي والعلاقات العربية الأميركية. وهو عضو اللجنة التنفيذية في «مركز دراسات الوحدة العربية»، وعضو في الأمانة العامة لـ«المؤتمر القومي العربي»
لم تكن أميركا وأوروبا يوماً بهذا الحد من التصهين. هل صار الموقف السياسي من الحرب جزءاً من مشروع يتجاوز البعد المصلحي، في ظل تعاظم التيارات المتطرفة التي تستند إلى قواعد اجتماعية متأثرة بأفكار دينية؟
بدايةً، تعريف الصهيوني أنه الذي «يؤمن بحق «الشعب اليهودي» في تقرير مصيره على «أرضه التاريخية»، ومن ثم فعموم نخب وجمهرات الغرب صهيونية؛ حالٌ بدأ من مطالع العشرين وتنامى مذّاك، وبالأخص مع نجاح إسرائيل الباهر في حرب 1967، مع ما عناه من إضعاف حركة التحرر العربي.
التباين في التعريف هو حول مدى ذلك الالتزام: هل على كل «أرضه» أم غالبيتها أم جزء منها؟ وهل مع قيام كيان نقيض على الجزء الآخر أم بالحؤول دونه؟ والحال أن إخراج مصر من الصراع وتصفية تركة الناصرية فيها فتحا الباب على مصراعَيه أمام الغرب الجماعي ليثخن في جسد العالم العربي فتناً وغزواً وصراعات، واعتبار إسرائيل ركناً ركيناً له في وسطه، وركزاً يعوّل عليه للوكالة عنه فيه. بل حتى لمّا أتى الغرب الجماعي بقضّه وقضيضه إلى الشرق العربي، منذ 1990، فعلها وفي باله تمهيد الأرض أمام الوكيل الموكَل، في الإقليم وبه، كي يتفرّغ السيد لشؤون الكون كله.


تغاضى الغرب عن أن إسرائيل لم تفز بمعركة واحدة منذ 26 أكتوبر 1973، بل إنها كادت أن تهزم في الأيام الأربعة الأولى من حربها لولاه، فواصل الرهان بقوة الدفع. لذا وجدنا دولة الأمن القومي/ واشنطن تكتفي بكامب ديفيد المصري انتظاراً لاستسلام الشعب الفلسطيني ورضاه بالسردية الصهيونية قبل الإذن بكيان مسخ له تابع للوكيل، ثم التفكير بالالتفاف عليه في «إبراهيمية» تطبيع عربي مع إسرائيل تخرجه من الحساب.
ما جرى في 7 أكتوبر 2023 أن ذلك الغرب اكتشف، بصدمة الترويع، أن جيش إسرائيل - تساهل - فعل ماضٍ لا مضارع، فقفز، كالفالت من الخانقة، لينقذه ويرمم بنيانه علّه يقف على رجليه كي يسدّد لمن طوّح به أرضاً، ولمن قوّض تدابير السيد الإقليمية، ضربةً مقعِدة.
ما جعل «التصهين» فيّاضاً منذ هزيمة 7 أكتوبر هو ذلك الهلع المخلوط بفجور العنف، وفي لحظة لم يعد العالم فيها وحيد القطب.

يظهر موضوع إسرائيل كجزء من الملف السياسي الداخلي في أميركا. بمعنى: هل يمكن لكتلة ناخبة أن ترفع هذا العنوان إلى ما يوازي القضايا الاقتصادية والسياسية الداخلية؟
أهمية 7 أكتوبر أنها نقلت فلسطين/ إسرائيل إلى الأجندة اليومية للمجتمعات الغربية، والأميركي منها بالذات. باتت قضية رأي عام مَعِيشة؛ في المكاتب والجامعات، وفي المدارس والثكنات والمنازل ودور العبادة وفي كل مكان. تلك الصاعقة المتفشّية لم تجد ردّاً عليها إلا استفاقة مكارثية جديدة، صهيونية العنوان والموضة، تحاول ترهيب المتحررين، وأخيراً، من الافتتان بإسرائيل، وقد ضمّوا شباباً يهودياً بكثرة متنامية، فترى الترهيب في الجامعات، والتجريم بالقانون (مثل أنشطة مقاطعة إسرائيل). ومن عجائبيات المشهد الأميركي أن اليمين القومي الشعبوي يعجّ بالمغرمين عقائدياً بإسرائيل، وبعضهم جمع بين صهيونيته ومعاداته لليهود - وليس في ذلك تناقض، بالمناسبة. لكن الأهم أن ناموس ذلك اليمين الكوني انسحابي السمات (وليس انعزالياً)؛ ولمّا كانت انسحابية أميركا، بالضرورة، في غير مصلحة إسرائيل فهم مضرّون بها مهما هتفوا لها. هناك يسار الديموقراط الشاب، الذي يفرّق بين إسرائيل «العظمى» (الوكيل المفترض)، ويراها مشروعاً فاشلاً انبغى رميه في سلّة المهملات، وإسرائيل «العادية» (1967) مضفورة بدولة فلسطينية إلى جانبها: هم صهيونيون واقعيون.
ما بين الشريحتين أعلاه، لا أرى فرصة لخلطة الصقور الليبراليين زائداً المحافظين الجدد، المتنفذة في دولة الأمن القومي، في تمكين رمزٍ لها من البقاء في الرئاسة. لقد بات كادرها الوسيط والأدنى، ذاته، معترضاً على خبل قياداته المتهوّر.

كيف يبدو انعكاس ما يجري على واقع العلاقات بين الإمارات والسعودية مع الإدارة الأميركية؟
بدايةً، المهم في التحليل هي السعودية. وعليه، فمحاولة تقمّص دور حاكمها - وبرغم أقذار «العبرية» و«الشرخ الأوسخ» - يريني المشهد الآتي: مستر «الوكيل» تقازم قدْراً، بفعل نهش «حماس» له، ولم يعد جديراً بالتعويل عليه قبالة إيران، وبات لا بد من إضافةٍ لـ«دولة فلسطينية» إلى دفتر الشروط السعودية تجاه الكبير. فمن قبل 7 أكتوبر، ولكن بالأخص من بعده، لم يعد «الكبيرَ وحيد القطب»؛ ما أفسح الدرب لاتساع هامش أطرافه نسبةً إلى متن مركزه. استثناء ذلك كانت أوروبا، التي نجحت أميركا في تمتين «استعمارها»، على خلفية التهديد الروسي المفتعل أوكرانياً. وحتى هذا الحال ليس إلى دوام، أمام ما لحق بالقارة الهرمة من خسائر مروّعة بـ«فضل» ذلك الاستعمار.
الآن، لا أفهم استماتة الحاكم السعودي في طلب معاهدة حماية أميركية له، فأحادية قطبيته قد دالت، حتى ولو لم تصل لكتفيه بعدُ قوى منافسة، على رأسها الصين. حمايته تأتي من شعبه، لا مستعارة، كما أن فكرته عن «السعودية أوّلاً» تعني «مهيمن ثانياً»، إن كان إقليمياً كإسرائيل أو دولياً كالولايات المتحدة. أجدر به أن يفكر كحاكم دولة مركزية قائدة في العالمين العربي والمسلم، تستطيع صدّ ما يسوؤهما وفرض ما يريدان؛ في فلسطين وما بعد. لا أستطيع الآن ترجيح الرهان على بصيرته وتبصّره، لكن الأكيد أن نأيه عمّا أراه مكانَه نذير سوء له.

هل عادت قضية فلسطين عنواناً للمتابعة، أم هي عنوان اهتمام إعلامي وسياسي وإنساني مرتبط فقط بلحظة العدوان، وخصوصاً أن جيل بداية الألفية الجديدة بدا في حالة قطيعة مع هذه القضية؟
ما من شك أن زلزال 7 أكتوبر قد صدّر فلسطين قضية مركزية بامتياز، لا في الراهن، أو المنظور، فحسب، بل ولِما بعدَ بعد. لقد تحركّت موازين القوى، بالمعنى الشامل، بطريقة تكتونية اقتنصت لحظة تاريخية مواتية، تراكب فيها فشل واشنطن الأوروبي مع تفسّخ إسرائيل النسيجي (فضلاً عن تردّي أحوال «تساهل» عبر عقدين) لتمنح المقاومة الفلسطينية فرصة عمرها لقلب كل الموائد. مبكّر بعد الاسترسال في الاستشراف؛ لكن تداعيات الجاري منذ 7 أكتوبر تشي بزلزال لن يوفّر كثُراً.
فرع «الإخوان» الذي لا يصوّب بوصلته صوب فلسطين حكم على نفسه بالتلاشي


تبدو ردة فعل مصر ضعيفة جداً إزاء ما يحصل على حدودها، وهناك قلق من أن مصر لم تعد قادرة على القيام بخطوات كبيرة في كل ملفات العرب ما يجعلها خارج حسابات الدول الإقليمية النافذة. هل تتحمّل مصر الدولة، مصر الاقتصاد، ومصر التاريخ، أن يتم ركنها بعيداً؟
في «المسألة» المصرية، سبق لي أن نشرت عندكم منذ سنوات عدة مقالاً بعنوان «مصر: هل ذات صلة؟» («الأخبار»، عدد 1 نيسان 2014) فحواه أن مصر لا تعرف سوى اتّباع أحد نهجين: التنطّح لدور قيادي في محيطها، وذلك نادر الحدوث، أو الخضوع لقوى أكبر وأفعل، وهذا الراجح. على كلٍ، فحتى وهي في خضوع تحاول توسيع هامشها، وإن بتهيّب وجل: تجنيد سيناتور أميركي، شراء سلاح ومفاعل روسي، الامتناع عن التورط في حرب اليمن، ورفضها المضيّ في مطلب التهجير الغزاوي لدى واشنطن وتل أبيب. لا أرى مصر خارج ذلك الانحباس، والقياس على عبد الناصر خطأ شائع لا يصحّ؛ كان طفرةً ونسيجَ وحده.

هناك اعتقاد بأن قيادة «حماس» للحرب سوف تعيد الاعتبار إلى حركة «الإخوان المسلمين»، وكأن التنظيم الذي تلقى ضربات قاسية في حالة استعداد لجني ثمار ما قامت به «حماس»، من أجل استعادة حضوره وسط الشباب العربي والمسلم؟
لم أصدّق لبرهة أن هناك «تنظيماً دولياً» - فاعلاً - لـ«الإخوان المسلمين»؛ هو ربطة تضامن لا أكثر. وليست الصلة بين «حماس» وفروع «الإخوان» كالأواني المستطرقة، فكل فرع قُطري المزاج بامتياز: مثلاً، السوري ينظر شذراً لتحالفها مع إيران، والمصري في السجون أو تحت نظر النظارة، والمغربي سكت على تطبيع العرش والمخزن عنده، والليبي احترف الاقتتال الميليشياوي، وقس...
المتعافون منهم - بُوصلةً - هم الجزائري والأردني واليمني واللبناني، أمّا العراقي والتونسي فـ«يفتح الله»! فضلاً عن السوداني شريك دمار لبلده. معنى هذا الكلام أن فرع «الإخوان» الذي لا يصوّب بوصلته صوب فلسطين حكم على نفسه بالتلاشي، ومن فعل فقد مكّن نفسه من أسباب النماء. ليست هناك مسطرة واحدة للقياس؛ وحتى الكيان الإقليمي الذي اعتبره الجمع موئلاً لـ«الإخوان» - تركيا - له من حسابات المصلحة القومية ما يفيض عن رعائيته الإسلامية بكثير.

لا أفهم استماتة الحاكم السعودي في طلب معاهدة حماية أميركية له فأحادية قطبيته قد دالت


هل يمكن الرهان على هذه المعركة من أجل السير قدماً في مشروع وأد الفتنة السنية - الشيعية؟
لحرب غزة سمتان: فلسطينيتها الغالبة، ما حفظ لها ربح جمهورها في الإقليم، وحضور قضيتها خارجه. ثم «سنّيتها»! ما القصد؟ أنه بعد دزينة أعوام من انزياح ما بدت كتلة وازنة من أغلبية العرب الطاغية، أي السنّة، صوب الغرب «حليفاً» لها في وجه «الاستبداد» الرازح فوقها، تحت وهم المخلّص والمنقذ، انبثق مدفع «القسّام» ليعيد تلك الكتلة، أو جلّها، إلى بوصلة القدس. ولعل هذه النقطة بالذات ما جعلت واشنطن تخرج من عقالها حنقاً وصدمةً، وهي التي ظنّت أنها قد سوّت أرض الإقليم لمصلحة إسرائيل و«سُنّتها» فيه. وعليه، فدور شيعة الإقليم العرب، إن كانت إمامية في لبنان والعراق أو زيدية في اليمن، في إسناد غزة، وفي الخلفية إيران رافداً وداعماً، ظهّر لكلّ ناظر قيمة مقاوميه عرباً ومسلمين، وجهالة تنابذ بين - مذهبي في صفوفهم. أقول: إن مضيّ عقدين على تفعيل خطّ الفالق السني - الشيعي أشّر على قرب انطفائه تحت نار حرب غزة.

* مؤرخ وباحث عربي