شيءٌ ما حصل لدولة الاحتلال، شيءٌ ما لا يزال يحصل لها وهي تناور في متاهة السابع من أكتوبر. هذا الشيء غرائبي وقبيح، وهو ليس جديداً كلياً، وليس أيضاً قديماً كلياً. ففي أوج الحرب الأميركية على فييتنام، كان وزير الدفاع، روبرت ماكنمارا، يحاول في حينها بناء نظرية للنصر الأميركي، نظرية أدخلته التاريخ ليس كقائد عسكري متميز، بل كمغالطة. فقد أضحت مغالطة ماكنمارا عنواناً عريضاً في كراسات ودراسات الحرب في العالم كله. حوّل وزير الدفاع في حينه الحرب إلى مجموعة من النتائج الرقمية المبنية على ما يمكن قياسه من معطيات، وافترض أن كل ما لا يمكن قياسه هو غير مهم. ومن ثم أيضاً الوصول إلى استنتاج نهائي مفاده أن كل ما لا يمكن قياسه هو غير موجود. وهكذا غرقت أميركا في حرب كانت تظهر الحسابات الرقمية انتصارها، بينما كان صراع الإرادات على أرض المعركة يفيد بما هو عكس ذلك؛ أن الولايات المتحدة تخسر حرب الاستنزاف مع مقاومة شرسة لم تتوانَ عن الاستمرار ولم تستسلم أمام أرقام وقياسات اليانكي.في خضم الحرب على غزة، يبرز بعض المحللين الذين أعمتهم هزيمة الفرقة الجنوبية لجيش الاحتلال في السابع من أكتوبر ليستفيقوا قليلاً من الصدمة الأولية ويعبّروا عن مخاوفهم المتزايدة من أن دولة الاحتلال تواجه معضلة استراتيجية، غير قادرة على حسم المعارك في غزة وما زالت تؤجل معظم القرارات التي تتطلب الحزم والجزم. فهي، من جهة، لا تستطيع إنقاذ الأسرى لدى المقاومة ولا ترغب في إيقاف الحرب كشرط لإطلاق سراحهم عبر التفاوض. ومن جهة أخرى، لا تقدر على وقف القصف التدميري لغزة لإرضاء حلفائها وتخفيف وطأة التحولات الكبرى في الرأي العام العالمي، بما في ذلك في الولايات المتحدة، حيث أصبحت معاداة الصهيونية جزءاً من وعي جيل أميركي جديد. وهي، من ناحية أخرى، لم تتخذ قراراً جدياً بتوسعة الجبهة الشمالية والدخول في حرب أوسع مع لبنان، وتستقر في إدارتها للحرب على أرقام مصطنعة، تدّعي فيها قتل ما يقارب 8000 من مقاتلي المقاومة دون أن يكون لهذا الرقم دليل قاطع، بل هو مبني، حسب اعترافها، على معلومات تمتلك مستوى دقة منخفضاً إلى متوسط. تعلن مراراً وتكراراً أنها سيطرت على شمال القطاع، وتفيد معلومات عن قتلى الجيش بأن العديد منهم يسقطون في شماله، فضلاً عن إطلاق الصواريخ من الشمال. كل ذلك يحصل أمام خوف معارضي نتنياهو من أن تكون الحرب، أي حرب طويلة الأمد، هي الضامن الوحيد لبقائه في الحكم، وأن مغالطة ماكنمارا تأتي أيضاً ضمن سعي الأخير لاستدامة حكمه وتجنب المحاكم القضائية ولحظة المحاسبة على ما حصل في السابع من أكتوبر.
يُخفي ثقل الحدث والسعي لخلق سردية انتصار أنه لا توجد نظرية جادة، أو حتى حجة حقيقية يمكن البدء في بنائها نستطيع من خلالها رؤية انتصار إسرائيلي دون أن يكون بالحد الأدنى ثمنه حرب استنزاف طويلة شمالاً وجنوباً، دون القدرة على عودة حقيقية لحياة طبيعية في الداخل، تخرج منها دولة الاحتلال أفقر ومتهمة بأكبر جريمة في القرن الواحد والعشرين. حالياً، يعاني الاقتصاد الإسرائيلي من ركود، والتعليم العالي متوقف، والسياحة توقفت، والهجرة العكسية ازدادت، ولا يزال أكثر من مئتي ألف مستوطن من الشمال والجنوب خارج بيوتهم، موزعين في الفنادق والشقق في طول البلاد وعرضها. بينما يقتل بشكل يومي بين ٣ و٤ جنود، ويجرح عشرات آخرون.
لذا، تجد دولة الاحتلال نفسها في مواجهة واقع استراتيجي معقّد، ما يجعل تطلعاتها، بل حتى تقييماتها لمجريات المعركة طريقة للمحافظة على وهم الانتصار المطلق. هذا دون قدرتها على إدراك الواقع كما هو، إذ إن إدراك الواقع يعني اصطدام الأماني بالحقيقة، وبالتالي يتطلب تعاملاً مرناً معها. بعبارة أخرى، تتراكم الإحباطات في دولة الاحتلال، لكنها لا تزال عاجزة عن مواجهة الواقع أو التأمل فيه بشكل شامل، وهي معلّقة في هذه الحالة حتى الآن. في هذه النقطة بالتحديد تكمُن خطورتها، واليوم هي أمام ثلاثة خيارات:
إمّا التوجّه نحو حرب استنزاف طويلة الأمد تُثقِل كاهلها بخسائر جسيمة، أو توسيع نطاق الحرب وجبهاتها، أو الشروع في مفاوضات تنهي الحرب بشروط قد تكون غير محتملة بالنسبة إليها.
وبدلاً من أن تقدم على اختيار، تقرر عدم الاختيار، مدفوعةً أيضاً بالصراع بين قادتها حول تصورات مختلفة للواقع، بما في ذلك تصور نتنياهو لإمكانية النجاة السياسية من خلال الدفع بعجلة الحرب، وباسم ضرورة الوحدة في الحرب يبقى الملك بلا منازع.
يُعاد طرح السؤال المحوري: ما الخطوات التالية بعد الحرب؟ الإجابة عن هذا السؤال تبقى ملتبسة. الاستراتيجية الحالية تتجه نحو الاستمرارية، وليس هذا فحسب، بل هناك جهود متعمدة لتعزيز الصمود النفسي لدى المجتمع الصهيوني، استعداداً لحرب طويلة، شمالاً وجنوباً، وترسيخ مفهوم الضرورة في التضحية بالأبناء وتحمل العبء الاقتصادي. بعد السابع من أكتوبر، استقر في المجتمع الصهيوني مستوى معين من القدرة على التحمل والتضحية، نتيجة للعمليات الكبرى وتأثيرها السلبي على سمعة الجيش والدولة، والقلق الشديد الذي زُرع في النفوس. هذا المستوى من المرونة تقبل التضحيات هو ما تسعى القيادة العسكرية إلى الحفاظ عليه، ما يدفعها نحو حرب نفسية وإعلامية موجّهة داخلياً، تُعلي من شأن الإحصاءات الرقمية للمعركة وتسعى جاهدة لإخفاء أو التقليل من وضوح تكلفة المعركة في قطاع غزة: الجرحى، والجنود الخاضعون لإعادة التأهيل، والأضرار النفسية، وحتى القتلى الذين لم تتسرّب قصص موتهم إلى الوعي الصهيوني بشكل كبير.
ومن الممكن أن تكون إحدى نتائج عملية «طوفان الأقصى» أن القيمة المُعلّقة لجسد المستوطن في فلسطين قد تدهورت، بمعنى أنه لم يعُد قيمته كما كان، بحكم أعداد القتلى وأعداد المخطوفين، وضرورات التضحية بالمزيد، بل حتى التفكير والنقاش العلني الذي يدور بين أقطاب اليمين التي ترى أن المجتمع الصهيوني ونجاته أهم من عودة المخطوفين، وبين أهالي الأسرى لدى المقاومة الذين يريدون العودة السريعة لأبنائهم حتى لو كان على حساب إيقاف الحرب. وبطبيعة الحال، هذا النقاش له أيضاً تداعياته على عملية جذب المستوطنين الجدد من أنحاء العالم بعد أفول الحرب، وعلى بقاء العديد منهم في دولة الاحتلال، أو عودة العديدين إلى بيوتهم في الشمال أو الجنوب. ففشل الدولة في حماية المستوطن يصحبه أيضاً فشل في تقدير قيمته، لأن تلك القيمة أيضاً تمنح المقاومة حيز مناورة، وإخفاض قيمة المستوطن معناه أيضاً انخفاض قيمة دولة الاحتلال كمنطقة جذب للمستوطن الأوروبي والأميركي.
لكن لضمان نجاح الاستراتيجيات، يجب على دولة الاحتلال إمّا أن تعمل على فصل الجبهات، أو أن تخوض حرباً شاملة على كل منها. وبمعنى آخر، لكي تستطيع خوض حرب استنزاف طويلة الأمد مع الحفاظ على الحياة الطبيعية لمجتمعها، وأن تخوضها على أرض غزة، فإنها بحاجة إما إلى اتفاق يُحيّد الجبهة اللبنانية، أو إلى فشل في التوصل إلى هذا الاتفاق، ما يدفعها إلى حرب أوسع، أو أن تُجبر على الرضوخ لشروط وقف إطلاق النار التي تجمع بين الجبهتين، ما ينهي الحرب تحت سقف الطموحات الإسرائيلية.
أخيراً، أعلنت دولة الاحتلال أنها جاهزة أيضاً للاستيلاء على محور فيلادلفيا، وأنها قد وسعت من عملياتها العسكرية في خان يونس ومنطقة الوسط في قطاع غزة، وتأتي هذه الإعلانات كأدوات ضغط على المقاومة في غزة، وكتحديد لأهداف المرحلة المقبلة، بهدف الوصول إلى هدنة ولكن دون وقف إطلاق نار شامل مع إطلاق جزء من الأسرى لدى المقاومة. وهنا عمليات التدمير الممنهج التي قام بها الاحتلال ضمن فتح أفق التهجير تجعل المزاج العام في قطاع غزة نفسه يفضل تحقيق إنجاز ينهي الحرب على أي وقف مؤقت لإطلاق النار، فأحياناً ما يكون حجم الخسارة المادية والبشرية محفزاً لمعادلة تعلي من استمرار المعركة على توقف مؤقت.
ها هي «متلازمة غزة» تبدأ بأخذ شكلها في الوعي الصهيوني، حيث تتجلّى في السعي لتحقيق انتصار مطلق في منطق عسكري لا يمنح سوى الهزائم أو الانتصارات النسبية


بمعنى آخر، تسعى دولة الاحتلال إلى تحقيق نصر مطلق، أو نصر يغيّر المعادلة برمّتها لمصلحتها، مستغرقة في حسابات يومية حول عدد فوّهات الأنفاق التي دمرتها، أو أعداد مشكوك فيها للمقاتلين الفلسطينيين، وتفكيك بنية المقاومة، أو السيطرة الكاملة على الفضاء. كل هذه الادعاءات تتأرجح بين الحقائق والمبالغة، لكن الأهم هو تجاهلها لما لا يمكن قياسه، أو ما لا يمكن تحويله إلى صيغة رقمية، بما في ذلك الميزان النفسي والمأزق الاستراتيجي ولغة الحرب التي تجرّ دولة الاحتلال نحو خيارات بدون القدرة على الحسم، وتضعها في شبكة معقدة من المعضلات التي تطمح للخروج منها متفوقة. ولكن ما يتضح أن حرباً طويلة الأمد في غزة اليوم تحتاج إلى حل للتأزيم الإقليمي وخاصة في باب المندب، وفي الجنوب اللبناني.
كانت المغالطة التي وقع فيها الدفاع الأميركي في حربه ضد فييتنام مكلفة، لأنها أدت إلى إطالة أمد الحرب دون تحقيق النتائج المرجوة. بل أوجدت أيضاً «متلازمة فييتنام»، وهي متلازمة تجنب الحروب البرية. وها هي «متلازمة غزة» تبدأ بأخذ شكلها في الوعي الصهيوني، حيث تتجلى في السعي لتحقيق انتصار مطلق في منطق عسكري لا يمنح سوى الهزائم أو الانتصارات النسبية. وفي حين يتراكم الإحباط، لا يتشكل هذا الإحباط من ارتطام واقعي وشامل مع الحقائق، بل يكون الإحباط جزءاً من تلك الأمور التي لا يمكن حسابها أو ترجمتها إلى أرقام وإحصاءات. إنه إحباط دموي ومدمر ومكلف، حيث تسعى دولة الاحتلال إلى انتصار مثالي يعيد إليها صورتها كدولة قوية تمتلك عوامل الردع ولا يمكن المساس بها، دولة يمكنها أن تستقر وتُثبِّت وجودها في المنطقة العربية. هذا يخلق حالة دائمة من الإحباط لأن «النصر المثالي» غير قابل للتحقيق، ما يؤدي إلى خيبة أمل ممزوجة بعدوانية، وهو إحباط دموي يجعل الفاعل السياسي غير قادر على رؤية الواقع وفي الوقت نفسه غير قادر على تحقيق هدفه المثالي، فيبقى في حالة معلّقة.

* باحث فلسطيني