الحديثُ هنا عن كتاب فواز طرابلسي الجديد، «زمن اليسار الجديد»، الصادر عن دار رياض نجيب الريّس. وتتعدّد الأسباب في تحليل الهزيمة في عام 1967، والتي يورد فواز طرابلسي بعضها من دون الانجرار إلى درك الثقافويّة الاستشراقية التي وقع فيها أدونيس وصادق جلال العظم (وهشام شرابي في ما بعد). أما حول موضوع أن جمال عبد الناصر أخطأ في عدم المبادرة في الحرب الذي يورده طرابلسي (ص. 114) فهذا صحيح؛ لقد صدّق الوعد الأميركي بأن إدارة جونسون ستلوم الطرف الذي سيبادر إلى إطلاق النار. كان فهم عبد الناصر للسياسة الغربية متقدّماً على فهم الحكّام العرب وهو كان يحذّر في خطبه من النوايا الأميركية، لكنه في تلك اللحظة التاريخية ظنّ أن أميركا ممكن أن تلوم إسرائيل لو هي بادرت بالحرب. وهذا الفخ نفسه الذي وقع فيه ياسر عرفات في قمّة «كامب ديفيد» مع إيهود باراك في آخر عهد بيل كلينتون عندما دعاه الأخير ووعده بأنه ليس هناك ما يخسره وأنه لن يلومه لو لم يقبل بالعرض الإسرائيلي. ماذا فعل كلينتون عندما رفض عرفات العرض؟ سارع إلى المنبر في البيت الأبيض ولام عرفات على فشل القمّة. لسبب ما، لا تزال أطراف عربية عديدة تأمل أن تتصرّف أميركا في الصراع مع إسرائيل بشيء من الحيادية. في لبنان، لا يزالون يتعاملون مع «الوسيط الأميركي»، عاموس هوكشتين، (حامل الجنسيّة الإسرائيليّة) على أنه نزيه ومحايد.

أيّد المؤلف الكفاح المسلّح لكنه رفض مقولة أن المقاومة الفلسطينيّة ستشكّل «رافعة الثورات العربية» (ص. 115). هذه النظرة سادت في اليسار الفلسطيني وخصوصاً شعارات «الجبهة الشعبية»، ومفادها أن تحرير فلسطين سيمرّ بالضرورة من العواصم العربية. وفي المراجعة التاريخية، يبدو حذر المؤلّف صائباً. فشلت المقاومة الفلسطينية (أو اليسار الثوري) في تغيير الأنظمة، لا بل إن محاولاتها استجلبت عداء شعوب تلك الدول، على غرار ما جرى في لبنان وفي الأردن. وصحيح أن عمليّة التثوير والتغيير كان يمكن أن تكون بصورة مختلفة بالكامل، ومن دون استعراض أو رفع شعارات مُنفِّرة للجمهور (مثل شعار «كل السلطة للمقاومة» الذي رفعته «الجبهة الديموقراطية» في الأردن عام 1970). فكرة التثوير ليست خطأً طبعاً، لكن مسار وجود المقاومة في الدول العربية لم يهتم ببناء علاقات مع الجماهير ربما بسبب الاعتداد بقوّة السلاح، كما حصل في لبنان. وبالطبع، كانت هناك تعبئة وتحريض ضد المقاومة، وتؤكد الوثائق الأميركية أن المكتب الثاني اللبناني كان يحرّض (ويسلّح) أهل الجنوب أملاً بحماية إسرائيل وطرد المقاومة مبكراً من لبنان.
يستشهد طرابلسي بحديث ياسين الحافظ عن ظاهرة الشخبوطية، في إشارة إلى تأخر اجتماعي وأيديولوجي وتراكم مال غير مقرون بالإنتاج. والظاهرة هذه تتجلّى في أيامنا أكثر من قبل بسبب السطوة التي نالتها أنظمة الخليج بعد تدمير الدول والمجتمعات في ليبيا والعراق وسوريا ولبنان. لم يعُد هناك معارضة للطغيان الخليجي ولم يعد هناك إعلام مُغايِر باستثناء الإعلام المرتبط بمحور المقاومة، وهو صغير الحجم والتأثير.
الصراع داخل «منظمة العمل الشيوعي» لم يقلّ عن الصراع خارجه، بينها وبين «الحزب الشيوعي» وباقي الأحزاب الأخرى


ويروي طرابلسي، الذي قضى وقتاً في الدراسة في بريطانيا بعد عام 1968، حيث تركّز نشاطه على الدعوة من أجل القضية الفلسطينية، قصته مع مجلّة «نيو لفت ريفيو» اليسارية. حينذاك، طلبوا من فواز مساهمة، فكتب دراسة طويلة عن فلسطين. لكنّ المسؤولين اليساريّين في المجلّة، لم تعجبهم المساهمة وكان المعترض الأكبر، بيري أندرسون (ص. 121). قام المعترضون بنشر ردّ على المقالة في العدد نفسه، لكنهم ذيّلوا الردّ بتوقيع اسم عربي مزيّف، مع أن كاتبه كان روبن بلاكبورن، والذي سحب أندرسون اسمه من العدد. اليسار الغربي لم يشذّ عن عنصريّة وانحياز الصهيونية، وتوضّحت معالم هذا اليسار كثيراً أثناء الحرب في غزة، عندما يعترض برني ساندرز (يُعتبر الاشتراكي الوحيد في مجلس الشيوخ) على فكرة وقف النار في غزة. كذلك نشط طرابلسي في دعم الحركات والثورات في شبه الجزيرة العربية، فيما كان الوطنيون والتقدميون العرب ينأون بأنفسهم عن مسألة الخليج، كون في ذلك حماية لمكتسبات وامتيازات ماديّة لهؤلاء، فضلاً عن فرص في العمل في الإعلام الخليجي. قد لا يعرف البعض أن كتاب فرد هاليداي، «شبه الجزيرة العربية بدون سلاطين»، هو من تأليف مشترك بين هاليداي وطرابلسي (مع أن هاليداي احتكر اسم المؤلّف بالرغم من مساهمة طرابلسي في الكتابة). وللمفارقة، فإن طرابلسي هو مَن عرّف هاليداي إلى اليسار والقوميّين في شبه الجزيرة وسافر معه إلى هناك.
وعندما كان طرابلسي يعدّ أطروحته في جامعة لندن مع الصهيوني المتعصّب، بي جي فاتيكوتس، والذي كان معروفاً بشدّة كراهيته لعبد الناصر، تزامن خلاف طرابلسي مع أستاذه مع تشكيل «منظمة العمل الشيوعي» في لبنان. الطريف أن «منظمة الاشتراكيّين اللبنانيّين» (الذين جاؤوا من خلفيّة حركة القوميّين العرب) كانوا في البداية من دعاة التنظيم الأفقي والعمل الشعبي. لكن هؤلاء أنفسهم (أو على الأقل زعيمهم محسن إبراهيم) سرعان ما تحوّلوا باتجاه شديد اللينينية المركزية. المنظمة عند انطلاقتها أرادت الفصل بين نسقها في الشيوعية ونسق «الحزب الشيوعي اللبناني»: أيّدت الكفاح المسلّح ضد إسرائيل (لكن ليس بأيدٍ لبنانيّة) وعارضت تبعيّة «الشيوعي اللبناني» للاتحاد السوفياتي و«نزعة المصالحة الطبقيّة» (ص. 130)، كما عارضت مقولة التطوّر الرأسمالي التي طلع بها منظّرو الاتحاد السوفياتي لتسويغ التحالف مع أنظمة عربية غير شيوعية (أو معادية للشيوعية).
وكانت توافدت أجنحة مختلفة إلى «منظمة العمل الشيوعي» عند، أو بعد، التأسيس، ومنها «التيار اللينيني» داخل «الحزب الشيوعي» و«الوسط الطالبي الفرنكوفوني» و«المجموعة التروتسكيّة». وانضمّت إليها أيضاً كوادر من «الشيوعي اللبناني»، ومجموعة ماويّة متشدّدة انطلقت من «الحركة الطالبيّة الثانويّة» (ضمّت نواف سلام). كما انضمّ إليها خارجون عن «حزب العمال الثوري العربي» (الذي أسّسه ياسين الحافظ)، وبعض القوميين السوريين، وأناس من «حركة الشباب الزغرتاوي» ومن «جمعية شباب تنّورين»، وخرّيجون من «حركة الشبيبة الأرثوذكسية»، وأفراد من «مجموعة طانيوس شاهين»، بالإضافة إلى منشقّين عن حزب «الطاشناق». وعلى هذه الخلفية، أفهم اليوم لماذا نظرت «منظمة العمل» إلى تجربتها، في تلك الحقبة بالحد الأدنى، على أنها «يسار جديد». لم تكن المنظمة شيوعيّة أرثوذكسية موالية لموسكو أو لخالد بكداش. قرأتُ عن عناصر تكوين التنظيم وأسماء المنضمين (الكثير منهم أصبحوا معروفين في ما بعد في عالم السياسة والأدب والفنّ)، وشعرتُ بالغيرة الشديدة: كم كان الانضمام إلى هذه التجربة الجديدة مثيراً ومشوّقاً يومها، خصوصاً أن المنظمة كسرت النمط الشيوعي «الكومنترني» النشأة. لكن سرعان ما أدركتُ أن عناصر التفكيك والتشرذم وُلدت في التنظيم الجديد. هذه مجموعات متنافرة وخليط غير متناسق أيديولوجياً ومتعارض تنظيميّاً. ثم إن هذه الأسماء المعروفة ليست إلا عنواناً لظاهرة «اليساريّين السابقين» الذين انضمّوا في ما بعد إلى اليمين، الحريري أو الخليجي، لا فرق. صحيحٌ أن الكثير من الذين انضمّوا إلى التنظيم لم يعمّروا فيه أبداً، وهجره معظم المؤسّسين، وقد يكون طرابلسي هو الوحيد الذي حافظ على ولائه للتنظيم لسنوات طويلة، لكن من اللافت أن شخصيّة محسن إبراهيم المركزية كانت شديدة الجذب لقطاع الطلاب والمثقّفين، مثل ميشيل عفلق تماماً: الرجل الذي ينبذ الأضواء والفاقد للحسّ الجماهيري وكان شديد التأثير على المثقّفين. إلا أن محسن إبراهيم كان أمهر من عفلق في ألاعيب السياسة، التي أطاحت بعفلق وهمّشته مبكراً في داخل حزبه.

لم يكن ثمّة إجماع حول أولويّات النضال ونوعه. وهذا النقاش لا يزال جارياً في أوساط أفراد من اليسار في لبنان


والجدير ذكره، أن «منظمة العمل» انتهجت سياسة تحريض عمّالي، لكنها كانت فوقيّة. كان ذلك شبيهاً بتجربة سكن وضّاح شرارة في وسط عمّالي لكسب تأييد الطبقة العاملة. لم تكن الظاهرة محصورة بالمنظّمة وحدها، لكنّ الأخيرة كانت تنظيم مثقّفين أكثر من معظم المنظمات والأحزاب الشيوعية في لبنان. وهذا التكوين جذب إليها المزيد من المثقّفين، لكنّ هؤلاء قصيرو النفس، ما يفسّر الهجرة المبكّرة منه، لكن ليس هذا ما يفسّر ارتداد الكثيرين من اليسار إلى اليمين.
يقول طرابلسي إن الخلاف احتدم مع «الحزب الشيوعي اللبناني» مبكراً، وحول الموقف من «دخول المقاومة الفلسطينية إلى لبنان» (ص. 134) والمنافسة على كسب الطلاب والعمّال، وتطوّرت الخلافات إلى اشتباكات في الجامعات، على ما يروي المؤلّف. وانعقد المؤتمر الثالث لـ«الحزب الشيوعي اللبناني» عام 1972، بعد أن نال الحزب الرخصة الرسميّة، فيما كانت المناسبة احتفاليّة كبيرة حضرها ممثّلون من الدولة ومن كل أنحاء العالم. وعندما انحاز كمال جنبلاط إلى «الحزب الشيوعي» في خلافه من اليسار الشيوعي البديل والثوري الذي كان ينبتُ، قال في خطاب أمام المؤتمر إن الخطة «التي اتبعها الحزبان اليساريان الرئيسيان (الحزب الشيوعي والحزب التقدمي الاشتراكي)... كنّست من ميدان السياسة اللبنانية جميع الشلل المعتقديّة الضالّة التي ضلّلت سابقاً بعض الطلاب والمثقّفين وبعض الجماهير المحدودة»، بحسب ما يروي طرابلسي (ص. 134). لكنّ فواز يتحدث هنا عن الخلاف مع جنبلاط و«الحزب الشيوعي» حول الحلّ السلمي من دون أن يوضّح موقف المنظمة بالتحديد.
على أن الصراع داخل «منظمة العمل» لم يقلّ عن الصراع خارجه، بينها وبين «الحزب الشيوعي» وباقي الأحزاب الأخرى. لم يكن ثمّة إجماع حول أولويّات النضال ونوعه. فكّر إبراهيم بالتنحّي لكن مبادرة من وضاح شرارة عجّلت في عقد مؤتمر أوّل في نيسان 1971. اختلف المؤلّف مع وضّاح مبكراً، ووقعت «قطيعة» بينهما. رفض شرارة صيغة الديموقراطية المركزية لكنه لم يقدّم بديلاً عنها. واقترح البعض وضع كلمة اشتراكية في اسم المنظمة بدلاً من الشيوعية لتجنّب تنفير الناس من شبهة الإلحاد. وفيما كانت أسماء القيادة نتاج اتفاق بين إبراهيم وشرارة، ومارس التنظيم إجراءات قمعيّة ضد مظاهر تمرّد في «المكتب العمّالي»، يعترف طرابلسي بدوره «الأبرز» والأشرس في الإجراءات التي أدّت إلى خروج الأعضاء من التنظيم (ص. 139). اختلفوا حول أولويّات النضال: هل يكون الوطني أو الاجتماعي؟ (هذا النقاش لا يزال جارياً في أوساط أفراد من اليسار في لبنان خصوصاً بعد الانهيار المالي). وترك المنظمة مَن أولوا الأهميّة للنضال الوطني، والتحقوا بصفوف المقاومة الفلسطينيّة (من مثل محمد كشلي، الذي أصبح في ما بعد مستشار رفيق الحريري لشؤون قمع الحركة العمّالية، ويُقال إنه أجادَ في دوره في التخريب على الحركة العمّالية في التسعينيّات). وغادر التنظيم بعض الماويّين اعتراضاً على تأييد المكتب السياسي لتأميم نفط العراق، واعتبروا ذلك «تنازلاً للبعث» (ص. 140). هؤلاء التحقوا بحركة «فتح»، يا للغرابة! وأيضاً، انضمّ فريق آخر من المغادرين إلى «الشيوعي اللبناني».
يفصِّل طرابلسي النقاش حول التنظيم المُعتمد في المنظمة، وكانت هناك وجهة نظر المؤلّف التي تقول بانتهاج ديموقراطيّة مركزيّة، فيما ناصر آخرون فكرة وضّاح شرارة بتبنّي «الخلويّة الأفقيّة» التي ترفض الانتخاب التمثيلي في التنظيم. وكانت الخلايا مستقلّة عن بعضها البعض (ص. 142). وطرابلسي على حق أن الخلوية الأفقية لاءمت «لبنان الاشتراكي» لأن وضاح شرارة كان المُهيمِن في التنظيم، وفي بداية تجربته القصيرة في منظمة العمل الشيوعي. إثر ذلك، غادر معظم أعضاء «لبنان الاشتراكي». تقرأ عن تلك الانقسامات والانشطارات وتتعجّب أن التنظيم عاشَ لسنوات طويلة بعد التأسيس/ لكنه عاش كتنظيم مختلف كلياً عن التنظيم الذي تكوّن في التأسيس.
(يتبع)
* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@