إنّ منشأ هذا المقال والدافع إلى تسطيره، هو عدم التفات البعض إلى الوظيفة الأساسية للمقاومة في لبنان وفلسفة وجودها، إذ قد يرى أنّ هذه الوظيفة تُحصر إجمالاً في تحرير الأرض.وعليه، عندما يحصل التّحرير تنتفي وظيفة المقاومة، وبالتّالي لا يبقى من داعٍ لوجودها واستمرارها، لأن مبرّر هذا الوجود لم يعد موجوداً؛ وفي هذه الرؤية كثير من السذاجة، إن لم نقل أكثر من ذلك، لأن هؤلاء يخلطون بين إستراتيجية الدفاع وإستراتيجية التحرير، إذ إن إستراتيجية الدفاع تعني - إضافة إلى التحرير - ممارسة أقصى درجات الردع، بهدف الحؤول دون العدوان، في حين أنّ أقصى غاية إستراتيجية التحرير هو - بشكل أساسي - تحرير الأرض من الاحتلال، وهنا ينتهي دورها.
وما ينبغي قوله هنا هو إن الإستراتيجية التي يجب أن تُعتمد مع العدو الإسرائيلي هي إستراتيجيّة دفاع، فلا تقتصر على مجرد تحرير الأرض، ولا ينتهي دورها هنا، بل تكمل دورها في الدفاع عن الوطن، وردع العدو عن المبادرة إلى أي عدوان، والحؤول دون أي اعتداء على لبنان وشعبه وأرضه وحقوقه، ومصالحه...
وعليه، فإن القول بإستراتيجية الدّفاع مع العدو الإسرائيلي، إنما يعود إلى خصوصيات هذا العدو، وملابسات الصراع معه، وهو ما يمكن إيجازه في النقاط التالية:
1- إن هذا الكيان هو كيان عنصري، متطرّف، عدوانيّ توسعي، استعلائي. يمارس العنف بأعلى درجات الساديّة والتوحش، ولا ينظر إلى بقية الشعوب على أنهم بشر لهم حقوقهم. المعيار لديه فقط ما يراه من مصلحة له. وعقيدته استخدام آلته العسكريّة وقوته لتحقيق مصالحه. يحتل حيث لا رادع. ويقتل حيث لا عقاب. ويعتدي حيث لا حساب. ويمارس العدوان حيث لا أثمان يدفعها جراء عدوانيّته.
2- ماذا عن مجمل التجارب مع هذا العدو في المنطقة، من لبنان إلى فلسطين إلى غيرها؟ هل تثبت هذه التجارب أنه يمكن الاطمئنان أمام خطره؟ أم يمكن الركون إلى سوى الردع، في ظلّ تهديده؟ أم يمكن الوثوق بغير القوى والإمكانات الذاتية أمام ما يرتكبه من مجازر وعدوان، وحروب إبادة، لن يكون آخرها ما يحصل في فلسطين اليوم؟ فهل يمكن لعاقل أن يتخيّل - أمام هول هذه التجارب وقسوتها - أنه من الصحيح في يوم من الأيام، ألّا يكون من قوة ردع كافية أمام هذا العدو وشبقه إلى القتل والإجرام؟ وألّا يكون من ردع قادر على تعطيل ميله إلى الاحتلال والعدوان؟
3- هل يعتني هذا العدو بالقوانين الدّوليّة؟ هل يلتزم بتلك القرارات الصادرة عن المؤسسات الأممية ذات الصّلة؟ هل يحترم العهود والمواثيق؟ أم أنه لا يعبأ بمجمل ما تقدم؟ ألا تدلّ مجمل التجارب، طوال العقود السبعة، مع هذا العدو أنّه لا يحترم أيّاً من القرارات، أو القوانين الدولية، ما دام أنه لا توجد قوة ردع تحول دون تجاوزها، أو قوة قاهرة تلزمه بها؟
4- من هو حليف هذا العدو، الذي يمدّه بما يحفظ له تفوّقه في أكثر من مجال؟ هو القوة الأولى في العالم عسكريّاً واقتصاديّاً، أي الولايات المتحدة والغرب، إذ إنّ هذا الدعم الذي يتلقّاه من حليفه هذا سياسيّاً، وعسكريًاً وأمنيّاً وديبلوماسيّاً واقتصاديّاً... يوفّر له مزيداً من الإمكانية لتحقيق أهدافه وممارسة عدوانه، من دون حساب لحقوق أو حدود أو قوانين أو قرارات أو سوى ذلك، إلّا في حال كان من قوة ردع تلجم غطرسته وتكبح عدوانه.
5- هل لدى الدولة اللبنانية ومجمل قواها العسكرية والأمنية من قدرة كافية على ردع هذا العدو؟ والجواب - بكل وضوح - لا، وجميع التجارب ذات الصلة، وتجارب المواجهة في لبنان على وجه الخصوص، تثبت أن القوى النظامية لا تستطيع مواجهة الجيش الإسرائيلي وتفوّقه في مجمل تلك المجالات.
6- لدى العدو الإسرائيلي جميع دوافع الانتقام من لبنان وشعبه، والتعدي على مصالحه وحقوقه وسرقة مياهه وثرواته؛ وعليه، إن لم يكن من مقاومة بعد التحرير، كيف يمكن حماية أنفسنا وأرضنا وسيادتنا وثرواتنا من أي اعتداء غداً، أو بعد غد، أو في مستقبل الأيام؟
وعليه، نحن أمام عدو بهذا المستوى من التوحش والاستعلاء والعنصريّة والنزعة العدوانيّة؛ وهو يقدّم كلّ يوم دليلًا على إجرامه، ونزوعه إلى القتل والاعتداء، كما تدلّ عليه التجارب على مدى عقود متطاولة من الزمن؛ وهو لا يحترم أياً من القوانين الدّوليّة، أو القرارات الأمميّة، أو أي حقوق للإنسان، أو عهود أو مواثيق؛ وهو عدوّ احتل أرضنا، وقتل شعبنا، ودمّر بيوتنا، واعتدى على حقوقنا، وانتهك سيادتنا، وعاث فساداً وظلماً في حواضرنا؛ ويلقى الدّعم في كلّ ذلك من الغرب وأميركا، ما يوفر له جميع أدوات الإبادة والدمار؛ وهو عدو لديه جميع دوافع الانتقام من لبنان وأهله، وعناصر القوّة فيه؛ وهو عدو لا توجد أي قوّة يمكن أن تردعه عن عدوانه ووحشيته سوى قوة المقاومة، كما أثبتت ذلك التّجارب الواضحة، والطويلة، والمستدَلّة، والمقنعة، في حين أن الدّولة اللبنانيّة، بمجمل قواها العسكريّة، لا قدرة لها على هذا الردع؛ أمام هذه المقدمات، هل يمكن لمنصفٍ أن يقول إنه من الحكمة بمكان أن نتخلّى غداً عن قوة الردع الوحيدة لدينا في لبنان؟ أو أن نجرد أنفسنا، بعد استعادة الأرض، من العامل الوحيد الّذي يحول دون العدوان؟ وكأننا في هذا نُغري العدوّ بالعدوان علينا، أو ندعوه مجدّداً إلى الاستخفاف بنا، والتعالي علينا، وانتهاك سيادتنا، واستعادة طريقته السّابقة في التعامل معنا؛ فماذا سنفعل -بعد أن نتخلّى عن المقاومة - إذا بادر هذا العدو غداً إلى عدوان أو آخر، فيما لو رأى أنّ له مصلحة في ذلك، أو سبباً اخترعه لعدوانه؛ فمن يحمينا، ومن يدافع عنا؟ ومن يحول دون قتلنا؟ ومن يمنعه من ارتكاب المجازر بحقّنا؟ أم إن هناك من يستخفّ بواحدة من أهم حقوق المواطن على دولته وواجبها أمامه، وهو حقّه في الحياة بأمن وأمان وكرامة، والدفاع عنه، وحماية أرضه وعرضه، ومجمل سبل العيش لديه؟ أو إنّ هناك من يريدنا أن نعود إلى الزمن الرديء، حيث كان لبنان مستباحاً من قبل العدو الإسرائيلي وجيشه، يقتل، ويعتدي، دون حسيب أو رقيب؟
بناءً على ما تقدّم، لا بدّ من الوصول إلى ما يلي من استنتاج، ونصوغه على شاكلة هذا السؤال: لو لم يعد لنا مقاومة - بعد التّحرير-، وأراد هذا العدو، انسجاماً مع طبيعته العدوانيّة والتّوسعيّة، أن يعتدي على لبنان وشعبه، وحقوقه، وثرواته، وهو يعلم أن لا قوة تزجره، ولا مؤسسات دولية تمنعه، ولا ما يسمى مجتمعاً دوليّاً، أو نظاماً عربيّاً، أو عالماً إسلاميّاً يقف في وجهه، ولا عهود أو مواثيق تحول دون عدوانه، ولا قيم إنسانيّة أو حقوق إنسان تردعه؛ ففي هذا الحال، ما الّذي يمكن للبنان أن يفعله؟ ماذا لو رأى هذا العدوّ غداً أنّ له مصلحة ما في إعادة الاحتلال، أو القيام بأي اعتداء، أو السّطو على أيّ من الثروات، أو ارتكاب أيّ عدوان، فمن الّذي يحول دون حصول ذلك؟ وما الّذي يردع العدوّ عنه؟ وهل من ضمانة لعدم حصول ما تقدّم؟ وهل يمكن المغامرة في مثل هذه القضايا على هذا المستوى من الأهمية والخطورة؟
إنّ النتيجة الّتي نخلص إليها، أنّه أمام مثل هذا العدوّ الإسرائيليّ، إن أردنا أن نحمي لبنان، ونردع عنه أي اعتداء أو عدوان، لن يكون لدينا من سبيل سوى المقاومة، وقوة الرّدع الّتي تملكها، سواء قبل التّحرير أم بعده، وهذا ما أثبتته التّجربة الطويلة مع هذا العدوّ، الّذي لم يكن في تاريخه مردوعاً بالمستوى الّذي عليه اليوم؛ فهل يمكن لوطنيّ عاقل، أن يفارق التّجربة الناجحة في حماية لبنان من هذا العدوّ، ليستعيد التّجارب الفاشلة معه؟ وهل يمكن لذي حجى أن يرتضي أن يتخلّى عن قوّة الرّدع الوحيدة الّتي تحول دون معاودة عدوانه، وهو يعلم أن لا شيء آخر -سوى المقاومة - قادر على ردعه؟ أليس في هذا استدعاء للعدوّ لمعاودة عدوانه، أو إغراء له باستئناف احتلاله، أو تشريع للأبواب من جديد أمام اعتداءاته؟
وخلاصة القول: كما نحتاج إلى فعل التّحرير، فإنّنا نحتاج أيضاً إلى فعل الحماية والرّدع. وإنّ التّجربة الّتي أثبتت نجاحها في التّحرير، هي التّجربة المجدية في الرّدع. وإنّ الأسباب الّتي استدعت التّمسك بهذه التّجربة في التّحرير، هي نفسها الّتي تستدعي الإبقاء عليها في الدّفاع.