كنتُ عام 1994 واحداً ممن التحقوا بمعسكر التدريب التزاماً بمتطلبات قانون «خدمة العلم»، الذي شُرّع لإيجاد بيئة تنصهر فيها فئات المجتمع اللبناني بعد سنوات الحرب التي فرّقت بينها. والحديث عن الحرب ودور العدوّ الإسرائيلي فيها له محلّ آخر. «الإسرائيلي» هو العدوّ، هذا ما كنّا نسمعه من الضبّاط ممن تناوبوا على إعطاء حصص تدريبيّة، وهذا يمثّل أساساً في العقيدة القتالية للجيوش. ومعرفة من هو العدوّ لا تقتصر على تسميته، بل ما يريد تحقيقه. وهذا لا يغيب عن الباحث الحصيف، إذ يمكن التثبّت من ذلك، عبر الاطّلاع على ما كتبه قادة الحركة الصهيونية ومؤسّسو الكيان الصهيوني في نهايات القرن التاسع عشر؛ وعبر تحرّكاتهم الهادفة إلى إقامة وطن يهودي تشمل حدوده الشمالية نهر الليطاني، وبعضهم أرادها أن تشمل نهر الأوّلي شمال صيدا.
دفعتني إلى كتابة هذه الوقائع، أدناه، مغالطاتٌ وردت في صحيفة لبنانية لكاتب تقاعد من المؤسّسة العسكرية، وأتساءل عمّا إذا تقاعد من شعار المؤسسة أيضاً؟ وممّا كتب: «المأساة التي يعيشها الجنوب منذ خمسة عقود ونيّف، يعتبرها البعض حتميةً تاريخيةً تلازمت مع وجود إسرائيل على حدودنا، منذ سبعة عقود ونيّف؛ بينما تؤكد الوقائع التاريخية أنّ مأساة الجنوب بدأت عام 1969، عندما تراجع دور الدولة وجيشها عن أرضه، لصالح المنظمات المسلّحة غير الشرعية».
نبدأ بسرد الوقائع الآتية:
1- ورد في كلمة النائب كميل شمعون، في معرض مناقشته البيان الوزاري للحكومة في عام 1951، ما نصّه: «أبدأ بقضية الدفاع الوطني. نشكو من أنّ جهاز الدفاع ضعيفٌ جداً ونشعر من جرّاء ذلك بشيء من النقصان بالكرامة، ونشعر بخوف مستمرّ على حدودنا الجنوبية من تعدّي إسرائيل عليها، ولقد صرّح أحد كبار الضبّاط لي قائلاً إنه إذا حصل أي تعدٍّ من إسرائيل، فإنّه سيضطر إلى رفع يديه. مع ذلك، ما هو المشروع الذي جاءت به الحكومة لسدّ النقص الموجود في جهازنا من هذا؟ لسنا فقط مهدَّدين، بل كرامتنا غير موفورة. فعندما نجتمع بسائر الدول العربية في الجامعة، نشعر أننا أضعف من كافة الدول، وأقوى قليلاً من اليمن»(1).
2- عريضةٌ من أهالي عيناتا قضاء صور يطلبون فيها الاهتمام بهم بسبب الاعتداءات اليهودية المتكرّرة عليهم (2).
3- عرائض يطلب فيها موقّعوها لبنانيّو - التبعيّة التدخّل للتعويض عليهم بسبب حرمانهم من استثمار أراضيهم الموجودة ضمن الحدود الفلسطينية، والمحتلّة من قِبل الصهيونيين(3).
يشير الدكتور طارق المجذوب إلى أنّه «في المُباحثات بين دولتيْ الانتداب، فرنسا وبريطانيا، كانت الوكالة اليهوديّة تُشرف، إلى جانب السلطات البريطانيّة في فلسطين، على رسم هذه الحدود متراً متراً إذا صحّ التعبير، ولم يكن للجانب اللبناني أيّ وجود عند تخطيط تلك الحدود»(4).
الأطماع الإسرائيلية في لبنان - وإنْ حدّتها مصالح الدول المنتدبة - ليست متخيّلَة، فقد سبقت قيام دولة لبنان، ووجود المنظّمات المسلّحة غير الشرعية التي ذكرها الكاتب ونسيَ أن يذكر أنّ إسرائيل هي من هجّرتهم من أرضهم في فلسطين، فحملوا السلاح. كما يذكر أنه «خلال حرب 1948 بين لبنان وإسرائيل، حصل تبادل مجزرتين بين الجانبين: الأولى وقعت في قرية المالكية في تاريخ 15 أيار 1948، وقُتِل فيها 92 يهوديّاً حسب المصادر اللبنانية؛ بينما وقعت الثانية في قرية حولا اللبنانية في 30 تشرين الأول من العام نفسه وقُتِل فيها ما بين 35 و50 لبنانياً».
الاعتداءات الصهيونية على جنوب لبنان سبقت كثيراً العمل الفدائيّ فيه وعبره


في الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى (1948)، كانت المالكية (الواقعة على مسافة نصف كلم من الحدود اللبنانية - الفلسطينية) عرضةً لمعارك دموية كثيرة، بسبب طمع إسرائيل فيها. وفي ليل الخامس عشر من أيار ذلك العام، شنّت القوات الإسرائيلية هجوماً خاطفاً للاستيلاء على القرية والتلال المحيطة بها، فسارعت قوات الجيش اللبناني إلى اجتياز الحدود، حيث تصدّى الملازم أول في الجيش اللبناني محمد زغيب ورجاله للقوات الإسرائيلية، وتمكّنوا من استرداد السيطرة على المالكية(5).
الجندي إلياس إبراهيم أيوب، ابن بلدة منيارة العكّارية، كان من بين المشاركين في أولى المعارك التي خاضها الجيش ضدّ العدوّ الإسرائيلي، أي معركة المالكية. في تلك المعركة، استبسل العسكريون اللبنانيون، وحقّقوا نصراً عجزت عنه الجيوش العربية في حرب الـ48، وإثر اغتصاب العدو الإسرائيلي لفلسطين. يومها رفع الجيش اللبنانيّ راية النصر في معركة لم ينسَ إلياس أيوب أياً من تفاصيلها(6).
نسأل: هل يرى الكاتب أنّ النقيب الشهيد محمد زغيب والجندي إلياس أيوب ارتكبا في معركة المالكية مجزرةً بحقّ اليهود، أم كانا يخوضان معركة استرداد قرية المالكية من أيدي المحتلّين الصهاينة؟ فضلاً عن أنّه حرص على تأكيد عدد قتلاهم (92 يهودياً) حسب المصادر اللبنانية، ولم يرجع إليها ليؤكّد عدد الشهداء اللبنانيين المدنيّين، إذ جعلهم بين 35 و 50 لبنانياً، في حين أنّ عددهم أكثر مما ذكر!
ويضيف: «بعد انتهاء تلك الحرب، لم تحصل أحداثٌ عسكرية أو أمنية أو مجازر على جانبَي الحدود بين تاريخ توقيع الهدنة عام 1949 وعام 1969». ويسأل: «هل دخل الجيش الإسرائيلي إلى الجنوب قبل 1969؟ وهل تهدّمت منازل الجنوبيّين وتدمّرت أرزاقهم؟ وهل حصل (...)، أو أيّ اعتداء سافر على أرضه بين عامي 49 و69 (...)»؟
تصويباً لما في علم الكاتب، ننصحه بمراجعة كتاب محمود سويد «الجنوب اللبناني في مواجهة إسرائيل: 50 عاماً من الصمود والمقاومة»؛ إذ أحصى فيه 140 حادث اعتداء بين 1949 و1964.
هذا الاختلاف مع الكاتب لا نريده أن يكون خلافاً على حقيقة العدوّ الإسرائيلي الذي خبره جيداً؛ وهو ابن المؤسّسة التي خرّجت الشهيد النقيب محمد زغيب وأمثاله ممن دافعوا عن أرض الجنوب وقراه. والكاتب لن ينسى، حسب قوله، «حماسة بعض شباب (بلدة مارون الراس) من عائلات علوية، فارس... وغيرها، الذين هرعوا واضعين أنفسهم بتصرّفي للقتال، عندما حصلت معموديّتي الأولى بالنار مع العدو في مارون الراس»، وبدورنا نؤكّد أنّ هذه الحماسة هي التي يحملها اليوم أبناء من وضعوا أنفسهم بتصرّف الكاتب آنذاك. كما أنّنا نريد لهذه الروح التي كان يحملها الكاتب أن تعمّ اللبنانيّين جميعاً، فنلتقي وإيّاه في المعموديّة التي يخوضها أهل الجنوب، لنرفع عن لبنان متلازمة «إسرائيل». وليس، كما يرى الكاتب، أنّ «الأخطر في كلّ مأساة، هو إصرار بعض ضحاياها على تأكيدها كحتميّةٍ تاريخيّةٍ متلازمةٍ مع كل الأجيال، ثمّ عشقها لتصبح كمتلازمة «أمستردام»، لتبريرها والتسويق لها (...)».

* باحث أكاديمي

هوامش
(1) محاضر مجلس النوّاب اللبناني، الدور التشريعي السابع – العقد الاستثنائي الأوّل – محضر الجلسة الثالثة – 1951، موقع مركز الأبحاث والدراسات في المعلوماتية القانونية - الجامعة اللبنانية. (www.legallaw.ul.edu.lb).
(2) المصدر السابق، الدور التشريعي السادس - العقد العادي الأول سنة - محضر الجلسة الثانية – 1949.
(3) المصدر السابق، الدور التشريعي السادس - العقد العادي الأول سنة - محضر الجلسة الثالثة – 1949.
(4) المجذوب، (طارق، الدكتور)، نحو قراءة جديدة لرحلة البحث عن الحدود الجنوبيّة للبنان، مجلة الدفاع الوطني، العدد 78 – تشرين الأوّل 2011.
(5) ضوميط، ريما سليم، من المالكية إلى العديسة الجيش اللبناني في مواجهة العدو الإسرائيلي، مجلة الدفاع الوطني، العدد 349 – تموز 2014.
(6) أيوب، (جاكلين، الدكتورة)، عن معركة المالكية والجيش والوطن، مجلة الدفاع الوطني، العدد 386-387 – أيلول 2017.