عملت الإدارة الأميركية، منذ هيمنتها على منطقتنا، على متابعة المشروع الغربي القائم على تفتيت المنطقة طائفياً ومذهبياً وعِرقياً لتمكين «إسرائيل» من السيطرة. هذا ما حدث في لبنان عام 1920 حين قام الفرنسي باختراع كيان فيه الغلبة للمسيحيين، ومحاولته الفاشلة في ترسيخ الهوية المذهبية على حساب الهوية الوطنية في سوريا عبر خلق دويلات درزية وعلوية وسنية، ومن ثَم نجاح الولايات المتحدة الأميركية في احتلال العراق ولبننته وتطييف دستوره ليتحلّل العراق أجزاء متحاربة سنياً وشيعياً وكردياً!هذا هو تاريخ تدخّل الغرب خلال ما يزيد على قرن من الزمن. نجح مشروعه، إلا في ما يختص بفلسطين؛ فهذه الأخيرة بقيت الاستثناء الوحيد، إذ جمعت، عبر نضالها لتحرير أرضها، بين المسيحي والشيعي والسني الموجود على أرض عربية. وحين وقّعت بعض الأنظمة العربية اتفاقيات سلام مع «إسرائيل»، بدءاً بمصر بعد حرب أكتوبر عام 1973، استغلّ هذا الغرب المستعمر المناسبة لتحويل مسار المنطقة من توجهاتها الوطنية إلى التركيز على هوياتها الدينية والطائفية، إيغالاً في التفرقة وتهديم أي مسار للتلاقي والتلاحم الضرورين للمواجهة والتحرر.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عمدت الإدارات الأميركية إلى تسريع عملية التفتيت عبر إثارة العصبيات الدينية والمذهبية، فوضعت السني في مواجهة الشيعي. وشهدنا في المشرق العربي، مع بداية القرن الواحد والعشرين، صراعات دموية طاحنة بين هذين المكوّنين اللذين تناسيا أنهما أبناء هذه الأرض، وأن هذا الصراع لن يفيد إلا الغرب وربيبته «إسرائيل» الطامعين في أرض وخيرات هذه المنطقة ذات الموقع الاستراتيجي البالغ الأهمية، إذ إنه صلة الوصل بين الشرق والغرب.
في العقدين الماضيين، تغلّبت العصبية الطائفية على الهوية الوطنية، فدُمرت منطقة المشرق العربي بأيدي أبنائها، وتمخترت «إسرائيل» كالطاووس يطلب ودَّها من يريد إرضاء الغرب العازم على إلغاء مفهوم «الوطن القومي» واستبداله بعالم سني في مواجهة عالم شيعي.
مع «طوفان الأقصى»، وبعد مرور نصف قرن بالتمام على حرب أكتوبر 1973، ثارت غزة وقدّمت النموذج الأمثل للحمة وطنية تتخطّى الحدود الطائفية، وتقضي على كل أحلام الغرب الذي يتطلّع إلى قطف ثمار التفرقة وإلحاق المشرق العربي كتابع لمشيئته.
في الدول العربية اليوم، اختفى الفالق السني-الشيعي لتحل محلّه الحقيقة المؤلمة المتمثّلة بانسحاق بعض الأنظمة العربية «السنّية»، وتنازلها لمصلحة «إسرائيل» ووقوفها إلى جانبها في مواجهة «سنّة فلسطين». هذا الموقف يدحض افتراءات توصيف الصراع على أساس سني-شيعي، ويؤكد العلة الأصلية ألا وهي حروب الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية واستعمالنا كوقود طائفي وعرقي دائم لتسهيل عملية السيطرة. لقد نسفت غزة-فلسطين مقولة أن الصراع هو صراع سني-شيعي كما دأبت البروباغندا الأميركية على نشره وتوزيعه وإذكاء نيرانه الفتّاكة، إذ نرى دولاً عربية «سنّية» لا تقيم أي وزن لتجويع وقتل وإبادة «السنّة» في فلسطين، لا بل إن بعضها متواطئ مع «إسرائيل» ويمدّها بالمؤن والمؤازرة لتتغلّب على من ادّعت المحاربة باسمه!
أجبرتنا غزة أن ننظر إلى أنفسنا كشعب واحد بمعزل عن هويتنا الدينية، وأن نتصرّف كهيئة جامعة تحارب من أجل تحرير قسم من أرضها استولى عليه صهيوني غربي يريد إلغاء هويتنا القومية، ولن يستريح إلا بعد القضاء علينا قضاء مبرماً لأن حياته تتوقف على موتنا، والعكس صحيح.

* أستاذة جامعية